القومية والدين.. قراءة نقدية في المفهوم الغربي للقومية

الكاتب:

8 يناير, 2014 لاتوجد تعليقات

لعل أهم قضية تجاهلها الحوار الدائر اليوم حول الهوية هي علاقة الدين بالهوية. فإذا كان العالم الغربي بفلسفته الحداثية العقلانية هيمن على العالم وجعل العلمانية مسلمة النقاش المعرفي خلال عقود طويلة، فهل تعني هذه الهيمنة أن يسلِّم العرب والمسلمون اليوم بهذا الاتجاه المعرفي العلماني؟

تنبع إشكالية العلمانية الكبرى في تقاليد الفصل بين المجالات، فهناك فصل بين الدين والسياسة، وفصل بين الدين والأخلاق، وفصل بين الأخلاق والسياسة، وفصل بين الأخلاق والعلم، وفصل بين العلم والدين، وهكذا انفصالات وثنائيات كثيرة تعيشها الثقافة الغربية، الإنسان والإله، الرجل والمرأة، إلى آخره من الثنائيات المتقابلة.

أهم مجال حدث فيه هذا الفصل هو السياسة، وتقاليده في الثنائيات المتقابلة هي في ثنائية المجال الخاص والمجال العام، وثنائية الدين والدولة، وثنائية الفرد والجماعة، ثنائية الاشتراكية والرأسمالية… إلخ.

مشكلتنا اليوم تنبع كما يسميها الفيلسوف طه عبدالرحمن من تقليد المفكرين العرب للغربيين في الفصل بين المجالات، أو كما يسميها المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري هي في المفكرين المقلِّدة المردِّدة لمسلمات الحداثة الغربية في الوقت الذي تسود اتجاهات ما بعد الحداثة في الأوساط المعرفية الغربية.

يُرجع المفكرون الإسلاميون إرادة الفصل بين الدين والسياسة إلى كونها إرادة حصر الإنسان على الجانب المادي فقط، وإلغاء الجانب الروحي من عالمه، والإنسان مزدوج الوجود في عالم مرئي وعالم غيبي، وهذا واقعه، والعلمانية عندما تريد حياة ذات بعد واحد فهي تعاكس حقيقة وواقع الإنسان الذي يعيش في عوالم متعددة وليس في عالم واحد فقط. فالنظرة العلمانية تريد فصلا بين عالم الإنسان الجسماني المرئي وعالم الإنسان الغيبي الروحاني.

ولكي تملأ العلمانية هذا الفراغ الروحي في الإنسان الناتج عن الفصل بين عالمي وجوده؛ فإنها تقوم بتقديس قيم علمانية لتكون هي “الغيب” في شعور الإنسان. فترحل هذه القيم من عالم مادي إلى عالم غيبي لتصبح “غيبيات العلمانية”.

فكيف انعكست هذه الهيمنة العلمانية على صلب نقاشنا في الهوية والقومية؟

في تدوينة سابقة ذكرت أن المفكر برهان غليون يضع العرب والمسلمين اليوم بين اتجاهين في تعريف الذات، اتجاه ديني يرى أن القومية تبع للدين، وبين اتجاه علماني “دهراني” يجعل تعريف الذات في الدولة الحديثة قومية منفصلة عن الدين.

وغني عن القول أن فكرة القومية كما هي حاضرة اليوم في النقاشات ليست بفكرة نابعة من فلسفتنا العربية الإسلامية، بل هي فكرة وافدة من الغرب، وإشكاليتها ليس في كونها من الغرب فحسب وبالتالي مساءلة ملاءمتها لثقافتنا، بل في كونها تحمل مضمونا علمانيا، فدعوى هذا المقال أن القومية بوصفها فكرة غربية هي بالضرورة فكرة علمانية.

فتاريخيا؛ كان نشوء القوميات الأوروبية بعد اختراع الطابعة عبر تعميم لغات محلية في باريس ولندن على سبيل المثال، مقابل اللغة الدينية لغة الكتاب المقدس اللاتينية المسيحية، التي تُعد جذر غالب اللغات الأوروبية الحديثة.

فبشكل ما يمكن القول أن أحد عوامل نشأة القوميات الأوروبية هي في التمرد على لغة النخبة اللغة اللاتينية، والمرتبطة بالكنيسة كونها المصدر المحتكِر لتعريف الحقيقة، وهي بذلك تزامنت مع نشأة الحركات الدينية التصحيحة الكالفنية واللوثرية، التي نتج عنها المذهب البروتستاتني عند الجرمان. وفي السياق نفسه إرادة ملك إنجلترا التحرر من سلطة الكنيسة التي كانت هي السلطة المهيمنة على أوروبا، ثم قيام الجمهوريات الملكية التي وضعت الكنيسة والدين تبعا لسلطة الدولة.

وعندما يناقش بندكت أندرسون القومية ويعرفها بأنها “جماعة متخيلة” يجعل من الأمة الدينية جماعة متخيلة أيضا، ولكنها انتهت في أوروبا بنشوء الأمم الحديثة وانقسام أوروبا إلى قوميات مختلفة. ونعدُ هذه الانقسامات لم تكن على أساس اللغة فحسب، بل كان انقساما على أساس مذهبي، فأصبحت قوميات طائفية يمكن تصورها تاريخيا ونظريا كالهوية البريطانية وعلاقتها بالكنيسة الأنجليكانية أو الهوية الأميركية وعلاقتها بالبروتستانتية. فالطائفية مفهوم حديث نشأ مع نشوء الدولة الحديثة نفسها، فالطائفية والحداثة متلازمتان بالضرورة في سياق القومية الغربية. فالدين يصبح عاملا جزئيا من عوامل الهوية وليس هو المكون للهوية، وهذا أشبه بما يطرحه مفكرون قوميون كساطع الحصري أو ميشيل عفلق عن كون الإسلام أحد مكونات الهوية الثقافية العربية، علاقة جزء بكل وتابع لمتبوع وفرع بأصل، وبالطبع فالمقصود أن الأصل هنا هو العروبة، ثم الإسلام جزء منها، وليس العكس.

أندرسون يقول بوضوح أن “القومية تنافس الدين” ويؤيده عزمي بشارة في ذلك، وأنّ نشأة القومية كانت مع “تآكل اليقينيات الدينية”، ولا توجد إمكانية لتخيل أمة قومية إلا حين تفقد الأمة ثلاثة تصورات جوهرية، أولها وأهمها هو “أن تزول تلك اللغة التي تُعد هي الأداة للنفاذ والوصول إلى الحقيقة الوجودية”، فتلك اللغة تصبح “جزءا لا يتجزأ من تلك الحقيقة”. وضرب مثالا بذلك بأمة الإسلام كونها تحمل اللغة العربية المقدسة التي تشكل أداة للوصول إلى الحقيقة. بل يزيد أندرسون على ذلك أن اللغة العربية لغة مقدسة لا حدود لها. وحين يلتقي مسلم من أقصى الشرق مع مسلم من أقصى الغرب فإن “العربية هي القاسم المشترك الذي يتفاهمان من خلاله”. ونحن نستطيع تصور أو تخيل حدود الأمة الإسلامية سواء عبر التعريف الفقهي المعروف تاريخيا أو واقع الأمة الإسلامية اليوم.

فأحد أهم الفروقات عند أندرسون بين الجماعات الحديثة وبين الجماعات القديمة هي في كون الجماعة القديمة تتميز بأمرين: الأول متعلق بقدسية وتميز لغتها، والآخر في إمكانية انضمام الأعضاء إلى الجماعة.

ويبدو عزمي بشارة مدركا لهذه الإشكالية في السياق العربي، فاللغة المقدسة هي اللغة العربية، وهي مصدر ما يسميه اختلاط المتخيل العلماني بالدين، لكن يحاول تجاهل هذا الأمر عبر قوله أن العربي لا يلتقي مع المسلم اليوم إلا من خلال الحج والأعياد فحسب.

وبالطبع فإن في ذلك تجاوزًا كبيرًا لحقيقة الشعور بالانتماء الإسلامي لدى المسلمين اليوم، فإذا كان عزمي بشارة يؤكد قول أندرسون في كون الرابطة القومية رابطة أخوية رفاقية، ورابطة محبة ووجدان واستعداد للتضحية ومنح معنى للموت؛ فإن هذا البعد العاطفي الوجداني أكبر من أن يتجاهله المرء في واقع المسلمين وحصره في الأعياد والحج، وإثبات ذلك أشد وضوحا من الشمس في رابعة النهار.

هذه الرابطة الوجدانية والعلاقة الوطيدة بين الإسلام والعربية هي ما يدفع مفكرين غربيين بالقول أن الإسلام هو قومية العرب، وتخصيص العرب هنا من دون غيرهم من المسلمين كون اللغة نفسها هي لغة الإسلام وتحمل في مكنونها رموزا دينية لا يمكن تجاهلها.

وقد يعترض من يعترض أن تعريف بندكت أندرسون ليس ملزما لنا، وهذا صحيح فالمقال يصب في هذا الاتجاه أصلا، ولكن أهمية إيضاح تعريف أندرسون للقومية تأتي لأسباب احتضان عدد من القوميين العرب لهذا الكتاب، بل كان كاتب المقدمة في الترجمة العربية لكتاب الجماعات المتخيلة هو المفكر العروبي عزمي بشارة، ومع أن بشارة حاول أن يستبق على نفسه قبل أن يسلم بتعريف أندرسون أن يستشكل جدوى التعاريف عموما.

فالهدف من هذه المقالة ليس رفض “العروبة أو القومية” فليست العبرة بالأسماء، بل العبرة بما تدل عليه المفاهيم والأسماء والمصطلحات، فكلمة قوم حاضرة في القرآن في عشرات المواضع، ولذا كان المقال يهدف إلى نقد مدلولات هذه المفاهيم التي لا تنتمي إلى مجالنا التداولي، ومن ثم التحيز إلى مدلول هو ألصق بنا من مفاهيم مستوردة. والمقصود بالمجال التداولي هو تلك المبادئ العقدية واللغوية والمعرفية التي تصاحب وجود القوم وسلوكهم كما يعرفها طه عبدالرحمن.

وهذا ما يجعلنا ندفع بالقول أن الإسلام والعروبة لا ينبغي فصلها ولا يمكن فصلهما لما بين العروبة والإسلام من تداخل كبير، فلا ينبغي الفصل؛ كون الفصل هو تقليد علماني غربي محملا برؤية الإنسان للكون والإله والطبيعة والمعرفة. والإسلام دين يحمل هذه الحقيقة في تصور الوجود. ولا يمكن فصلهما بسبب أن واقع اللغة العربية هي في كونها لغة مقدسة بحد ذاتها فهي لغة القرآن الكريم، وواقع العرب اليوم أنهم مسلمون بغالبيتهم، ومنتمون للثقافة الإسلامية بمجملهم ويشمل ذلك المسيحيين.

ويمكن على سبيل المثال لا الحصر تطبيق معنى صعوبة الفصل بين العروبة والإسلام في تعريف من العربي؟ فالحديث المأثور عن المصطفى (ص) يعطينا تعريفًا للعربي بأنه كل من تكلم العربية. وليس مجرد النطق بالكلمات هو المحك، فالكلام باللغة محمّلا بالانتماء والرؤية الوجودية، ولذا رأى بعض الفقهاء أن تعلم العربية واجب على كل مسلم، فعلماء الإسلام ومشاهير اللغة العربية لم يكن كثيرٌ منهم عربا لأنهم من عرق أو قبيلة عربية، لكنّهم تكلّموا العربية وهم مسلمون فأصبحوا عربا بهذا المعنى.

الهوية في ذاتها تحمل بعدا قيميا أخلاقيا، وتعريفنا لهويتنا وقوميتنا اليوم يجب أن يتلازم مع تحديد مرجعية القيم والأخلاق، فما مرجعية العرب القيمية من دون الإسلام؟ وكيف يمكن تعريف العرب بالقول أنهم جماعة سياسية فقط، وتحمل العبارة “فقط” مضمون الفصل بين السياسة والثقافة والأخلاق والقيم، فالجماعة العربية تصبح هكذا بلا مضمون قيمي، فما الذي يحدد ضابط المحبة الوجدانية بين عربي وعربي؟ فإذا كان شعار العربي قبل الإسلام انصر أخاك ظالما أو مظلوما فإن الإسلام أتى ليغير هذا المفهوم ويعطيه بعدا أخلاقيا متعاليا بقوله انصر أخاك مظلوما، وانصره ظالما بأن تكف يده عن ظلم الآخرين. وإذا كانت القومية تحمل في مضمونها بعدا أنانيا في التعامل مع الآخر غير العربي، فإن الإسلام أعطى قيمة أخلاقية وجودية في التعامل بشعار أحب لأخيك ما تحب لنفسك. والأخوة هنا معنى واسع يشمل المسلمين جميعهم بل يرتقي لكل البشرية الموصوفة قرآنيا بالكرامة الآدمية.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق