استثنائية هيفاء المنصور و فشل “وجدة”

الكاتب:

25 ديسمبر, 2013 لاتوجد تعليقات

يقول هيرمان كاريّو– أحد أساتذتي في جامعة جورج واشنطن– بأن الفنان، بمجرد أن يضع قلمه على الورق، أو ريشته على اللوحة، يتقبل مسؤولية صنع المشكلة و الحل. أول سطر في رواية أو قصة قصيرة، مطلع قصيدة، المشهد الافتتاحي لفيلم، أول أنغام معزوفة ما… أي من هؤلاء يمثّل عقداً بين الفنان و المتلقي، بحيث يقوم الفنان بدور الدليل و المرشد في رحلة إلى عالم محكم الصنع. حين ننظر إلى هذا “العقد” بين الفنان و المتلقي، سنجد أن الفنان يقوم بتحديد “مشروع” لعمله، ثم يقوم المتلقي بالحكم على العمل الفني من خلال المعايير التي حددها الفنان في هذا المشروع. كمثال، يمكننا أن نقول بأن “مشروع” رواية مدن الملح لعبدالرحمن منيف هو توصيف أثر اكتشاف البترول–تدمير أنماط عيش قديمة، جشع، استغلال، الخ– على أهل منطقة معينة. كما يمكننا القول بأن “مشروع” حَلَقة “ليبراليين…و لكن” من برنامج طاش ما طاش هو كشف سطحية بعض المثقفين المزعومين في السعودية، خاصة حين تتصادم المباديء بالمصالح الشخصية. و هكذا، فكل عمل فني، و خصوصاً إذا كان عملاً سردياً كالرواية أو القصة أو الفيلم، يحدد لنفسه مشروعاً، ثم يقوم بمعالجة المشكلة التي يطرحها. و على أساس هذه المعالجة يتم تقييم مدى نجاح العمل الفني.

منذ أشهر و نحن نسمع عن فيلم “وجدة” للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، و نسمع عن تبنّي الحكومة السعودية له. في هذه الأيام، و نحن على أعتاب نهاية العام الميلادي، يشتغل نقاد الأفلام في أمريكا و أوروبا بإعداد قوائم الأفلام الأفضل للعام المنصرم. نحن في موسم الجوائز، حيث أُعلنت الأفلام المرشحة لجوائز Golden Globes و عدد من جوائز النقاد في المدن الأمريكية المختلفة، في انتظار إعلان ترشيحات جوائز الأوسكار عمّا قريب. فاز فيلم وجدة بالعديد من الجوائز، كجائزة نقاد سان فرانسيسكو لأفضل فيلم أجنبي، كما أن العديد من النقاد اختاروا الفيلم من ضمن قوائم أفضل أفلام ٢٠١٣. كل ما قرأت عن جائزة جديدة أو مقال جديد لناقد آخر يتغنى بفيلم “وجدة”، يتبادر إلى ذهني سؤال: هل نال فيلم “وجدة” كل هذا الإطراء لأنه عمل فني نجح بمعالجته للمشروع الذي حدده؟ أم نال كل هذا الإطراء لسبب آخر يتعلق بكونه أول فيلم يتم تصويره في السعودية، وأن المخرج امرأة سعودية؟

من أجل أن أبدأ بالإجابة على هذا السؤال، لا بد أن ننظر للفيلم نفسه. ما هو “مشروع” فيلم وجدة؟ يفتتح الفيلم بمشهد في مدرسة للبنات، حيث تقوم مجموعة من البنات– كلهن يرتدين لباس المدرسة الموحد ذا اللون القاتم– بترديد أنشودة دينية. لا تفعل المعلمّة أكثر من تشغيل مسجل، ليعلو صوت المنشد (الرجل)، فتردد الطالبات كلمات الأنشودة خلفه. تنهر المعلّمة طالباتها وتأمرهن بأن “تلزم كل بنت مكانها.” تهبط الكاميرا إلى مستوى أقدام البنات، حيث نرى بحراً من الجوارب البيضاء و الأحذية السوداء المتطابقة، ثم لا يلبث هذا البحر أن ينشق لنرى زوجاً من الأحذية المختلفة مزيّناً برباط بنفسجي مختلف. هذا حذاء وجدة، و رباطها البنفسجي يشير إلى تميزها عن أخواتها، فوجدة تلك الأنثى السعودية الاستثنائية التي استطاعت أن توجد لنفسها مساحة صغيرة على جسدها–رباط حذاءها فحسب– لتعبّر من خلاله عن شخصيتها، عن فردانيتها و استقلالها. حركة الكاميرا تشير إلى أن هذا التعبير هو ما يدعو المعلّمة لتوبيخها. تستدعيها المعلمّة إلى مقدمة الفصل و تطالبها بأن تُسمّع أول بيتين من الأنشودة، إلا أن وجدة تظل صامتة. بعد لحظات من الصمت–يقطعه صوت خافت أشبه بالنحيب من إحدى الطالبات– تقول لها المعلّمة: “إذا ما تبين تسمّعيننا صوتك، تحركي!” طاردة وجدة من صف الطالبات. ينتهي المشهد الافتتاحي بمنظر معبّر: وجدة تقف لوحدها في فناء المدرسة… تقترب الكاميرا من قدميها، ليرى المشاهد من جديد أربطة الحذاء البنفسجية المعبرة عن روح وجدة المتمردة، ثم تعود الكاميرا إلى الوراء ليتسنى لنا رؤية الشمس الحارقة فوق رأس وجدة، و نرى أشعة الشمس تنعكس من على سور المدرسة المعدني الذي يشبه قضبان السجن.

من خلال هذا المشهد الافتتاحي، تقرر المخرجة هيفاء المنصور مشروع عملها الفني. يرى المتلقي كيف أن الفتاة/المرأة السعودية التي تريد أن تعبّر عن نفسها بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة سوف تواجه مشكلات، و تتعرض للمساءلة والعقوبة بل و ربما الطرد و الرفض. فبالتالي يستعد المتلقي لرحلة تكون فيها المخرجة هيفاء المنصور هي الدليل و المرشد التي ترينا عالم وجدة محكم الصنع– لترينا أسباب قمع الفتاة/المرأة . فهل كان عالم وجدة محكم الصنع فعلاً؟ كيف عالجت هيفاء المنصور المشكلات التي أشارت إليها في المشهد الافتتاحي؟

تغنى الكاتب فهد الأسطاء في مجلة المجلة بنص “وجدة،” حيث قال:  “بدا النص متماسكا بإيقاع جيد وسهولة ملحوظة في التنقل بين خيوط الاحداث وهو ما يعكس ربما الجهد الطويل والمبذول في كتابة النص لسنوات.” في الحقيقة لا أعلم ما هي المعايير التي استخدمها الأسطاء في حكمه… هل أخذته الحماسة كون هذا الفيلم السعودي وجد قبولاً عالمياً، أم أنه لا يملك الأدوات التي تمكنه من النقد الفني للحبكة؟ فمن يدقق في حبكة الفيلم سيجد أن السردية عبارة عن سلسلة من الحوادث العشوائية (non-sequiturs) التي لا يتبع أحدها الأخر. لا توجد سببية في عالم وجدة–في الأحداث المحيطة بسعي وجدة لنيل دراجتها–و هذا بحد ذاته ليس عيباً، فقد توجد نصوص تستدعي هذا النوع من الحبكة. رواية Cloud Atlas للأيرلندي دافيد متشل–على سبيل المثال– تتطلب سردية كهذه لأن “مشروع” عمله الفني يتعلق بالتلاعب بالتسلسل الزمني، و لذا كان مناسباً أن يتخلى– أحيانا– عن تتابع الأحداث و عن السببية. أما في فيلم “وجدة،” فلا يوجد مبرر لاتباع هذا الأسلوب. بل لم توظفه هيفاء المنصور إلا من أجل أن تتمكن من إقحام نفسها في السردية لتشير إلى كل المظاهر التي تعتقد بأنها مسببات وضع المرأة السيء في السعودية: زواج القاصرات، تعدد الزوجات، قمع المديرة (ذات الأخلاق السيئة سراً) للطالبات و إجبارها لهن على سلوكيات معينة، الإرهابي الذي يمارس الإرهاب من أجل الظفر بال٧٢ حورية (ليس للإرهابي أي أهداف سياسية على ما يبدو)، إلخ. كل هذه تظهر فجأة و بدون مقدمات أو مسببات ثم تختفي. هذه هي الطريقة التي مارست فيها هيفاء المنصور دور المرشد أو الدليل في عملها الفني، و هو أسلوب يفتقد للرشاقة و المهارة و يقترب كثيراً من الوعظ بطريقة ركيكة و مرتبكة و خالية من الحس الفني. و أظن أن أي ناقد حقيقي للأفلام سيرى هذه العيوب بوضوح شديد. بل قد أشار بعض النقاد بالفعل إلى هذه العيوب، فكريس هيويت يرى أن سيناريو المنصور “الأرفل” لم ينقذه إلا إبداع الممثلة وعد محمد (و قد أبدعت هذه الممثلة الواعدة فعلاً). فيما يرى الناقد إكناتي فشنفتسكي بأن “الحوارات عن زواج القاصرات و العمليات الانتحارية تبدو مُقحمة، كما لو أن المنصور أنهت كتابة السيناريو ثم تذكرت أنها تريد أن تشير إلى هذه القضايا في آخر لحظة،” و يرى كذلك أن الذي يستحق الإعجاب في الفيلم هو إبداع الممثلة اليافعة وعد محمد. و لهذا، فكون أن الفيلم يعاني من هذه العيوب الفاضحة، فلماذا تسابق النقاد لمدح الفيلم و إغراقه بالجوائز؟ ما الذي نال إعجابهم: الفيلم أم القصة التي وراء الفيلم… قصة المخرجة السعودية التي تعيش مع زوجها الأمريكي في البحرين و كافحت لتصوير فيلمها الشجاع في شوارع الرياض لتكشف تخلف مجتمع رجعي…. ذلك الحلم الامبريالي المثير الذي وصفته الناقدة غاياتري سبيفاك برغبة الرجل الأبيض بإنقاذ المرأة الملونة من الرجل الملون.

و هنا تأتي العلة الأخرى التي يعاني منها فيلم وجدة: فحين أفسحت هيفاء المنصور المجال لنفسها بأن تتدخل في السردية و تشير كلما اشتهت–بطريقة تعطّل و تلغي تناسق الحبكة– إلى كل الممارسات الاجتماعية التي ترى أنها سبب معاناة النساء في السعودية، فقد وجهت كل أسهمها إلى “المجتمع،” فالمجتمع هو الذي يضطهد و يقمع و هو الذكوري و هو الذي يحتاج إلى الإصلاح. ماذا عن الدولة؟ هل تقمع الدولة في عالم “وجدة”؟ هل تضطهد؟ كلا، فالمشهد الختامي للفيلم يوضح المكان الذي تشغله الدولة في عالم “وجدة”: بعد أن تركب وجدة دراجتها الخضراء (اللون الوطني) التي طالما حلمت بها، نرى حافلة مزينة بعلم السعودية ووجوه رموز الوطن و قادته بجوار عبارة “دام عزك يا وطن” (و لعل من دهاء المخرجة أن هذه الإشارات باللغة العربية، حتى لا يستشعر جمهورها الأمريكي/الأوروبي تملّقها للدولة). تمر وجدة بجوار هذه الحافلة التي تتوقف عندها الكاميرا لبرهة قبل أن تلحق بوجدة التي سبقت جارها و صديقها عبدالله، مثبتةً مكانتها كأنثى سعودية متميزة، قبل أن تتوقف عند تقاطع مع الطريق السريع. تتوقف هنا وجدة و تنظر حولها ثم تبتسم، فالخطوة القادمة، الانتقال إلى الطريق السريع، ليست بالهيّنة، و تحتاج المرأة السعودية الاستثنائية إلى الدولة–ذلك الجهاز المتحضر الرحيم– ليساعدها على تجاوز تخلف “المجتمع” من أجل أن تتمكن من ترك دراجتها و ركوب سيارة تمكّنها من عبور هذا الطريق السريع.

بطبيعة الحال، لا يحتاح المرء للكثير من الذكاء ليستنتج أن هذه المعالجة لمشكلات المرأة السعودية هراء محض. “المجتمع” لا يملك أجهزة تراقب و تعاقب الآخرين. “المجتمع” لا يملك سجون و لا يصدر مراسم و أنظمة. “المجتمع” لا يملك السلطة لإصدار تصاريح لمؤسسات مثل الجمعية السعودية العربية للثقافة والفنون التي تقدمت بترشيح الفيلم للأوسكار. تقول مضاوي الرشيد في كتابها A Most Masculine State بأن الدولة اتجهت في أعقاب أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ إلى ترويج صورة “المرأة السعودية الاستثنائية”– امرأة استطاعت أن تتميز رغم قمع “المجتمع” (وليس الدولة) و هضمه لحقوقها. هذا أنتج نماذج متناقضة كمنال الشريف، التي نالت جائزة ل “المعارضة السياسية،” في حين أن منال الشريف–التي لم تمارس يوماً معارضة سياسية– تلوم شبح جهيمان العتيبي و تراه هو الذي يقمع فيما تبريء الدولة. هيفاء المنصور إحدى هؤلاء اللواتي يجسدن “المرأة السعودية الاستثنائية” التي تحاول الدولة أن تدعمهم، و بالفعل فقد صرّح سلطان البازعي رئيس الجمعية السعودية العربية للثقافة و الفنون بأن “كل الجهات الرسمية في السعودية باركت الترشيح وأيدت الفيلم.” فيالشجاعة هذه المخرجة: تحصل على تأييد كل الجهات الرسمية على فيلمها الذي يلوم “المجتمع” و يتهمه بالقمع، ثم تذيّل فيلمها بشكر لصاحب السمو الملكي الأمير الوليد بن طلال. إن هيفاء المنصور بالفعل نموذج مبهر ل “المرأة السعودية الاستثنائية.”

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق