وسائل التواصل أم التشكل الاجتماعي: جندرية وسائل الاتصال

الكاتب:

25 أكتوبر, 2013 لاتوجد تعليقات

مع اقتحام الانترنت عالمنا، وجدنا أنفسنا نبتعد قليلًا عن دوائرنا الاجتماعية التقليدية، التي ظللنا محصورين بها وحدها زمنًا، معيدين تشكيل دوائر اجتماعية أخرى. هذه الدوائر الجديدة، قد ترضخ لمتطلبات أكثر فردانية من سابقتها، مع التأكيد أنها ظلت تتغذى من نفس الأطر السابقة، ولم تكن نقية تمامًا في فردانيتها. هذه الدوائر تشكلت، عبر أدوات متعددة للتواصل الاجتماعي: كالشات والمنتديات، وهنا سأتناول ثلاث منها: الفيسبوك وتويتر والباث.

الفيسبوك

 يعد الفيسبوك الأقدم بين هذه الثلاث، حيث كان مجالا جديدًا”لاختيار” مجموعة التواصل الخاصة بك. أغلب الاختيارات كانت تتم لمعارف أصدقاء أوأقارب يعرفهم الفرد مسبقًا، أي أنه كان طريقة جديدة للتواصل لكن مع نفس الدوائر الاجتماعية السابقة.
ومع مرور الوقت، بدأت تتشكل دوائر اجتماعية أخرى لتحقيق غايات جديدة، مثلاً متابعة أشخاص يملكون نفس الاهتمامات، أو بعض المشاهير أو”فرصة تشوف صور لبنات سعوديات” كما عبر أحدهم، وجملة “صور بنات سعوديات” تؤخذ هنا بشكل مجازي، فغالبًا تكون الصورة ليد أو عين لبنت سعودية! لكنها كانت فرصة جديدة ومختلفة للجنسين؛ لاختبار فضاء جديد للتعارف، فضاءٌ يقع خارج أدوات الضبط الاجتماعي؛ مما يشعرهم بأمان أكبر.

تويتر

تعد ذروة تويتر ما بين ٢٠١١ ومنتصف ٢٠١٣. هنا التركيز ليس على أحداث يومك أو صورك، بل التعبير عن ذاتك، من خلال نبذة مختصرة توضع أسفل معرفك، أو ما يُعرف بالـ “بايو”؛ لتحديد هويتك للآخرين، ثم تبدأ بالقيام بتدوينات قصيرة، بمساحة لا تتجاوز ١٤٠حرفًا، حيث يُطلق على هذه التدوينات القصيرة اسم “التويتة” من الكلمة الانجليزية Tweet، والذي عُرِّب إلى “تغريدة”. على الأغلب هنا لا تتحكم بدائرتك كما الفيسبوك، فأي أحد يستطيع متابعتك، إلا إن قمت بإغلاق حسابك أمام من لا توافق على انضمامهم لدائرة متابعيك.
في تويتر، لا يبحث الناس بالدرجة الأولى عن أصدقائهم ومعارفهم كما الفيسبوك، بل عن أشخاص لديهم ما هو جدير بالقراءة. وطبعًا، مايحدد معيار الجدارة، هو معيار شخصي، حيث يُتابَع أحدهم بحثًا عن مقالات مميزة، أو نقاشات سياسية فكرية، أو للتمتع بالفنون كالشعر والموسيقى، أو لمجرد التسلية، كتبادل النكت والدردشة والغزل مع الجنس الآخر. أي أن حضور الموضوع أهم من حضور الأشخاص في تويتر مقارنة بالفيس في الفيسبوك، مع الأخذ في الاعتبار أن حديثنا هنا نسبي.
في تويتر، تقرأ التغريدات وتجد حماسًا ورغبة في تغيير الواقع، مع نبرة “تحلطم” عالية على الأوضاع ومقاربتها مع أحوال البلاد الأخرى،أو بما يجب أن يكون الحال. نعم كان هناك إحباط من الفساد والضغط الاجتماعي والديني، وبالمقابل ستجد مقالات تتناول فلسفة هيجل وسبينوزا، أوعرضًا للثورات المعرفية في أوروبا، كما تقرأ نصوصًا شعرية جميلة، وتتواصل مع آخرين غرباء/قريبين، تسعون وتؤمنون معًا بإمكانية التغيير.
كانت ثورة ولكن في فضاء الإنترنت. خلال هذا الفترة اشتعلت المنطقة بربيع عربي اشتعلت معه الأرواح حماسًا، فرأينا كيف أصبحت التغريدات عن أحوال الثورات العربية تنطلق من السعودية بزخم أعلى مما هي في بلاد الثورة نفسها! هذه الثورات – ولأسباب عديدة ليس هنا محل لذكرها – فقدت قدرتها على إشعال مخيلة الشباب، وأصبحت أحد مصادر الإحباط لديهم. من جهة أخرى، حدثت اعتقالات داخلية عشوائية إما لناشطين متأسلمين أوليبراليين أو لمهمشين كتبوا تغريداتهم ببساطة أو سذاجة متناهية، وكل هذا زاد من اتساع جو الإحباط. مع تويتر كان التركيز على الفضاء العام ومحاولة إصلاح وإحداث تغيير سياسي فكري، وقد انطفأ هذا سريعًا، وحتى النقاشات الفكرية، تحولت لمعارك عنترية يُدَشِّن فيها زعامات فكرية تقف خلفها تحزبات تتغذّى بأحقاد متبادلة. فبدأ تويتر يفقد وهجه، وبدأت الهجرات, بعضهم انسحب لا نعلم إلى أين، وبعضهم إلى مدونته الخاصة، وآخرون إلى الباث.

الباث

وهو الأحدث بين الثلاثة، وهو الذي ما يزال الأقل شهرة بينهم. هنا الدائرة الاجتماعية المسموحة للفرد ضيقة، ١٥٠ فردًا فقط، ولا بد من موافقة الطرف الآخر لتتم المتابعة. مع ١٥٠ فرد، لا مجال للزعامة، كما أن تصميم الباث، يوحي بحالة ذهنية مختلفة عن نقاشات وصخب تويتر، حيث هو أقرب للفيسبوك.
أغلب من انتقل للباث، اختار التواصل مع مجموعة مختلفة عن مجموعته في تويتر، وأن احتفظ بعدد قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. الجميع في الباث ضجر من حديث السياسة المتكرر والجدل الفكري. في الباث أحاديث شخصية عن أحداث اليوم المتكررة، وتواصل أكثر بساطة وقربًا للذات. البوح الشخصي هنا أكثر، فهناك أيقونات تخبر الآخرين متى نمت ومتى استيقظت وعدد ساعات نومك وأين ذهبت ولأي موسيقى تستمع. ستعرف مثلاً أن فلانًا يسهر كثيرًا، أوأن فلانة لا تأخذ قسطها الكافي من النوم، وهكذا.. مع أنه من المفترض أننا أشخاص يجهل بعضنا بعضًا!

حيادية الفيسبوك، ذكورية تويتر، وأنوثة الباث!

من الملاحظ أن تعاطي الأفراد مع تلك الأدوات يتم بشكل هجرات متتابعة. استخدام مكثف لإحداها ثم الوصول للضيق ليس من الأداة نفسها – وهنا تكمن المفارقة – بل من الدائرة الاجتماعية ضمن هذه الأداة. فيُنتقَل إلى وسيلة تواصل جديدة، أي في كل مرة تُبنى دوائر اجتماعية لتشكل عبئًا على الفرد؛ لتُكسَر ويُنتقَل إلى أخرى, ولا نعلم هل هي دوائر أخر جديدة حقًا؟ ولماذا لا تتم محاولات إصلاح لاشتراطات ذات الدائرة، بدل حالة الهروب الجماعي المتكرر؟
الملاحظة الأخرى هنا أن الإناث أكثر حضورًا في الباث، في مقابل حضور مكثف للذكور في تويتر. أما الفيسبوك فبملاحظة سريعة لا تستطيع الجزم بيقينية, ربما لتقارب النسب، ولكن أكتفي هذه الملاحظة للجزم بجندرية وسائل التصال هذه ولنرى ذكورية لتويتر مقابل أنوثة للباث؟

في البيت السعودي هناك مجلس للرجال وآخر للنساء، وفي الاجتماعات العائلية الكبيرة يتكرر مشهد انسحاب رجل أو عدد من الرجال إلى مجلس النساء؛ بحثًا عن أحاديث أكثر لطافة وأقل حدة. أتذكر ردة فعل أعمامي المتكررة، حين يأتي أحدهم إلى مجلسنا, مرددًا: “ما أسعدكن بأريحية مجلسكن”. وقد لا يكون الأمر بهذه الأريحية التي يتصورونها، لكنه فضاء آخر تسمح بجانب آخر للذات أن يعبر عن نفسه. وكما ذكرنا فإن التركيز في تويتر يكون على الفضاء العام حيث الجدل وحدية الطرح، أما في الباث فالفضاء الخاص هو ما يحضر حيث الاسترخاء والسكينة. الأفراد يأتون إلى الباث لا للاشتغال على قضايا خارجية “مصيرية”، بل قضايا ذاتية تكشف عن تغيير في المزاج العام، مثلاً المشاكل مع السائق, الرغبة في الالتقاء بشريك, الحلم بسفرة أو بوظيفة, صوره حالمة تتبعها قصيدة رومانسية، أي أن الباث مجال للتعبير عن أحلام وإحباطات أكثر واقعية وتماس مع المعاش اليومي.
مثالٌ على ذلك, قد تجد أحد الأسماء المعروفة في الوسط الثقافي في تويتر، يكتب آراءه  السياسية والفكرية بكل رصانة، ثم يجيء إلى الباث ليقدم خطابًا مختلفًا لا يتقاطع مع أطروحاته الفكرية. في الباث يتحدث عن الشعر والغزل والنساء الجميلات، وللأسف دون أن ينطلق هذا من أرضية فكرية وفلسفية، تدل على اختلاف عن السائد الاجتماعي في فهم المرأة والعلاقة معها.

ومع هذا لا نستطيع إلا أن نتساءل، هل أدوات التواصل الاجتماعي جعلت الأفراد أكثر تواصلاً وتماسًا مع ذواتهم؛ وبالتالي أقرب لمعرفة حقيقتهم الداخلية؟ أليس هذا هو جوهر أو هدف أي ثورة؟ ألا يخالف هذا ما تتُهم به شبكات التواصل الاجتماعي، من أنها تكرس الاغتراب وتجعل الإنسان أكثر انعزالاً؟ من جهة أخرى, ألم يبدأ الأفراد بالتواصل عبر الفيسبوك، حيث لا وجود خطاب ذكوري أو أنثوي محدد؛ لينتقلوا إلى تويتر بخطابه الذكوري وليتوقفوا الآن عند الباث بأنوثة؟ ألا يدل هذا على حاجة وتغيير ما؟ ما هذا التغير؟
في المقابل، فإن الباث بمحدودية الأصدقاء، وبطبيعة تصميمه التي تتطلب درجة عالية من البوح، هل من الممكن أن يستمر متوهجًا؟ هل يتغير أفراد هذا المجتمع المحافظ من خلال الباث، ويصبحون أقل ارتباكًا في عملية البوح للآخرين، أم سيسبب هذا إرباكًا يؤدي إلى هجرة تجعله أقصر عمرًا من تويتر؟ إن كنت أرشح الخيار الثاني، إلا أننا لا نستطيع الجزم بيقينية، فما يزال الحكم هنا سريعًا، ولكن إن تذكرنا أن هذه المحطات الثلاث كانت ما بين عام ٢٠٠٦ و ٢٠١٣، ونرى التغيير في أمزجة الناس فيما يبحثون عنه من هذه الأدوات وكيفية تعاطيهم معها ومستوى التعبير عن الذات والعلاقة مع الجنس الآخر والأحلام اليومية، فإن هذا يجعلنا نتساءل: ماذا نفعل نحن حقيقة في هذه الشبكات؟ هل نتواصل اجتماعيًّا أم أننا نعيد تشكيل ذواتنا؟ وإن كنا نتواصل مع من؟ وإلى أين؟

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق