الخصخصة ليست الحل

الكاتب:

6 يناير, 2014 لاتوجد تعليقات

يشتكي المواطن كثيرًا من سوء الخدمات المقدمة له في القطاعات الحكومية أو العامة، ونسمع كثيرا أيضًا أن هناك من يقترح الخصخصة بوصفها حلا أو جزءًا من حل أساسي لسوء الخدمات المقدمة، لو قمنا بتحليل هذه الفكرة نجدها تحوي تناقضات عدة ابتداء من كونها قد تتعارض مع مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها, بالإضافة إلى إقرارها بوجود خلل أو قصور في الخدمات الحكومية العامة المقدمة للمواطنين, كما أن الطرح الفضفاض يفترض أن الخصخصة لها شكل واحد فقط.

يمكن تعريف الخصخصة بأكثر من صورة ومن أبرز السمات التي ترد في غالبية التعريفات “تحويل ملكية أو إدارة أو تشغيل المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص محلي أو أجنبي سواء شركات أو رجال أعمال, إما جزئيا أو كليا, من خلال تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص بالاعتماد على آليات السوق مقابل التخلص من البيروقراطية”. فالخصخصة غالبا تقتضي تحرير السوق وإزالة جميع أنواع القيود. حسب التعريف السابق للخصخصة نجد أنها قد تأخذ أكثر من شكل بين التحول الكلي أو الجزئي, أو انتقال الملكية لمؤسسات محلية أو أجنبية أو أفراد، في حين ما هو حاصل فعليا في حالة اقتصادنا الريعي فإن الخصخصة تأخذ صيغة واحدة فقط تتمثل في تحويل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص في مجال يصح وصفه بغير المفتوح بانتقالها من الدولة لطبقة محددة طفيلية ذات نفوذ ورأسمال ضخم لها علاقة مباشرة نفعية مع صاحب القرار. مما يعني أن التحول هنا هو عبارة عن إعادة توزيع صورية للأدوار بين الدولة وفئة معينة فقط دون أن يكون للمواطن العادي دور فيها مما يعني أن العائد الاستثماري من هذا التحول محصور في أيدي الطبقة الطفيلية دون غيرها وهذا يتعارض مع فتح الفرص على نسق متساوٍ أمام الجميع ويعيق تحقيق المصلحة العامة. نجد أن المناقصات والعقود الضخمة دائما ما ترسو على مجموعة محدودة من الشركات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وما يترتب على ذلك من مزيد من تكريس الثروات في أيدي فئة محدودة على حساب إفقار البقية من أصحاب المؤسسات الصغيرة نظير حرمانهم من هكذا عقود ومناقصات. وهذا ما يشكل عائق في عملية الانتقال للأسواق الحرة؛ لأنه يتنافى فعليا مع مبدأ حرية الدخول إلى السوق. ومن الصور الأخرى للخصخصة أن تُباع منشأة ما بسعر بخس وبعقود باطنية مسبقة الترتيب, يقوم المشتري بعدها وهو غالبا ما يكون من أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال الضخمة بإعادة استثمار ما اشتراه عن طريق طرحه للاكتتاب بأسعار تفوق ما دفعه، وهذا الشكل أيضا يساعد على تركز رؤوس الأموال في أيدي طبقة معينة مقابل حرمان الطبقات ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة. وسواء تم التحول بأي من الصيغتين السابقتين؛ فإنه يفتقر للعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات.

واقعيا نجد أن من يثني على الخصخصة هم أصحاب رؤوس الأموال الضخمة المنتفعين من التحولات والمناقصات في حين يذمها المواطن صاحب الدخل المنخفض بل حتى صاحب الدخل المتوسط. وبالنظر إلى أسباب تباين المواقف هنا نجد أن الأول يتكلم عن رفع مستوى الاقتصاد الوطني في حين هو فعليا يتكلم عن مصلحته الشخصية في عملية تكريس رأسمالية واحتكارية تتحقق بتعظيم ثرواتهم أما صاحب الدخل المتوسط أو المنخفض يأخذ موقفًا معاديا للفكرة لأنه يدرك دوره المهمش بصفته مستثمرًا في الانتقال وانعكاس هذا الانتقال عليه عاملا، الذي قد يصل لفقدانه مصدر رزقه ووظيفته، نظرا لغياب النقابات العمالية أو المهنية التي تتمكن من الدفاع عن حقوقه، ولغياب الدور التنموي أو المشاركة الاجتماعية لمؤسسات القطاع الخاص لدينا وإن كان هذا الدور يسير في تحسن مقابل تحقيق بعض المصالح إلى أنه يحتاج لمزيد من العطاء دون النظر إلى المردود الربحي من بعده. و كتب د. عبدالعزيز الغدير في عام 2011 مقالا بعنوان “الخصخصة والخشية من رأسمالية النخبة وثقوب وامتصاص الأموال” طرح فيه بعض الحلول لتجنب سلبيات الخصخصة عن طريق رفع كفاءة الهيئات المنظمة للأسواق التي ستُخصخَص لتخفيف العبء عن ميزانية الدولة وتوفير فرص عمل جديدة بما يرفع مستوى المعيشة وإلا فأن رأسمالية النخبة ستسود لتدمر الاقتصاد والمجتمع.
الدور المنوط بالمؤسسات بقطاعيها العام والخاص يمتد ليشمل الاستثمار في الثروة البشرية عن طريق المشاركة في الإسهام العلمي من خلال مراكز البحوث والتطوير والتدريب في مجال عمل المؤسسة على أقل تقدير، وهذا ما نفتقر إليه في مؤسساتنا الحكومية والأهلية منها نظرا لتكلفته العالية في مقابل طول المدة اللازمة لتغطية هذه التكلفة وتحقيق العوائد وفي ظل طمع التجار وجشعهم وعدم وجود نظرة مستقبلية طويلة الأمد من ناحية أخرى, كما أن المشاركة في تنمية المجتمع تعد واجبًا في مقابل الاستفادة من موارده وتتم هذه المشاركة المجتمعية بعدة أوجه منها التبرع المادي أو العيني لصالح مشاريع وبرامج معينة. وكما هو معلوم فإن إحدى مشاكل اقتصادنا هي اعتماده على مصدر واحد رئيس للدخل؛ فإن الخصخصة تقلل من فرص البحث والتوسع الاقتصادي كما يقول المفكر العربي الدكتور جورج قرم “من المعلوم أن القطاع الخاص العربي لا يكرس نسبة ملموسة من أرباحه إلى الأبحاث والتطوير وتدريب القوى البشرية العاملة لديه, وهما عنصران أساسيان في إرساء مقومات نهضة إنتاجية شاملة تحتاج إليها معظم الاقتصادات العربية”.
أكثر الأسباب الشائعة التي تستدعي اللجوء للخصخصة اقتصاديا يمكن حصرها في دخول الدولة في أزمة مالية, رفع مستوى الاقتصاد الوطني, زيادة استثمار مدخرات المواطنين في الداخل وجلب أموالهم من الخارج أو في حال تعذر إجراء إصلاح حقيقي أو لتفريغ الدولة لأداء مهام أخرى لا يستيطعها القطاع الخاص. بما أن الظروف الاقتصادية متغيرة فما يصح تطبيقه لفترة قد لا يصح في فترة أخرى وعليه فإن الشكل الأكثر مرونة للخصخصة بحيث تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية بحيث تكون مشروطة بمدة معينة, أن لا يُسرَّح العمال أو يُستَغنى عن خدماتهم مقابل استبدال عمال آخرين بهم, البقاء على نفس سلم الأجور قبل التحول أو تحسينه, تملكهم لنسبة معينة من أسهم المنشأة في حال طرحها للمساهمة العامة فيتحول العمال إلى ملاك مما يساعد على تحفيزهم للعمل وزيادة إنتاجيتهم. نشأت الخصخصة في اقتصادنا بصورة مبررة رد فعل لمرحلة تغيرات, بدأت في بداية التسعينيات الميلادية بما شهده الاقتصاد من متاعب مالية نتيجة تأثير حرب الخليج وما تبعها من انخفاض في سعر برميل النفط المصدر الذي يشكل نسبة ضخمة من الناتج المحلي الإجمالي وما لحقه من عجر في الميزانية التي يخصص جزءًا كبيرًا منها للرواتب والأجور حتى وصلت الحال لدرجة عجز الدولة عن القيام بدورها في توظيف مواطنيها لغياب التناسب بين الزيادة في عدد السكان والوظائف المتاحة في قطاعات الدولة مقابل دفع الأجور لهم, وتكرر انخفاض سعر برميل النفط في نهاية التسعينيات أيضا, وعليه طُرحت فكرة الخصخصة باعتبارها حلا لمواجهة هذا المخاض بتحويل المواطنين نحو وظائف في القطاع الخاص للتقليل العبء على ميزانية الرواتب التي تدفعها الدولة.
في عام 2002, أي قبل 11 عاما, أعلنت المملكة عن خصخصة 20 قطاعا اقتصاديا لمعالجة عجز الميزانية حينها. شملت تلك الخصخصة الخدمات العامة صحية واجتماعية, وبيع أسهم شركات حكومية كشركة الكهرباء السعودية, وفتح المجال للقطاع الخاص وقتها في المشاركة في قطاعات جديدة كالاتصالات وتحلية المياه والخدمات الجوية وإنشاء الطرق وتكرير النفط. وعندما نعكس الأسباب السابقة على اقتصادنا في الفترة التالية للقرار من خلال إلقاء نظرة سريعة على الميزانية بمقارنة الإيرادات والمصروفات بين الأعوام 2003 وحتى 2012 نجد أنه أصبح لدينا فائض بوصفه رصيدًا متراكما من 45 مليار إلى 2146 مليار, أي لا وجود لعجز حسب الأرقام المعلنة. كما أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في تراجع ووصلت إلى 3.6% في عام 2012. بالإمكان الرجوع إلى إحصائيات وزارة المالية, مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات ووزارة الاقتصاد لقراءة الأرقام بالتفصيل. في ظل انخفاض الدين العام وفي ظل وجود فائض في الميزانية, بعد قراءة الأرقام السابقة حري بنا أن نسأل هل كان التخصيص مشروطًا أو مقيدًا بمدة معينة ليُتراجَع عنه أو يُعدَّل حسب ما يقتضيه الوضع والمصلحة, ولأن الجواب يأتي بالنفي فيصح طرح السؤال التالي : ما الفائدة التي تحققت للمواطن من هذا التحول إذن؟ وإذا اتفقنا على أن المشكلة الاقتصادية الموجودة لدينا فعليا محصورة في محورين أساسيين هما الاعتماد على النفط الناضب بصفته مصدرا أساسيا للدخل وهوموضوع كتب الكثير عنه وليس هو الموضوع في هذه المقالة، أما المحور الآخر فهو البطالة حيث إن الزيادة في عدد السكان لا يقابلها توفير فرص وظيفية كما أن تمسك أصحاب المناصب بكراسيهم وتجاوزهم لسن التقاعد يساهم في تقنين إعادة تدوير الفرص. والخصخصة بشكلها الحالي لا تساهم في حل أي من هذين المعضلتين.
أشرنا سابقًا أن أحد عوائق تطبيق الخصخصة لدينا هو احتكارها في يد طغمة معينة في حين أن التطبيق الصحيح يهدف إلى فتح المجال للمواطنين بصورة متساوية للمشاركة في التنمية الاقتصادية, وتخفيف العبء على ميزانية الدولة, وتحسين الطاقة الإنتاجية, وجذب رؤوس الأموال, وتحسين مستوى الخدمات المقدمة ودعم حرية السوق بالحد من تغول الدولة في النواحي الاقتصادية. أما لو فتحت السوق واتيحت حرية الدخول للجميع فإن من النتائج التي ستتحقق إيجابا من الخصخصة علاقتها بفك الاحتكار وتأثير ذلك في مستوى جودة الخدمات أو الأسعار. فالاحتكار عادة يصاحبه ارتفاع في تكاليف التشغيل وعدم تركيز على الجودة, في حين أن المنافسة تجعل الهدف مختلف للحصول على أعلى حصة سوقية من العملاء عن طريق جذبهم بمستوى عالٍ من الجودة وأسعار منخفضة بالاعتماد على التقدم التكنولوجي. لذلك أجدني أميل إلى الخصخصة بشرط ألا تطبق على كافة القطاعات لتصل إلى الأساسيات من تعليم وصحة، وإنما تتكفل الدولة في إصلاح مخرجات هذه القطاعات, وأن تكون هذه الخصخصة مشروطة لا تصل مخاطرها لفقدان القوى العاملة لوظائفها وألا تكون خصخصة للطبقة الطفيلية وإنما خصخصة تحولنا لسوق حرة منافسة غير محتكرة يتاح فيها المجال لكافة المواطنين, تركز على الجودة في مقابل خفض السعر النهائي على المستهلك.كما أنه تجدر الإشارة إلى أنه إذا تمت الخصخصة بشكل ناجح فإنها على المدى الطويل قد تساعد في خفض معدل البطالة بخلق فرص وظيفية جديدة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق