مصر: الإنقلاب على الديموقراطية وإنكسار محور الربيع العربي

الكاتب:

6 أكتوبر, 2013 لاتوجد تعليقات

وسط تهليل الكثيرين، قامت قيادة القوات المسلحة المصرية بالتعاون مع الأزهر والكنيسة بإزاحة أول رئيس منتخب ديموقراطياً وإعتقاله وإعتقال قيادات من حكومته، وجمدت العمل بالدستور المنتخب ديموقراطياً وقامت بحل مجلس الشورى ذو الصلاحيات التشريعية وقد كان الجهة المنتخبة الوحيدة المتبقية في مصر. صفق البعض وهلل وطبل بل وشمت وكأن الإخوان هم فقط من سيدفع ثمن عودة العسكر للحكم وليس الشعب المصري كله ومن وراءه كافة العرب. لم يلاحظوا أبعاد إنهيار الديموقراطية في مصر ولم يلاحظوا الأبعاد الإقليمية الخطيرة لسقوط مصر مرة أخرى في قبضة سلطات غير خاضعة للمحاسبة أو المسائلة.

الإنقلاب على الديموقراطية

لم تكن أحلام الربيع العربي تتمحور حول الإتيان بالقائد الملهم الجماهيري العظيم لكي يحكم، بل على العكس، أتى الربيع العربي ليحطم أسطورة الحاكم المعجزة وليأتي الحاكم منتخباً من الشعب، مكبلاً بالدستور ومقيداً بمدة التعاقد المنصوص عليها، مراقباً من قبل المجالس البرلمانية والإعلام الحر وحرية الناس في الإعتراض عليه والتظاهر السلمي ضده. ولذلك فالإنتقادات (المستحقة وغير المستحقة) لحكومة الرئيس المصري محمد مرسي ليس لها علاقة بما يحاوله البعض من تبرير للإنقلاب العسكري، وهذه بداية ضرورية كي ننحي جل ترهات المؤيدين للإنقلاب ومنطقهم الركيك.

في دراسات الدمقرطة يوجد إتفاق على أن الإنقلابات دائماً نقيض للديموقراطية ونادراً ما تكون سبيلاً إليها ومن شبه المستحيل أن تكون سبيلاً مستداماً إليها. وعلماء السياسة الذين تخصصوا في دراسات الدمقرطة يقسموا الإنتقال الديموقراطي لمرحلتين أساسيتين: مرحلة الإنتقال نفسها (وهي التي بدأت بإنهيار رأس النظام الديكتاتوري في الدولة كما حصل في تونس ومصر واليمن) ثم مرحلة الترسيخ وهي المرحلة التي من دونها يصبح الرجوع للديكتاتورية أمراً محتملاً وسهلاً. وهذه المرحلة (والتي تقدر مدتها بعدد من السنوات لا يقل عن 10 سنوات ولا يتجاوز الـ20 عادة) هي المرحلة التي يرضى فيها كل اللاعبين السياسيين الأساسيين بنتائج الإنتخابات ومخرجات العملية الديموقراطية، بما في ذلك الأحزاب والقوات المسلحة ومؤسسات الدولة المختلفة. ومن الأمثلة على مفهوم الترسيخ ما حصل في اسبانيا بعد وفاة الديكتاتور فرانكو حيث دخلت اسبانيا حينها في مرحلة الانتقال، ثم بدأ السماح للجميع بالعمل السياسي بما في ذلك الأحزاب الشيوعية التي كان فرانكو يحاربها. بعد فترة بسيطة حاولت مجموعة من داخل القوات المسلحة أن تنقلب على الملك وتنهي هذا الانتقال الديموقراطي ولكن محاولتهم بائت بالفشل ومنذ ذلك الحين صار القبول بنتائج العملية الديموقراطية سمة من سمات السياسة الاسبانية وبالتالي يمكن إعتبار أن الديموقراطية الاسبانية قد بدأت تترسخ وصار القبول بمخرجاتها من مسلمات الحياة الاسبانية هناك، وهذا ما حصل فعلاً حين تعاقبت الحكومات المنتخبة بسلاسة، فلم يعد اليوم وارداً أن يعلن الجيش الاسباني فجأة أنه ازاح رئيس الوزراء وحل البرلمان مثلاً، وكذا الحال في باقي الديموقراطيات المترسخة. ورغم أن هذا الكلام معروف ومتداول من سنوات في دراسات الدمقرطة، ورغم كثرة الحالات ذات الصلة في أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إلا أن البعض أصر على أن الإنقلاب الذي تلا “ثورة” 30 يونيو المزعومة هو تطور “ديموقراطي” غير مسبوق ودرس جديد للعالم في إرادة الشعوب … إلخ هذا الكلام المتهافت لمن أصر على إغلاق عينه عن الحقيقة الجلية وقرر أن كل الانقلابات العسكرية سيئة إلا هذا الانقلاب وأن تدخل الجيوش في السياسة يفسد العمل السياسي في كل دول كوكبنا بإستثناء الدولة المصرية، هكذا بدون سبب أو ضابط يجعل هذا الاستثناء المختلق مستحقاً لأي دراسة جادة.

وللأسف أنا هنا مضطر لأن أخوض قليلاً في نقض أسطورة “أن الإنقلاب لم يكن إنقلاباً” لدحض ما تم تكراره مراراً من انصار العسكر. بلى لقد كان انقلاباً مكتمل الأركان وتطبق عليه تعريفات الإنقلاب، فالإنقلاب يعرف بأن يقوم جزء من الدولة (عادة القوات المسلحة) بإزاحة رأس الدولة عن الحكم بشكل غير قانوني. ما حصل في مصر ينطبق عليه هذا التعريف، ولا يهم هنا لو كان ذلك مسبوقاً بمظاهرات أم لا، فوقوع المظاهرات ليست العامل المحدد هنا. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك منها مثلاً الإنقلاب الذي حصل العام المنصرم في مالي والذي سُبق بأيام من المظاهرات المتواصلة التي شلت العاصمة وحاصرت القصر الجمهوري، لن تجد علماء السياسة يسموا ذاك الانقلاب بأنه ثورة، وبالتأكيد لن تجدهم يقولون أنه ليس انقلاب لأن ثمة مظاهرات خرجت ضد الرئيس قبله. وذلك بالرغم من أن قادة الانقلاب هناك لعبوا على نغمة “هذا ليس إنقلاب”. ونفس الكلام ينطبق على الانقلاب التايلاندي في 2006 والذي سبقته أزمة سياسية أستمرت لعام تقريباً مثلما حصل في مصر وتضمنت الأزمة مظاهرات ضخمة للمعارضة. والأمثلة كثيرة ويطول سردها.

وهذا التعريف الواضح ينفي أيضاً أسطورة أن “إذا كان هذا انقلاباً فإن 25 يناير أيضاً إنقلاب” حيث أن سقوط مبارك جاء بتنحيه الشخصي والذي أعلنه نائبه بعد 18 يوم من المواجهات بل وقام بتكليف القوات المسلحة بإدارة البلاد، ثم ذهب لشرم الشيخ لفترة من الزمن. قارن ذلك بإنقلاب 3 يوليو حيث قامت قوات الانقلاب ولا أحد غيرها بإجبار محمد مرسي على ترك الحكم دون إرادته وأعتقلته هو ومستشاريه وعينت رئيس المحكمة الدستورية رئيساً مؤقتاً للبلاد، وقد أعلنت بيانها الإنقلابي الأول بعد أقل من يوم واحد من المظاهرات رأينا فيه تجمع بشري ضخم ورأينا الجماهير في ميدان التحرير وقد قامت قوات الأمن بإطلاق صفر رصاصة عليها.

والإنقلاب لم يكن فقط مخالفة للمتعارف عليه في الديموقراطيات ولكنه أيضاً كان تحطيماً لأحلام دولة القانون والمؤسسات حيث قام الإنقلاب بمخالفة الدستور المصري المنتخب ومخالفة تسلسل القيادة العسكرية، فالدستور ينص أن القوات المسلحة “محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي” وينص على أن رئيس الجمهورية هو القائد العام للقوات المسلحة، ناهيك عن سلسلة الأكاذيب التي روجتها قيادة الانقلاب قبل 30 يونيو مثل الزعم بأنه من المستحيل أن تنزل للشارع لإنهاء طرف سياسي دون آخر، والزعم بأنها لن تمتد أياديها على المصريين، والزعم قبل الانقلاب بيومين فقط أن “عقيدة وثقافة القوات المسلحة المصرية لا تسمح بانتهاج سياسة الإنقلابات العسكرية”، وبعد الانقلاب زعموا أن مرسي ليس معتقل وإنما موضوع في مكان آمن خوفاً على سلامته الشخصية، وغيرها من الأكاذيب والمخالفات التي قد استصغرها البعض رغم أنها الوصفة المثالية لعودة الدكتاتورية حيث يفتح الباب للجيش أن يخالف القانون ويحنث بالقسم الدستوري ويكذب على عامة الشعب. اليوم يفعل ذلك ضد حكومة مرسي وغداً سيفعل ذلك ضد خصومها، مادام الباب قد فتح فمن يملك إغلاقه ومادامت السابقة قد وقعت فمن يضمن أن لا تتبعها لاحقة؟

وفوق إزاحة الرئيس المنتخب قام الإنقلاب فوراً بتجميد العمل بالدستور وهذه جريمة أخرى وقام بحل مجلس الشورى رغم صدور قرار من المحكمة الدستورية قبل الانقلاب بأربع اسابيع فقط بأن يظل المجلس يعمل إلى حين عقد الإنتخاب البرلمانية، أي أن قيادة الإنقلاب قد ارتكبت سابقة أخرى وهي مخالفة أحكام السلطة القضائية وإلقاءها عرض الحائط. بالإضافة لذلك قام الانقلابيون فوراً بإغلاق قنوات الموالاة على التلفزيون ثم مع مضي الأيام قمعت بوحشية بالغة حق التجمع السلمي كذلك. اليوم يحتفل البعض بذلك لأنه تخلص من خصومه السياسيين، وغداً سيندم لأنه شرعن لحكم سلطة عسكرية لا يقدر على الوقوف في وجهها أي جهاز منتخب، بل كرست نفسها من أول يوم كسلطة فوق القانون وفوق الدستور وفوق السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة الرابعة الإعلامية وفوق حق التظاهر السلمي، ليس فقط الآن وإنما في المستقبل أيضاً. دعني أترجم لمن لم يفهم بعد: كل مكاسب الربيع العربي تم إلغاءها وكل السمات الرئيسية لعهد مبارك قد عادت.

سيحتج البعض مرة أخرى بأخطاء حكومة محمد مرسي وسيتحدث البعض حديثاً فلسلفياً مفاده أن الديموقراطية ليست فقط إنتخابات وأن مرسي رئيس “صندوقراطي” وليس ديموقراطي (علماً أن الكثير منهم لو سألته ما هي أنواع الديموقراطية التي يفضلها على الصندوقراطية لما استطاع ان يعدد لك نوعاً واحداً). ولنتغاضى هنا عن حقيقة أنه ليس من الإنصاف تقييم فترة حكم رئيس ما من خلال الحكم على أول سنة له في الحكم، أي ربع مدته، والتي كانت أول سنة ديموقراطية في تاريخ مصر والتي هي أيضاً أحد أكثر السنوات اضطراباً وشهدت تحديات جمة من الصعب على أي حكومة مواجهتها. الحديث عن أخطاء محمد مرسي وحكومته يطول وأخطاءهم كبيرة، ولكنها أخطاء يمكن مواجهتها ويتمتع المصري بهامش كبير لمقاومتها، بل أجبرت المعارضة الرئيس على التراجع عن العديد من قراراته وأجبر الإعلام وزارة الداخلية المصرية على الاعتذار عن حادثة السحل المشهورة التي وقعت في اشتباكات الاتحادية وأجبر جماعة الإخوان المسلمين على ادانة واقعة ضرب أحد كوادرها لفتاة أثناء مشادة أمام مقر الإخوان الرئيسي في المقطم، وخلافات مجلس الشورى مع عدة جهات رسمية مثل وزير الثقافة ووزير البترول بالإضافة لعرض وزير المالية للموازنة العامة على المجلس… إلخ، فكيف يقاوم المواطن المصري استبداد السلطة الانقلابية الآن وهي التي ترتكب مجزرة ضخمة مثل مجرزة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة دون مسوغ، في نفس يوم حوار المصالحة مع شيخ الأزهر، وبعد التوصل لاتفاق مع الإخوان بوساطة أوروبية؟ وتقتل عدد ضخم من الأبرياء تقدر بحوالي 600 شخص (أي أكبر من العديد من مجازر العدو الإسرائيلي وأكبر من العديد من مجازر نظام بشار الأسد) ثم لا تعتذر السلطات بل تبرر وتمتدح مجزرتها. ونفس السؤال ينطرح حول مجزرتي الحرس الجمهوري ومجزرة المنصة ومجزرة معتقلي أبو زعبل، وكذلك حول موجة الاعتقالات الواسعة ومخالفة الاجراءات القضاية ومزاعم التعذيب وحملة قمع وطرد وحبس السوريين والفلسطينيين وحصار غزة وسلسلة التحريض على القتل والإقصاء في المنتج الإعلامي والفني للإنقلابيين … إلخ.

كيف تخيل البعض بسذاجة أن من الذكاء إستبدال “الصندوقراطية” بالديكتاتورية العسكرية؟ لقد كانت مصر مكبلة بالإستبداد وها هي بعد ثورة يناير تنهض، ولا شك أن خطوتها الأولى كانت عرجاء ولكن هل الأولى أن تعيش مصر تجربتها إلى أن تتمكن من الخطو الواثق الصحيح أم أن نشنع على العرج ونستبدله بالشلل؟ أليس من حق الشعب المصري أن يكون تجربته بشكل طبيعي مثل شعوب العالم الأخرى وأن يمارس حقه في العمل السياسي السلمي فيصيب ويخطيء ويتعلم ويتطور وينتقل من درجة مبتدء إلى درجات أعلى وأرقى ويراكم تجربته السياسية؟ لا يعرف من صفق للإنقلاب حجم الضرر الذي حصل، وانخرطوا في تفاصيل معركتهم مع الإخوان رغم أن المعركة الحقيقة هي على مستقبل مصر ومستقبل الشرق الأوسط.

المسألة بسطية: بعد إنهيار النظام الديكتاتوري وبدء عملية الانتقال الديموقراطي سترى قفزات في الحقوق والحريات والمشاركة السياسية، ليست كافية ولكنها قفزات مهمة. المهتمين حقاً بالديموقراطية رأوا أن هذه القفزات على ما فيها من أخطاء هي خطوة أولى فقط في مشوار ترسيخ الديموقراطية وأنها أول الخطوات. وهذه القفزات التي تمتع بها المصريون مؤقتاً في السنة اليتيمة ليست هي الغاية، إنما هي الخطوة الأولى وكنا ننتظر بشغف الخطوات التالية في السنوات القادمة. ولا تحتاج أن تكون عبقرياً كي تدرك أن الأفضل هو استثمار هذه القفزة وتوسيع مكاسبها في ظل الظروف المواتية بعد سقوط مبارك، وليس إعادة العسكر لحكم مصر ومساعدة النظام السابق على وأد التجربة الديموقراطية! انهمك السذج في المعركة اللحظية مع الإخوان لدرجة أنهم ضحوا بكل التجربة الديموقراطية وضحوا بحق الشعب المصري في أن يخوضها وبتروا كل المشوار عبر خطوة مضادة تماماً لكل قيم الديموقراطية. وهكذا حطموا الهدف الأكبر لأجل تحقيق هدفهم الأصغر، واشتروا العمى بالعور.

وهنا يجب أن يكون واضحاً أن الهدف ليس تجاهل أو محو أخطاء وحماقات حكومة محمد مرسي، بل فقط وضعها في إطارها السياسي والتاريخي الصحيح. لقد كانت تلك أول سنة ديموقراطية في تاريخ الجمهورية المصرية منذ 60 عام وكانت البلاد كلها في حالة انتقال ديموقراطي وبالتالي كانت هذه الأخطاء متوقعة وفي نفس الوقت لم تكن حكراً على الحكومة وحلفاءها السياسيين بل جل المعارضة المصرية أيضاً متورط في حماقات سياسية مختلفة. والحديث يطول في تفصيل ذلك وقد يناسب مقالة أخرى غير هذه. كل هذه الظواهر والخيبات كانت طبيعية في أول سنة ديموقراطية. الأكيد بالنسبة لي هو أن دفع المسار الديموقراطي هو أفضل الحلول وأكثر حل يحمل عناصر الاستدامة في طياته.

إنكسار محور الربيع العربي

سيطر تصارع المحاور على سياسة الشرق الأوسط فترة طويلة، حتى أن أحمد الشقيري كتب في مذكراته أن جامعة الدول العربية عام 1947 ” كانت سياسة (المحاور) تمزقها من الداخل”. وقد تبلور محورين أساسيين في المنطقة في الفترة ما بين اغتيال الحريري في 2005 و وإلى ما قبل إندلاع الربيع العربي في 2011: محور “الإعتدال” ومحور “الممانعة”. وبطبيعة الحال سياسة المحاور ديناميكية ومتغيرة وليست ثابتة طوال الوقت، وتبرز فيها أقطاب وتختفي مع كل حدث ضخم كما سأوضح أدناه في بعض الأمثلة. والشرح الذي سأقدمه هو مجرد مقدمة مختصرة عن سياسة المحاور ويتضمن وقائع تاريخية وتحليلات المختصين بالإضافة لبعض اجتهاداتي الشخصية في تفسير الأحداث.

فمثلاً مع إستيلاء عبد الناصر على مقاليد الحكم في مصر تشكل محور “التقدمية” ومحور الدول “الرجعية” ولعبت هذه المحاور دور رئيسي في نزاعات اقليمية عدة كحرب اليمن، وكانت تلك الاستقطابات متأثرة مباشرة بإستقطابات الحرب البادرة. ومثال آخر حين احتدم الصراع الاقليمي أثناء الحرب العراقية الإيرانية سارعت مملكات الخليج بإنشاء مجلس التعاون الخليجي بعد 8 أشهر فقط من بدء الحرب وتحالفت سوريا مع إيران مستغلة الفرصة التاريخية للي ذراع جارها اللدود صدام حسين، وما ان انتهت الحرب حتى قام صدام وحسني مبارك والملك حسين وعلي عبد الله صالح بإنشاء مجلس التعاون العربي كمحور آخر (واندثر سريعاً بعد حرب الكويت)، وحين قام صدام بالإستيلاء على الكويت نشأت محاور جديدة، وبعد هزيمة صدام في الكويت نشأ إلى حد ما محور يضم السعودية ومصر وسوريا (قد كانت مصر وسوريا بالإضافة للمغرب الدول العربية الوحيدة من خارج الخليج التي شاركت في الحرب) ولكنه لم يكن دائماً شديد الترابط. وهذا التنافس الاقليمي شكل جزء اساسي من أحداث كبرى كالحرب الأهلية اللبنانية. ورغم جسامة الأحداث التي تلت 11 سبتمبر مباشرة وخصوصاً إحتلال أفغانستان إلا أنها لم تؤثر كثيراً على سياسة المحاور العربية خصوصاً وأنه لم تكن لحكومة طالبان أي علاقات دبلوماسية مع الحكومات العربية بإستثناء السعودية والامارات (السعودية والامارات وباكستان هي الدول الوحيدة التي كانت تعترف بحكومة طالبان). ثم جاء عام 2003 ليتغير كل شيء مرة أخرى: سقطت العراق في يد الإحتلال الذي قادته أميركا، وصعد حلفاء إيران للواجهة في العراق والكثير منهم كانوا أصلاً مقيمين في إيران هرباً من نظام صدام حسين (كانت إيران مركزاً للعديد من رموز وأعضاء حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وفيلق بدر) ومالبث أن تعقد الوضع ببروز الخلاف السعودي السوري بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005 وحينها دخلنا في حالة جديدة من المحاور استمرت تقود الصراع الاقليمي إلى ما قبل الربيع العربي، حيث تقف السعودية ومصر على رأس محور “الاعتدال” ومعهم بعض دول الخليج والأردن والسلطة الفلسطينية وحلفائهم في لبنان (غير صحيح أن دول الخليج متطابقة في موقفها من الصراع الإقليمي، فسلطنة عمان مثلاً تكاد تكون مثل نظام بن علي، محسوب على المحور ولكنه خامل، وقطر حالة خاصة يصعب تصنيفها مع أي من المحورين، والكويت من محور الاعتدال بلا شك ولكن العمل البرلماني والحراك الشعبي كان دائماً ما يلجم سياستها الخارجية عن الإنجراف في المحور) بينما تتزعم إيران وسوريا رأس محور “الممانعة” ومعهم بعض القوى السياسية في العراق ولبنان وحركتي حماس والجهاد في فلسطين. طبعاً هذا لا يعني أن الصراعات الداخلية لم تكن حاضرة، فمن ناحية لا يوجد محور منهما متجانس بالكامل مع نفسه ومن ناحية أخرى توجد دول اخرى تلعب دوراً في بعض الأحيان وتدخل في معادلة المحاور برغبتها أو بالرغم عنها، مثل السودان واليمن.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا الاستقطاب والتي تستحق أن تشرح هي ما حصل في 2006 أثناء العدوان الصهيوني على لبنان وذلك قبل أن يخسر حزب الله تأييد الجماهير العربية له بتدخله الحالي لدعم النظام الإرهابي في سوريا. ومن الطبيعي أن سرد تفاصيل التنازع الإقليمي في تلك الحرب يطول، ولكن بإختصار بدأت السعودية بإصدار بيان يدين “المغامرات” التي أدت لنشوب الحرب في إدانة لحزب الله مما شكل أول مخالفة للمواقف البروتوكولية المعتادة التي تأتي على سياق “نقف مع حق الشعب الفلسطيني واللبناني في المقاومة المشروعة … إلخ”، ثم ما لبث أن صدرت تصريحات شبه متطابقة من الحكومتين المصرية والاردنية. لاحقاً قال السفير السعودي في واشنطن تركي الفيصل أن حزب الله يخوض مغامرة طائشة تحت ستار المقاومة واستهدف وزير الإعلام السعودي إياد مدني حركة حماس مع حزب الله حين انتقد ما أسماه “العناصر المنفلتة” في فلسطين ولبنان، في نفس الوقت صرح ملك الأردن بأن المشكلة هي الخلاف العربي الإيراني وليس السني الشيعي، وهذا إقرار بأن الصراع الاقليمي كان مكوناً أساسياً لتوزع المواقف في الحرب. وطبعاً المكون الطائفي هو جزء من التنافس العربي الإيراني ولذلك قام كل محور بإستدعاء مواقف مؤيدة له من علماء من السنة ومن الشيعة. بالإضافة لذلك ظل هذا المحور يطالب أثناء الحرب بضرورة بسط الدولة اللبنانية لسيطرتها على كافة أراضيها وهو مطلب موجه ضد حزب الله بشكل رئيسي كما أخذت تطالب بدخول قوات متعددة الجنسية للبنان. وشكلت هذه التصريحات وغيرها صلب موقف محور “الاعتدال”. في نفس الوقت وقفت إيران وسوريا وحماس والأحزاب الموالية لإيران في العراق مع حزب الله وأدانوا مواقف محور “الإعتدال” وظلوا يطالبوا بدعم المجهود الحربي ضد إسرائيل وتأسيس حواضن لحركات المقاومة ورفضوا مطلب دخول قوات متعددة الجنسية للبنان واقترحوا بدلاً عن ذلك توسيع مهام اليونفيل. وكانت اليمن نموذج على دول الطرف (أي ليست من الدول الأساسية والتي تسمى بدول المركز) في الصراع ما بين المحورين حيث دعت الحكومة اليمنية لإنعقاد قمة عربية طارئة لبحث الحرب ثم يبدو أنها تعرضت لضغوط ما فسحبت دعوتها وعللت ذلك بأنها تخشى أن تزيد القمة العربية من حدة الخلاف بين الدول العربية.

محرقة غزة في أواخر 2008 وأوائل 2009 أيضاً نموذج على سياسة المحاور وخصوصاً فيما يتعلق بالجزئية الأخيرة الخاصة بإنعقاد القمم العربية حيث تم عقد ثلاث قمم عربية في ثلاث أسابيع (قمة مجلس التعاون الخليجي الطارئة في الرياض والقمة العربية في الدوحة والقمة العربية الاقتصادية في الكويت) كأحد أوضح أفرازات صراع المحاور. فعلى سبيل المثال قاطعت دول عربية إجتماع الدوحة وحصلت ضغوطات على الدول التي لم تحدد موقفها كي لا تشارك إلى أن نجحت هذه الضغوط في جعل عدد الدول المشاركة ينخفض إلى 14 أي أقل من النصاب القانوني بدولة واحدة فقط، ولعل البعض يذكر حينها تصريح أمير قطر “نصاب هذه القمة، قمة غزة، ما إن يكتمل حتى ينقص  حسبي الله ونعم الوكيل”. وفي حين اكتفت قمة الكويت بإصدار التصريحات المعتادة حول المطالبة بوقف إطلاق النار وإنسحاب القوات الإسرائيلية وما شابه، كانت قمة الدوحة طالبت بتعليق المبادرة العربية للسلام ووقف تطبيع العلاقات مع إسرائيل (وهو ما قامت به قطر وموريتانيا فعلاً) وتحدثت بصراحة عن حركات المقاومة الفلسطينية وخصوصاً حماس والتي لم يذكرها بيان قمة الكويت أصلاً. علماً أن إيران وحركة حماس كانا من بين الحضور في قمة الدوحة. ومن الملفت أيضاً أن جريدة الشرق الأوسط (التي تعتبر مع قناة العربية الناطق غير الرسمي بإسم السياسة الخارجية السعودية) وصفت قمة الكويت بأنها ” أضخم حدث في تاريخ العلاقات العربية” وفي نفس الوقت كتب رئيس تحريرها آنذاك مقالاً ينتقد قمة الدوحة بعنوان “مسرحية الدوحة” اعتبر فيه أن هدف القمة الحقيقي هو “إلغاء الدور العربي الفاعل، والصادق، من قبل كل من السعودية ومصر”.

هذه أمثلة مختصرة عن كيفية تنازع المحاور، وهذا التنازع كان له انعكاسات أخرى يطول النقاش حولها في لبنان والعراق واليمن، وكلها مرتبطة بصراع المحاور الدولية أيضاً المتمثلة بشكل أساسي في روسيا واميركا مع حليفتها الاقليمية اسرائيل.

ثم جاءت سيدي بوزيد.

في فترة بسيطة سقط زين العابدين بن علي الذي يعتبر لاعباً إقليمياً خاملاً ولكنه محسوب على محور الاعتدال، ثم سقط حسني مبارك أحد أهم أركان محور “الإعتدال” ثم انتقلت الانتفاضات إلى البحرين واليمن وهما أيضاً من دول الاعتدال، واندلعت الثورة المسلحة في ليبيا ضد نظام القذافي الذي كان قد دخل في مرحلة من اللاهوية بعد سنوات طويلة قضاها في دول “الممانعة”، وكانت الاحتجاجات ضخمة في دول أخرى تحسب على محور الاعتدال أبرزها الكويت حيث تمكنت موجة الاحتجاجات هناك من اسقاط رئيس الوزراء، وكذلك المغرب حيث تغيرت القواعد السياسية والدستورية للبلاد بسبب الاحتجاجات، وبدرجة أقل في الأردن ثم بدرجة أقل في سلطنة عمان، وكل هذه الدول تحسب على محور الإعتدال بدرجة أو بأخرى. وكان ذلك ليكون خطيراً على المنطقة لأنه يفتح الباب لمحور “الممانعة” كي يستفرد بالمنطقة بلا منافس، ولكن هذا الخطر المحتمل لم يتحول لحقيقة بسبب إندلاع الثورة السلمية في سوريا والتي تحولت الآن لحرب أهلية ومستنقع للنزاع الإقليمي والدولي، فقد وجهت ضربة مدمرة لمحور “الممانعة” حيث صار ينفق الجهود والأموال الضخمة في محاولة لإبقاء الأسد في السلطة، وخسر المحور أحد أهم أعضاءه حين قررت حركة حماس ان تتخذ موقف أخلاقي بالبعد عن تأييد النظام السوري ثم بدأت تعارضه علناً مما كلفها مقراتها وقواعدها المهمة في سوريا، وطبعاً فقد هذا المحور تأييد الملايين من العرب حين شاهدوا وحشية وهمجية النظام السوري وحلفاءه الذين أخذوا يتقاطرون من العراق ولبنان لدعم الطاغية.

إذن في المحصلة تعرض كلا المحورين لتراجع كبير وتضعضع غير مسبوق، وهنا بدأت تنشأ بوادر ظهور محور ثالث يحمل مؤهلات إنتشال الشرق الأوسط من الجحيم المستحكم: محور الربيع العربي، والذي لو تشكل لتشكل أساساً من مصر وتونس فليبيا ثم اليمن، وبدرجة أقل الكويت والمغرب، بالإضافة لقطاع غزة وتركيا وقطر (والنظام القطري دخل في شكل بسيط من أشكال التحول الديموقراطي حين وعد في 2011 بإيجاد برلمان منتخب في 2013 ولكن مع ملاحظة أنه سبق أن وعد بذلك أكثر من مرة وأخلف). ليس محوراً مثالياً، ولكن كما سبق أن ذكرت: المحاور في حالة ديناميكية، تتشكل وتتغير طيلة الوقت، والأمل أن تمر شعوب هذه الدول بتجربة ديموقراطية وتطورها مما يؤدي لتطوير المحور الجديد ويصبح بعد سنوات قوة حقيقة قادرة على أن تلجم جنون سياسة المحورين وقادرة على أن تروج للديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات في المنطقة في ظل ضعف المحورين. وأود أن أشير هنا إلى أن البعض أسماه “محور الاسلام السياسي” وهذا غير دقيق لأنه لو كتبت الاستمرارية للتجربة الديموقراطية العربية لوجدنا أن الإسلام السياسي سيخسر الإنتخابات لاحقاً مثلما ربحها حالياً لأن النظم الديموقراطية توفر المجال للتداول السلمي للسلطة، علماً أن الإسلاميين في ليبيا لم يحققوا المركز الأول في الانتخابات بعد الثورة. ومن ناحية ثانية فإن السلفية السعودية والتشيع الإيراني وحلفاء كل منهما في المنطقة يمثلون نماذج من الإسلام السياسي، ولكنهما بالتأكيد ليست ضمن محور الربيع العربي، لذلك فإن تسميته بمحور الإسلام السياسي غير دقيقة، ويتأكد هذا إذا نظرنا لبعض نماذج الإسلام السياسي في السودان وباكستان بالإضافة لنموذج القاعدة.

بدأت بوادر المحور الجديد تتشكل أسرع مما تصور البعض وفي نفس الوقت تحرك محوري “الاعتدال” و”الممانعة” لمحاولة إنقاذ نسيهما. ومن الملفت أن حدة أحداث الربيع العربي دفعت باللاعبين الدوليين (أميركا وروسيا والصين والاتحاد الاوروبي) إلى الوراء ودفعت باللاعبين الاقليمين ليتصدروا الصراع، وهذا برز مثلاً في إصرار السعودية على المحافظة على حسني مبارك حتى بعد أن تخلت عنه أميركا (وهو ما أكده تركي الفيصل لاحقاً) ويبرز الآن في قيادة السعودية وقطر وايران للصراع في سوريا بإندفاع يفوق أحياناً قدرة أميركا وروسيا والصين على الإحتواء أو اللجم. النظر من هذه الزاوية، زاوية الحراك الاقليمي المحتدم بين المحاور، يعطينا قراءة مختلفة وتفسير آخر للكثير من الأحدث التي سأسرد بعضها ولكن دون تحليل معمق لأن ذلك سيطول.

برزت سريعاً ملامح المحور الجديد الذي كان في طور التشكيل، منها على سبيل المثال التحسن الكبير في العلاقات بين غزة ومصر وتخفيف الحصار بشكل كبير، إعطاء السوريين في مصر الكثير من الحقوق التي حرموا منها في دول عربية أخرى، دفعة قوية في مختلف مجالات التعاون بين دول الربيع العربي وتركيا، تصريح المنصف المرزوقي بأن تونس سترسل قوات لسوريا بعد سقوط الأسد وستساهم مع تركيا في إعادة الأمن، وزيارة الحكومة القطرية لقطاع غزة (وفي نفس الوقت تقريباً قامت حكومة الإمارات بدعم محمود عباس بأكثر من 40 مليون دولار) وكذلك زيارات رسمية من الحكومتين التركية والمصرية للقطاع وتصريح اردوغان بأنه سيزور القطاع (وهو ما لم يحصل ويبدو الآن انه لن يحصل)، وكذلك رأينا كيف انه بعد نجاح الانتفاضة الكويتية في اسقاط رئيس الوزراء وفي نيل برلمان جديد اكتسحه الاصلاحيون رد رئيس البرلمان الكويتي احمد السعدون على دعوات السعودية بوحدة خليجية بأن دعا لارساء الديموقراطية أولاً قبل الاتحاد، وقال ان دول الخليج يجب ان تكون متناغمة في ما بينها في مجال احترام حقوق الانسان وحرية التعبير والمشاركة الشعبية قبل ارساء دعائم الاتحاد المزمع. وقد كان الأمل كبيراً في أن تكون الكويت قاطرة تجر الخليج نحو المزيد من الإنفراج في الحقوق والحريات والمشاركة السياسية لولا انهيار ربيعها بعد الحكم بحل البرلمان وإقرار قانون الصوت الواحد.

في الناحية الأخرى حاول محور “الممانعة” لملمة نفسه فأخذ يضغط على حركة حماس كي تقف مع نظام الأسد وصار يستقوي ببعض التنظيمات الفلسطينية الصغيرة الموجودة في سوريا مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، وبدء في إرساء سفن إيران الحربية في موانئ السوادن بالبحر الأحمر في تعاون عسكري لا نعرف تفاصيله، وقبل أيام كانت الزيارة العسكرية الثالثة في أقل من سنة لموانئ السودان، وفي الجزائر صرح وزير الداخلية بأن العلاقات مع ليبيا ستتوتر إذا وصل الثوار إلى الحكم، وقد قامت الجزائر فعلاً بإستضافة أفراد من عائلة القذافي، وهنا جزء من المحاور الدولية أيضاً لأن الجزائر على علاقة جيدة بموسكو ومن أكبر مستوردي السلاح الروسي. ويلاحظ أن الجزائر أيضاً أعلنت رسمياً عن استغرابها من دعوة المغرب للإنضمام لمجلس التعاون الخليجي.

أما محور “الاعتدال” فكانت هناك محاولات لإدخال الأردن والمغرب في مجلس التعاون الخليجي ثم محاولات لإنشاء وحدة خليجية عاجلة ثم محاولات لإنشاء وحدة سعودية – بحرينية قالت سميرة رجب أنها ستكون حول أربع ملفات وهي “الأمن والدفاع والإقتصاد والشؤون الخارجية” أو بمعنى آخر كل الملفات الأساسية، بالإضافة طبعاً للإتفاقية الأمنية الخليجية. وفي المغرب  طالب الملك بإنشاء نظام مغاربي جديد بين دول المغرب الخمسة وتسرب أن الحكومة الأردنية قلقة من ما سمي إعلامياً بـ”محور غزة”، وتناقلت وسائل إعلامية أيضاً خبراً غير مؤكد مفاده أن ملك الأردن عبر عن قلقه في اجتماع مع شخصيات اردنية من “المحور المصري التركي القطري” وتحدث عن تقاطع مخاوفه هذه مع مخاوف السعودية من نفس المحور. ومثال آخر حصل بعد أن تم حل البرلمان الكويتي عبر المحكمة الدستورية – بنفس طريقة حل البرلمان المصري – حين تم البت في الاتفاقية الأمنية الخليجية المعدلة وقف أحمد السعدون ضدها وأدان ما اسماه “الإتجاهات الأمنية القمعية التي يتضح أن دول المجلس تتجه إليها” واعتبرها اغتيالاً للحريات، تخيل هنا المكاسب التي يمكن ان يحققها المواطن الخليجي من مجرد رفع نسبة الدمقرطة في دولة واحد كالكويت؟. أما البرلمان الكويتي الحالي والذي قاطعت المعارضة انتخاباته فقد دفع بإتجاه بنود اتفاقية أمنية مع الاردن ايضاً تتضمن التعاون في “المعلومات حول نشاطات وجرائم الجماعات والتنظيمات الارهابية والمعادية المخلة بأمن واستقرار البلدين”. وقد لا يعلم البعض أن الاتفاقية الخليجية الجديدة تفتح الباب لدخول القوات الأمنية الخليجية – وليس العسكرية – إلى أي دولة خليجية تطلب منهم ذلك في مواجهة “الاضطرابات الأمنية” في تجسيد للعقلية الأمنية وخوفها من رياح التغيير. ومن ملامح هذه المحاور أيضاً أن وزير الداخلية البحريني ألقى كلمة مؤخراً في اجتماع وزراء الداخلية الخليجيين تضمن إدانة لمن اعتبرهم تابعين لجهات مثل إيران والقاعدة والإخوان المسلمين في دول الخليج (واختص السعودية والامارات والبحرين) ومدح قمع السلطات الكويتية للمتظاهرين واعتبر أن قوات الأمن الكويتية تمكنت من ” السيطرة على الوضع بما يكفل حرية التعبير وفق الضوابط القانونية” وتحدث عن الاتفاقية الأمنية وقال ما نصه “يبقى الخطر الذي يستهدف الأنظمة العربية في دول المجلس هو الذي يعنينا جميعاً” دون الإشارة للشعوب الخليجية. ولا يفوتنا هنا إستضافة السعودية لزين العابدين بن علي واستمرارها في ذلك حتى بعد تصريح الحكومة التونسية بأنه يتلاعب بأموال تونس من مقره في السعودية، وكذلك الاستضافة المؤقتة لعلي عبد الله صالح في السعودية والتي استعملها كمقر سياسي يلقي منها خطاباته ويحضر بالبث المباشر مؤتمرات مع حزبه وما تلى ذلك من توقيع للمبادرة الخليجية التي وفرت له ولرموز نظامه الحصانة التي بسببها لا يزالوا يلعبون دوراً سياسياً في اليمن (إلى اليوم وعلي عبد الله صالح هو رئيس حزب المؤتمر الحاكم)، وهناك أيضاً استضافة أحمد شفيق في الامارات واستعماله لها ليس فقط كمكان آمن يهرب فيه من القضايا التي عليه (وقد هرب بعد يومين فقط من خسارته للإنتخابات إلى السعودية أولاً ثم إلى الإمارات) ولكن أيضاً كمنبر سياسي يقود منه حملته التحريضية وكمكتب سياسي أصدر منه تصريحات خطيرة تمس الأمن القومي المصري (منها على سبيل المثال حثه قبل الانقلاب مباشرة لتدخل الجيش وحثه للبرادعي أن يتواصل مع قيادات الجيش لتسهيل ذلك، واعترافه انه على تواصل مع تلك القيادات العسكرية) مما يشكل عدواناً صريحاً من الإمارات على مصر. وقد يكون من المفيد هنا أن نستشهد بما قاله البرلماني والقانوني المصري عصام سلطان أثناء الأزمات السياسية المتكررة بين الحكومة وجبهة الإنقاذ بأن ثمة ضغط خارجي “وضغط قوى إقليمية وخليجية لتولى أحد شخصين من قيادات جبهة الإنقاذ رئاسة الحكومة”. ومن ملامح حراك المحاور أيضاً أن السعودية والكويت والامارات والاردن دعموا الانقلاب العسكري في مصر سياسياً وأيضاً بالمال والسلاح (واعترف احمد شفيق علناً بأنه لعب دور في تسليح الإمارات للقوات المصرية بعد الانقلاب) وأصدرت الحكومة السعودية مباشرة خطاباً للتهنئة برمضان كان في الحقيقة خطاب النصر على الربيع العربي وذلك عبر عبارات شديدة مثل “لن نتسمح أبدا بأن يستغل الدين لباسا يتوارى خلفه المتطرفون والعابثون والطامحون لمصالحهم الخاصة”.

وثمة تصريح لأوباما ذو أهمية كبيرة ولكنه مر دون ضجة، وذلك حين قال – قبل الانقلاب – بأن هناك وضع جديد في الشرق الأوسط “لا تستطيع فيه اسرائيل الاعتماد فقط على مجموعة من الحكام المستبدين ليسيطروا على الأمور في المنطقة”. وهو في الحقيقة إعتراف محوري بحقيقة الكثير من السياسات الاقليمية في المنطقة.

ولذلك لم يكن مستغرباً أنه بينما كان محور “الاعتدال” يسعى للحرب في سوريا مثله مثل محور “الممانعة” كان محور الربيع العربي يحاول خلق حلول جديدة. هذه الحلول التي اقترحت مثل اقتراح المنصف المرزوقي بأن يمنح بشار الأسد مخرجاً آمناً ويعيش في تونس – بغض النظر عن عيوب هذا المقترح – هي من المؤشرات على وجود فرصة تاريخية لكسر إحتكار المحورين للسياسة الاقليمية. و هذا الرصد متسق مع ما حصل مثلاً في أول الثورة السورية بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة حين جاء التصويت لأجل البدء في تحقيق أممي بسوريا فرفضت السعودية والبحرين والاردن وقطر التصويت لهذا القرار. والآن بعد من عامين ونصف لدينا الآن كتلة دولية تطالب بإحالة ملف سوريا لمحكمة الجنايات الدولية تتضمن 64 دولة ليس من بينها أي دولة عربية سوى تونس وليبيا.

وكم كان المنظر سريالياً حين رحبت دول كالسعودية والامارات والكويت بالإنقلاب وفي نفس الوقت رحبت دول كسوريا والعراق به أيضاً. فبالرغم من وقوعهم على طرفي النقيض في السياسة الاقليمية إلا أنهم اتفقوا على خطورة محور الربيع العربي وأهمية تحطيمه.

ولم يكن غريباً أن السياسة الاقليمية تغيرت مباشرة بعد الإنقلاب، فزاد الحديث عن ضربة عسكرية غربية لسوريا، وبدأت مفاوضات “السلام” في فلسطين وعودة بين سلطة محمود عباس والعدو الصهيوني. وطبعاً ما أن وقع الانقلاب حتى بدأ تدمير أنفاق غزة وبدأ العقاب الجماعي والترحيل للفلسطينيين والسوريين من قبل سلطات الانقلاب مصحوباً بموجة من التحريض الإعلامي ضدهم التي وصلت للتحريض على الإعدام الميداني. وأخذت سلطات الانقلاب تهاجم الحكومة التركية وتضيق على تأشيرات السفر بين البلدين واستدعت السفير التركي ثم التونسي.

وتوالت المواقف والتصريحات التي تشير للتغيرات الإقليمية وربما كان من أبرزها تصريح أحد أهم قادة الصهاينة، اللواء عاموس جلعاد، حين كال المديح للسيسي وعبر عن فرحه لعدم وجود حلفاء لحماس في المنطقة الآن، وتحدث عن عودة المحور الموالي لأميركا في المنطقة وذكر بالإسم مصر والسعودية والاردن، قائلاً ان دول هذا المحور تدرك أن مصالحها مرتبطة بمصلحة إسرائيل. وقد شاركه مسؤول صهيوني رفيع آخر الرأي حين قال أن المحور المعادي للإخوان المسلمين هو “محور العقل” في المنطقة. يذكر هنا أن جلعاد كان قد صرح في نوفمبر الماضي أنه لا يرى سوى فرص ضئيلة للمحادثات بين اسرائيل وحكومة مرسي وأن “الرئيس المصري مرسي لا يستطيع أن ينطق عبارة دولة إسرائيل” وأنه “لا يوجد أي حوار بين كبار المسؤولين الاسرائيليين وبين هذا الرئيس ولا اعتقد أنه سيكون هناك حوار”. في المقابل صرح نائب رئيس الوزراء التركي بأن الأنظمة الملكية العربية تريد نظاماً تابعاً لها في مصر وأنها تخشى من نجاح التجربة الديموقراطية وأنها ترغب في تحطيم محور الديموقراطية وحقوق الإنسان الناشيء في المنطقة و” من لا يستطيع أن يرى ذلك لابد أنه أعمى”.

كان المأمول أن تتطور دول محور الربيع العربي وتمضي في مشوارها وتجربتها قدماً، وهذا بدوره سيمنحها ثقل إقليمي يمكنها من لعب دور أفضل في كافة الملفات الإقليمية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية الدمقرطة وحقوق الإنسان. ومن النماذج المحتملة لذلك أن تقوم بعض هذه الدول بإنشاء تحالفات اقتصادية مغرية وفي نفس الوقت تتضمن الإنتصار لنواحي حقوقية معينة، وبإدخال دول ديكتاتورية في هذه التحالفات تكون هناك فرصة لدفع هذه الدول نحو المزيد من الدمقرطة وحقوق الإنسان عبر الإغراءات الاقتصادية والتنموية المختلفة أو عبر فرضها في شروط الإنضمام. وقد كان من المثير أن نرى قرار تونس بمنح مواطني الجزائر والمغرب وموريتانيا حرية الدخول الى اراضيها بدون جوازات سفر ومنحهم حرية التنقل والاقامة والعمل والاستثمار والاستملاك بل وحق المشاركة في الانتخابات البلدية (وتم استثناء ليبيا بسبب الظروف الأمنية) فما كان من الجزائر – كما هو متوقع – إلا أن رفضت الإنضمام لمثل هذه الخطوة.

خاتمة: هل مات الحلم؟

نحن رأينا الانتقال الديموقراطي في العالم العربي كخطوة في سبيل المزيد من الاستقلال الوطني وخطوة لترسيخ الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات وكخطوة لكسر جمود محوري “الممانعة” و”الاعتدال” وخطورة سياساتهما. نحن لم نر أن تجربة دول الربيع العربي إلا كخطوة في مشوار طويل والمهم منه هو الوجهة، على عكس من انغمس حتى قمة رأسه في انتقاد كل خطأ محتمل في هذه الخطوة الأولى وكأنها هي نهاية المشوار وآخر الطريق. وأحياناً أتسائل هل يدركوا أن فترة عامين ليست سوى أقل من غمضة عين في التاريخ؟ هل يدركوا مثلما يدرك اي إنسان أن الإصلاح والبناء يتطلبا وقتاً وجهوداً كبيرة ولا يأتيا بشكل تلقائي بعد إسقاط الأنظمة؟

حصل الإنقلاب في مصر فتراجعت كل أحلام الربيع العربي وخسرنا مصر التي كانت أكبر مكسب من هذا الربيع، وخسرنا أحلامنا بالمضي قدماً في الديموقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، وخسرنا أحلامنا في نشوء محور عربي جديد قادر مع مرور الوقت على مواجهة الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي معاً عبر التداول السلمي للسلطة وخضوع السياسية لسلطة الناخبين وللمراقبة الشعبية الفعالة. تعثر الحلم الكبير وكانت النتيجة المباشرة لوحدها تتمثل في آلاف القتلى والجرحى والأسرى. أما النتائج غير المباشرة فهي في علم الغيب وستتظهرها لنا الأيام.

أنبيك أن الحمى ملهب *** وواديه من ألم مفعم

ويا ويح خانقه من غد *** إذا نفس الغد ما يكظم

 خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق