الوسطيّة والوسطيّون.. نقد ومعالم مشتركة

الكاتب:

15 سبتمبر, 2013 لاتوجد تعليقات

يمكن أن أقسّم هذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام:

في القسم الأول منها تناولت فيه بالقراءة شخصيّات: (محمد عبده، مصطفى محمود، أحمد الشقيري، عدنان إبراهيم، سلمان العودة). والذي تمّت قراءته في هذا القسم هو مزيج بين شيئين: أولاً: ما تقوله الشخصية نفسها وما تركّز عليه في خطاباتها. وثانياً: طريقة نظر جمهورها إليها. عدتُ إلى محمد عبده لكونه من أقدم منظّري الفكر النهضوي ولما أضافته تجربته من دراسات ونقودات كثيرة، فهو بالتأكيد لا يُقارن بغيره من الأسماء المذكورة من حيث المكانة وعُمق الطرح والتجربة. واخترت مصطفى محمود لأنه وإن كان ينتمي لمرحلة تاريخية ماضية –وكذلك محمد عبده- إلا أنه يبقى حاضراً باقتباساته وأفكاره والتصوّرات عنه. واخترت أحمد الشقيري لحجم تأثيره في الوسط الشبابي في السعودية تحديداً، وكذلك سلمان العودة. أما عدنان إبراهيم فلأن الإقبال عليه –محاضراته على اليوتيوب- أصبح واسعاً جداً هذه الأيام صاحب ذلك جدل كبير حول آراءه ووصفه بالظاهرة. والنقطة التي أنطلِق منها هنا أن هناكَ شيءٌ ما يجمع بين هذه الأسماء، سواءًا على مستوى الخطاب أو على مستوى التفاعل معهم. ليست هذه دراسة استقصائية لجذور ما أراه يجمع بين هذه الأسماء بالكامل بقدر ما هي محاولة لرسم حدود مشتركة بينهم، بالتأكيد هناك أسماء مرشّحة لذكرها (طارق السويدان مثلا، وغيره كثير)، لكني فضّلت أن أكتفي بالأسماء المذكورة بدلاً من استطراد وتوسُّع يقود إلى تسويف وتأجيل.

والقسم الثاني منها كان أقرب إلى تحليل اجتماعي بسيط، مستعرضاً فيه دراسة ميدانيّة قام بها مركز أسبار للدراسات عن نسبة مشاهدة البرامج الدينية في السعودية.

والقسم الثالث منها كان نقداً فكرياً خالصاً ركّزت فيه على ثلاث نقاط: (اختلاف الدرجة لا النوع، الوسط مُحدِّد غير مُحدَّد، القراءة النهضويّة للتراث).

ليست دعوايَ هنا أني أضعهم في دائرة واحدة ضيقة مما يجعل هذه الانتقادات تنطبق عليهم جميعاً بشكل مباشر. لا يمكن تبسيط الأمر هكذا، فمحاولة رسم حدود مشتركة لا تعني أن هذه الحدود جامدة صلبة. ففي الحقيقة، توثيق قول كل شخصية ورؤية ما إذا كان مناسبا أم لا توجيه نقد معيّن لها، يستلزم جُهداً ليس هذا مكانه.

القسم الأول: الوسطيُّون النهضويُّون.

– قديماً.. كان محمد عبده والإصلاح الإسلامي:

قديماً، في نهاية القرن التاسع عشر، كان “الإمام محمد عبده” رمزا للتجديد الديني والإصلاح الإسلامي. شيخ وأصبح فيما بعد مفتيا للديار المصرية، لكنه عنيف جداً في انتقاد المشايخ التقليديين “المعممين” والوعاظ، يدعو إلى تحرير العقل العربي من الجمود، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة العصر وظروف الزمان، وصُنِّفَت أكثر جهوده “التجديدية” في مجال “التجديد الفقهي”. يُمدح من قبل العديد من النخب العربية (قصيدة حافظ إبراهيم فيه مثلا) بوصفه المتمكّن من الرد على ضلالات العصر وتعصب المستشرقين.

في كتابه (الإيديولوجيا العربية المعاصرة- نشر 1967) يقسّم المفكر المغربي عبدالله العروي ثلاثة تيارات أساسية بناءً على رؤيتها لأهم مشكلات المجتمع العربي الحديث، الأولى منها هي ما يهمنا هنا، وهي التي ترى مشكلة المجتمع العربي في (العقيدة الدينية المشوّهة له): وذلك هو نموذج (الشيخ). الذي أسقطه واستمدّ تحليله من شخصية الإمام محمد عبده.

من أهم الأفكار المتكررة في خطاب (الشيخ) بحسب تحليل العروي: أن الإسلام عقيدة مدعومة بحجج العقل وبُعد النظر، ليس فيه إلا الحض على الرفق والتسامح، وهو في جوهره التوحيد المطلق العاصم من عبادة أي سلطان غير الله؛ بشرياً كان أو طبيعياً، وهو الضامن لكل فرد حريته واستقلاله. يستحضر (الشيخ) أمجاد التاريخ الإسلامي (إنشاء المأمون لبيت الحكمة وترجمة كتب الفلسفة والطب والمنطق) والأندلس التي هي رمز العقل الذي كثيراً ما أهملناه وأسأنا معاملته فغادر أرضنا، وسيعود بمجرد اعترافنا بهذا وعودتنا له واسترداده من (الغرب). يميز (الشيخ) بين إسلامين: إسلام متعالٍ أصيل غير ملطّخ بعوارض الزمان صافٍ إلا من النور والعقل والحكمة. وإسلام خاضع لأهواء المسلمين محرّف مشوّه على مدى القرون والأجيال، وهو سبب ضعف المسلمين.

– مصطفى محمود.. مفكرا يجمع بين العلم والإيمان:

في الستينات والسبعينات عرف الناس الدكتور مصطفى محمود بكتاباته، وبعدها ببرنامجه الشهير: (العلم والإيمان). أما كتاباته وكتبه فكانت لها شعبية وشهرة على مستوى العالم العربي يُحسَد عليها، ومن تلك الكتب: (رحلتي من الشك إلى اليقين)، (الإسلام والماركسية)، (حوار مع صديقي الملحد)، ومنها كتاب: (القرآن، محاولة لفهم عصري) الذي سبّب ضجة في وقته وأثار ردود فعل عدّة من قبل الكثير من المشايخ والأزهريين.

جماهيرية الدكتور مصطفى محمود، بحسب وصف الدكتور فؤاد زكريا، المفكر المصري وأستاذ الفلسفة، يأخذ فيها أمام الجماهير مظهر: المفسّر الديني، والحكيم الفيلسوف، والعالِم المطلع. (فالقارئ المتدين ينبهر حين يقرأ لدى الدكتور مصطفى محمود تفسيراً دينياً مطعّماً بعبارات فلسفية ومصطلحات علمية. والقارئ الباحث عن حكمة الحياة وفلسفتها ينبهر حين تقدَّم إليه الفلسفة في إطار ديني وعلمي. والقارئ الذي يستهدف حقائق العلم ينبهر حين تُعرض عليه هذه الحقائق مرصّعة بحكم فلسفية ومؤيدة بنصوص دينية. وهكذا يقدّم الدكتور مصطفى محمود “توليفة” فكريّة تُرضي جميع الأذواق). فؤاد زكريا، كتابه: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل.

– أحمد الشقيري.. لستُ عالما ولا مفتيا:

الإعلامي الأستاذ أحمد الشقيري والذي بدأ حضوره الإعلامي في 2002 ببرنامج (يلا شباب) ثم تلاه برنامجه (خواطر) الذي لاقى قبولا وشعبيّة شديدة جداً في المجتمع السعودي والأوساط الشبابية فيه، وكانت السنوات 2009/2010 (بدايةً من موسم خواطر من اليابان) هي أكثر السنوات بروزاً له وتأثيراً، وصاحبت تلك الفترة انتشار العمل التطوعي وتوثيقه كنشاط مجتمعي حيوي على الفيسبوك.

يعرّف نفسه الأستاذ الشقيري بعبارة (لستُ عالماً، ولا مفتياً، ولا فقيهاً، ولا شيخاً.. أنا طالب علم) في إشارة إلى كسر التمايُز الاجتماعي الذي تولّده مع الجمهور هذه الكلمات، يدعو وبشدّة إلى استلهام النماذج الحضارية النهضويّة من كل دول العالم وتفعيلها في الدول الإسلامية فـ(الحكمة ضالة المؤمن)، ويربطها دائماً بالمبادئ الأخلاقية في الإسلام، ويعرّف بالحضارة الإسلامية ورموزها ويُعيد كثير من المظاهر إليها.

يؤكّد على الالتزام بالثوابت الإسلامية ويدعو لخلق وعي ديني جديد والتفكير ويستشهد بقصة إبراهيم الخليل في التساؤل والشك، يخصّص حلقات للرد على الشبهات حول الإسلام، يعرض الفتاوى التي تمثّل نماذجا للتطرُّف ويحث كثيراً هؤلاء الشيوخ إلى مراجعة الواقع الذي يعيشونه. يذكُر الشقيري من المشايخ الذين تأثّر بهم: محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، سلمان العودة.

– عدنان إبراهيم.. الشيخ المثقف الفيلسوف:

من حوالي سنتين عُرِف اسم الشيخ الدكتور عدنان إبراهيم (يقيم في النمسا ومنها يلقي خطبه ودروسه وتنشر على اليوتيوب وصفحته على الفيسبوك) ولاقى قبولا ورواجا في أوساط العديد من الشباب العربي كنموذج يجمع بين العلم والفن والثقافة والفلسفة مع الدراية الدينية والتمكن في العلوم الشرعية. كان له حضورا ملاحظا وسط الكثير من الشباب السعودي، وبدأت تنتشر وتُعرَف خطبه ومقتطفات متضمنة كلماته وآراءه.

من بين الأسماء الحاضرة في مشهد الخطاب الإسلامي يُعَد عدنان إبراهيم من أكثرهم جرأةً وكسراً للتقاليد المتّبعة للمشايخ، سواءً في الشكل والمظهر أو في مضمون وأسلوب الخطاب، تُلاحَظ ملامح هذه الجرأة في الجدل الذي سبّبه بسبب آراء متعلّقة بالسنة النبوية، والصحابة، وآراء في الأحداث والشخصيات التاريخية، وإعمال العقل. يعرّف نفسه الدكتور بشكل مجمل كشافعي في الفقه، أشعري في العقيدة.

يُلقي عدنان إبراهيم محاضرات عدّة في الفلسفة، ويناقش قضايا الفكر الديني بجرأة، ويتناول مسائل الإيمان والإلحاد بتفصيل. يضمّن خطبه اقتباسات عن مفكري وفلاسفة الغرب، ويستحضر نماذجا من تاريخ الفن، وتفسيرات علميّة من الأحياء والفيزياء وغيرها.

من المسائل التي يُمكن ملاحظة تكررها أو تركيز عدنان إبراهيم عليها: – مسألة (العوام)، فيصفهم بأنهم جمهور ضاغط يلقي ما يريده ويفكّر فيه على الخطيب الذي يعطيهم ما يريدونه. وعليه يركّز كثيراً على الدعوة لإعمال العقل والنظر ويمجّد الاختلاف والشعور بالغربة وعدم الانخراط في الجمهور والوحدة في البحث عن الحقيقة. – ومسألة (الوعّاظ والفقهاء الجهلة) الذين استبدّوا بعقول الناس واستتبعوهم وشغلوهم بتفاصيل فقهيّة تافهة بعيدة عن هموم العصر الحقيقيّة وتسبّبت في جر الأمة الإسلامية لإنتاج المزيد من المشكلات. بحسب تعبيره.

– الشيخ سلمان العودة.. الشيخ الشبابي:

لا يُذكر الشيخ سلمان العودة إلا وتُذكر معه تحوّلاته خلال العقدين الماضيين المنعكسة على خطاباته، وكونه استقرّ الآن على ما يُقال له: “منهج وسطي معتدل”، فهو من ناحية يدعو إلى “التسامح” و”الاعتدال” والتحذير من التعصب والغلو وعدم إدخال الأهواء الشخصية في مرادات الله والدين.

ومن ناحية أخرى، للشيخ سلمان العودة برنامج يوتيوبي بعنوان: (وسم)، تابع لشركة (يوتيرن) التي عُرِفت بإنتاج العديد من برامج الإعلام الجديد. ومحتوى البرنامج تعليقات بعبارات أدبيّة على بعض المشكلات والآداب الاجتماعية. كان هذا البرنامج شكل من أشكال العلامات على (شبابيّة) الشيخ سلمان العودة كونه متصلا بروح الشباب مشاركاً لهم في أدوات إنتاجهم.

ويحظى حسابه على تويتر على أكثر من ثلاثة ملايين متابع، ويغرّد في شتى النواحي: الحب والحياة والأدب والأخلاق والابتهال إلى الله والأحداث الاجتماعية والسياسية.

القسم الثاني: الإقبال على “الوسطية” في السعودية:

هناكَ شيءٌ ما يجمع بين كل هذه الأسماء المذكورة سابقاً، خطٌّ واحدٌ مشترك، وفي الحقيقة يمكن تتبُّع ثناء وإشادة أفراد هذا الخط بعضهم لبعض، فمصطفى محمود يستعين في نقولاته أحياناً عن محمد عبده، وعدنان إبراهيم يثني ثناءً كبيراً على مصطفى محمود ويعتبره متنوراً وجسراً بين الشرق والغرب، وسلمان العودة يثني على عدنان إبراهيم في جانب ويتحفّظ منه من جانب آخر، وأحمد الشقيري يكاد يثني على هذه الأسماء كلها. وهكذا. صحيح أن فعل (الثناء) هذا بالعادة لا يعدو كونه أدباً و”ذكراً بالخير” يحصل حين يُسأل أي شخص عن شخص ما، لكن الأمر مختلف هنا لأنه يأتي في سياقات أحاديثهم كإشادة وإشارة إلى ما هو مشترك.

قام مركز أسبار في عام 2005 بدراسة مسحية شملت جميع مناطق المملكة بعنوان: (الشباب: مشكلاتهم وتطلعاتهم) وعدد أفراد عيّنة الدراسة: 3150 من الجنسين. وحدّدت الدراسة نسبة من يشاهدون البرامج الدينية في التلفزيون، بانتظام، أو أحياناً، بـ80% من العينة. قالت الدراسة كذلك: (النتائج تؤكد أن الجمهور ورغم كل شيء يبحث عن المادة الجادة وخاصة المادة الدينية التي تنمّي ثقافته الدينية في ظل التغيرات السريعة التي تعصف بالمجتمعات الإسلامية ومن ثم ضرورة حضور الدين في حياتهم)

يشير قول الدراسة (الجمهور يبحث عن المادة الدينية التي تنمي ثقافته الدينية في ظل التغيرات السريعة) إلى جوهر هذا الإقبال على الاهتمام بأطروحات “الوسطيُّون”. الخوف من هذه التغيرات السريعة في العالم والانفتاح إليها والحاجة إلى اتخاذ موقف فيما يُقبل ويُرفض منها يولّد حاجة لثقافة دينية متماهية معها بعيدةً عن اضطرابات الخطاب التقليدي الغير متعايش معها. وبهذا نرى تَوق مُلِح على أي عبارات تضع هويةً ثابتةً أسمى “أسس العقيدة الإسلامية” وتفتح المجال بشكل أوسع لما هو متحوّل ومتغيّر وحاضر “تغيرات العالم-كل ما قد تجلبه لنا العولمة”. وبهذا يجعل هذا الموقف من نفسه حلاً ناجحاً لمعضلة الهوية حين تلتقي بالآخر.

القسم الثالث: نقد الخطاب “الوسطي”:

ربما كانت أكثر النُّقَط إشارةً إليها أثناء الحديث عن مشكلات الخطاب “الوسطي” (انظُر مثلا: نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبوزيد)، هي نقطة أن الفرق بينه وبين الخطاب المتشدد المتطرّف اختلاف في الدرجة لا في النوع، وأن كلاهما يقف على أرضية واحدة، ما الذي تعنيه هذه العبارة التي تشير إلى ما هو مشترك ومفترق بين الخطاب الوسطي والخطاب المتطرف؟ عن أيّة درجة وأيّة نوع نتحدّث وما هي الأرضية الواحدة؟ يحيلنا هذا السؤال إلى محاولة لرصد ومقارنة ما هو متشابه وما هو مختلف بين الخطابين.

1- اختلاف الدرجة لا النوع، وفكرة الكهنوت:

في دراسته لما أطلَق عليه (الحقل الديني)، عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، يمكن تمييز “الحقل الديني” من سائر الحقول الأخرى في المجتمع فيما هو (مجموعة من الخيارات الرمزية التي تهم مجال المقدّس. حول هذه الخيارات تمارس سلطة الإنتاج التعريف وإعادة الإنتاج لفائدة جماعة مختصة في المقدس). وبعيداً عن معنى هذه (الفائدة) أكانت رمزيّة أم اقتصاديّة أم سياسيّة. سُلطة الإنتاج هذه التي يلاحظها بورديو هي (ذات طابع اعتباطي، تؤدي إلى خلق تراتبية معينة، تقوم على سلطة معرفية تحدد ما هو أجدر بالاعتقاد). نتيجة لتمايُز هذه السلطة واختصاصها بتعريف وإعادة إنتاج الدين في المجتمع، (يوجد اختلاف دائم، في المواقع، بين المتخصصين في المقدس، وغير المتخصصين). وستظهر النزاعات والاختلافات داخل الحقل الديني (عندما تحاول جماعة من غير المختصين في المقدس، أن تعطي تعريفاً بديلاً عن تعريف المتخصصين في المقدس، تعريفاً مغايراً). (انظُر: في موقف علم الاجتماع من التدين، مجلة فكر ونقد، لحسن خوخو). وبالنسبة لبورديو، يشكّل كل حقل من ناحية (مساحة من الإمكانيات) متاحة للعاملين فيه، يهتدون إليها ويعودون إليها. ومن ناحية ثانية (مساحة صراع) يتواجه فيها الفاعلون أو المهيمنين على الحقل لاكتساب مواقع جديدة حسب (قواعد اللعبة)، فلكل حقلٍ قوانينه وقواعده. (قواعد اللعبة) هذه هي المشترك بين الفاعلين الذين يأخذون مواقعاً مختلفاً داخلها، وهي (الأرضيّة المشتركة) التي أتحدّث عنها حين أنسب الفروقات بين الخطاب الوسطي والمتطرف إلى أرضية واحدة.

رغم أن محمد عبده يُنكِر بشدة وجود “سلطة دينية” في الإسلام، ويرى أن في جوهر الرسالة الإسلامية الانقلاب على هذه السلطة. تتجاهل هذه النظرة حقيقة أن النص الديني الإلهي المُوحى به شيء، وتمثُّل الدين بشكل اجتماعي أو سياسي شيء آخر. فوجود “سلطة دينية” أو “طبقة رجال دين” هي مفاهيم وقراءات اجتماعية أو سياسية، يهمّها الواقع المعمول به طوال القرون الماضية، وليس قراءة أو تأويل ما يقوله المصدر الإلهي نفسه. يقول محمد عبده في رده على وزير الخارجية الفرنسي جابريل هانوتو 1912م: (لا يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به من أحدٍ إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، دون توسيط أحد من سلف ولا خلف). وفي باقي كلامه ينفي بصراحة وجود سلطة دينية في الإسلام. لكن ننتبه هنا لأمرين تجعل ذلك التفريق الذي نقلته عن بورديو والتراتبية التي تنشأ بين (المتخصصين في المقدس) و(الغير متخصصين فيه) شيئاً حاضراً في وعي الشيخ: الأول/ استطراده بعد هذه الجملة مباشرةً: (وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم). و”وسائل الفهم” هذه هي عند أولئك المتخصصين، الذين يقدّمون العلوم العقلية والنقلية بعضها كأدوات وبعضها كغايات. وإذا ما كانت حالة الشخص لا تسمح له بالوصول إلى هذا الفهم فليس عليه إلا (أن يسأل العارفين بهما). الأمر الثاني/ أن عبارة الشيخ نفسه هذه بذاتها هي حكم ديني “لا يجب، لكل مسلم أن يفهم..” من رجل دين “متخصص” وتولى دار الإفتاء في مصر. ما يريد أن ينفيه الشيخ هو يتحدّث من منبره. ولكن ما علاقة التفريق بين المتخصصين في المقدس والغير متخصصين بالسلطة الدينية؟ أقول هنا أن التسلُّط الديني في شكله الكنسي ليس هو الشكل الوحيد لنشأة ما يمكن تسميته: سلطة دينية، أو لنكُن أدق: تسلُّط ديني، فمع بقاء حال الشأن الديني باعتباره أكثر مجالات الحياة البشريّة عموميّةً في مواضيعه وهيمنةً على كل نواحي الحياة ووجدان الأفراد، يصبح وجود هذا الفرق بين (المتخصصين) و(الغير متخصصين) هو بذاته يُنشئ سُلطة تحدّد ما هو أجدر بالاعتقاد والممارسة وتوجِّه الحياة الاجتماعية بحسب ما تراه. فتبقى سُلطة الفتوى وسُلطة الشيخ وسُلطة المسجد حاضرة كشكل آخر من أشكال الكهنوت في المعنى الاجتماعي على الأقل. خاصّةً ونحن نتحدّث عن المجتمعات العربية التي يأخُذ فيها الدين من حيث تأثيره موقعاً أكثر تميّزاً وخصوصيّةً بالنسبة إلى مجتمعات أخرى.

يلاحظ المفكّر محمد أركون أنه (لم يكن هناك تنظيم مراتبي هرمي لرجال الدين في الإسلام كما هو الحال عليه في المسيحية الكاثولويكية حيث يقف البابا على رأس الهرم، لكن توجد هيئة من الفقهاء المختصين بالقانون الإلهي تُدعى هيئة كبار العلماء). و(يؤدي رجال الدين في الإسلام نفس الدور الذي كان يلعبه كهنة الكنيسة المسيحية في فترة ما قبل الفصل بين الدين والدولة في الغرب). فمن السهل أن نقول بأنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، نظرياً نعم، ولكن عملياً لا. (هناك كهنوت بدون شك بل ويلعبون اليوم دوراً مؤثراً. انظُر الفضائيات العربية حيث تمتلئ ببرامج المشايخ وأحاديثهم ومواعظهم وفتاواهم وأحياناً كثيرة بأساطيرهم وخرافاتهم). وعليه يُصبح وصف (رجال الدين) كطبقة في المجتمع وصفاً مُلامس لواقع يُلائمه.

يمكن أن نفهم من توصيف “المتخصصين في المقدّس” أو “المتفرّغين لخدمته” كل من تشمله طبقة الدعاة والعلماء والمشايخ وأئمة المساجد وطلبة العلم والمتصدّرين للحديث الديني، لا أفرّق هنا بين الانتماء للمؤسسة الدينية الرسمية أو عدمه. الآن السؤال: هل يخرُج كاستثناء عن هذه الطبقة رجل كعدنان إبراهيم مثلاً، يرتدي غير ما يرتديه هؤلاء، ويقدّم أفكاراً مختلفة، وأكثر تعايشه وحضوره الاجتماعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟

لا بد أن نفرّق بين أمرين: أولاً/ الدراسة المعنيّة بدوافع المشايخ الفاعلين، من داخل خطاب المشايخ نفسهم، وأقصد ما يقوله وما يريده عدنان إبراهيم نفسه. وثانياً/ الدراسة الموضوعيّة الخارجيّة للظاهرة، المعنيّة بتفاعُل الجمهور معه. تأتي أهمية هذا التفريق –في حالة مثل عدنان إبراهيم- أننا سنلاحظ في نفس اللحظة التي يتحدّث فيها عن الاغتراب والتفكُّر الحرُّ المستقلُّ في البحث عن الحقيقة والعقلانية في الوصول إليها، هو يُلقي كلامه هذا في مسجد ومن خطبة جمعة وعلى مستمعين كثُر يأخذون بكلامه. ربما لا يكونُ هو بذاته المُلامُ هنا – وربما يكون، هذا ليس المهم هنا ولا هو مجال بحثنا-. ما يهمنا هو ملاحظة أن بُنية المشهد (خطيب جمعة يُلقي في مسجد على جموعٍ من المؤمنين)، هذه البنية بطبيعتها تصنع أتباعاً لا مفكّرين. تصنع جمهوراً وشيخاً يقدّم له الإجابات، مهما كان مضمون الخطاب يحث على التفكر والاستقلال الفردي. فحين يتحدّث عدنان إبراهيم عن البحث الوجودي عن نشأة الكون وأصل الحياة ووجود الله وقضايا الإيمان، هو يقدّم هذه كمادة للجمهور الذي رغم كل هذا النقاش هو يحضر هنا بصفته مؤمنا ليغتني إيمانه بها. لا كبحث مستقل يجريه كل فرد حاضر. في الحقيقة، مجرّد فعل حضور الجمهور إلى المسجد للاستماع، -وهذا كما قلتُ سابقاً: شيء في طبيعة المسجد نفسه لا في ذات خطاب الشيخ ولا في اختياره- يجعل من هذه “التجربة الوجودية” تجربة “جماعيّة” بدلاً من أن تكون “فرديّة”، وتجربة محسومة نتائجها قبل حتى أن يخوضها كل فرد من هذا الجمهور.

إذا اعتبرنا أن المضمون الحقيقي “للتحديث والتنوير والتعقُّل” المنشود هو في الأدوات المعرفيّة التي سيستعملها أفراد الجمهور مستقلين عن الشيخ الموجِّه لهم، فإن العلاقة التي تنشأ بين الشيخ والجمهور في حالة مثل عدنان إبراهيم، هي لا تتضمّن هذا التفرُّد المعرفي بقدر ما ترسّخ التعاطي مع المُلقي الذي يسمعون له بوصفه “مخلّصاً” و”أماناً” من كل فوضى الأفكار العصريّة الحديثة المهدّدة للهوية. فهو من يخوض غمار الفلسفة والكلام والعلم والفن وهو من يقدّم لنا خلاصات النتائج ويمزجها بمعرفتنا الدينية التي يطوّرها لنا، هكذا يُنظر إليه من قبل جمهوره.

لو عدتُ مرّة أخرى لفكرة (الاختلاف في الدرجة لا في النوع) سنجد هنا أن الفرق الذي ينشأ بين نظرة جمهور عدنان إبراهيم وجمهور غيره من المشايخ التقليديين؛ هي أنه لا يخاف الخوض في كلّ المسائل التي قد يبدو محرّماً البحث فيها ومناقشتها عند غيره. وسنجد أن مشكلة عدنان إبراهيم هي مع الفقهاء والوعّاظ الذين “يستبدّوا بعقول العوام ويشغلوهم بمسائل تافهة” ومع تولّي “الإفتاء ذلك المنصب العظيم” لأشخاص عاجزين فاشلين، ومشكلة محمد عبده مع “جمود الفقهاء والتقليد وعدم إعمال العقل في فهم النصوص”، لكنّ ذات فكرة “توجيه الخطيب أو الشيخ للناس وإفتاءه في أمور دينهم ودنياهم وما ينبغي أن يقبلوه ويرفضوه” وبقاء موقعه هذا كسُلطة رمزية مسيِّرة للناس، هي ليست المشكلة، طالما أن هذا الخطيب جامع للصفات العلميّة والعقليّة ويتحدّث بوعي في قضايا العصر. إذن يمكن لنا أن نقول أن الدرجة المختلفة هنا: مقدار ما يتّسم به الخطاب الوسطي من “تجديد” ووعي بقضايا العصر. والنوع المتفق عليه هنا: تعاطي الجمهور مع كلام الشيخ بوصفه قائداً موجِّهاً كسُلطة راسخة للإجابة عن الاحتياجات الدينية.

حينَ تُستبدَل الفتوى المحرّمة للغناء والموسيقى أو متابعة برامج تلفزيونية -مثلاً- بفتوى تُبيح ذلك أو تضع له “ضوابط” أقل، فالذي يتبدّل هنا هو فقط (اتجاه الفتوى) أما حضور الفتوى التي قد تكون “معتدلة عصريّة” وقد تكون “متطرفة رجعيّة” فهو أمرٌ باقٍ كما هو. وحينَ يتمّ التنازُع في الحكم على أحداثٍ وشخصيات تاريخيّة (معاوية بن أبي سفيان مثلا) ويتم الاستشهاد بنصوص دينية في مساندة هذا الحكم أو معارضته، فما يختلف هنا هو (اتجاه الحكم) نفسه؛ أما الآليات فهي نفسها: تثبيت فكرة التعامل مع النصوص الدينية والتراث كمراجع مهيمنة على خلافات الواقع. إذن كل ما يحصُل فهو اختلاف في المواقع داخل نظام واحد، وليس بحثاً عن نظام بديل.

2- الوسط.. مُحدِّد غير مُحدَّد:

بالعودة إلى التراث اليوناني القديم، نجد حضور فكرة (الوسط) في نظرية الأخلاق عند أرسطو، فـ”الفضيلة وسطٌ بين رذيلتين”. ولأن (الوسط الأخلاقي) ليس بسهولة حساب الوسط الرياضي بين عددين، ولأن فكرة (الوسط) لا تصلُح لأن تكون منهجاً فهي متغيّرة واعتبارية، فالعقل هو ما سيقوّمها، حتى لا تكون حكماً اعتباطياً. ثم يُفرِد أرسطو في كتابه (الأخلاق إلى نيقوماخوس) باباً لـ”تطبيق العموميات على الحالات الخاصة”، حتى يبيّن لماذا تُعد هذه الصفات فضائل: الاعتدال، السخاء، الثقة بالنفس، الصدق، البشاشة، الشجاعة، الصداقة؟ ويوضّح -بإسهاب- طرَفي الإفراط والتفريط فيها. يعلّل أرسطو وجوب لجوءه إلى بيان هذه الأطراف وتحديد الوسط منها بقوله: “متى تناول التفكير الأفعال الإنسانية، كانت هذه العموميات فارغة بعض الشيء، وكانت التحاليل الخصوصية أكثر انطباقاً على الحقيقة”. فبالنسبة له الاستعمال العمومي لكلمة (الوسط) فارغ ولا يدل على شيء بذاته، والتحليل الخاص هو ما سيُرشد إلى الحقيقة.

إذن، كانت فكرة (الوسط) عند أرسطو ليسَت شعاراً ولا حكم اعتباطي على الأخلاق، كان واعياً بحقيقة أن الوسط هو تصوُّر ذهني لأطراف متعدّدة. وأن “الوسطيّة” بحد ذاتها فيها من الغنى والتنوع والاتساع ما يجعل تحديدها ملتبساً ما لم يكُن مصحوباً ببيان وتحليل مُسهِب لأطرافها.

بسبب الطبيعة الاستهلاكية والفوريّة للإعلام المعاصر كانت كلمات مثل: (الوسطيّة والاعتدال) لها بريقٌ وأصبحت شعاراً جذّاباً، وبحكم ظهور المشايخ “الوسطيين” على وسائل الإعلام حصلَ منهم نوع من الاستجابة لها جعل حضور هذه الكلمات على ألسنتهم متكرّراً. –لا ننسى كيف كانت أيّام ما عُرِف بـ”ظاهرة الدعاة الجدد”-. الوسط لا يقول شيئا، بل هو يعطي لنفسه الحق في الحكم على الأطراف من غير جدل حقيقي معها. وبجمال هذه اللفظة: الوسطية، يستجلب لنفسه شرعية هذا الحكم ويغلق على نفسه باب الجدال في أحكامه. يُلاحَظ هنا أنّ التعبير عن وصف المنهج باعتباره (وسطياً معتدلاً) يكون حضوره عند جمهور كلاً من الأسماء المذكورة أكثر من حضوره في كلام المتحدّث نفسه ووصفه هو لمنهجه بذلك، باستثناء محمد عبده الذي كان في عصرٍ غيرَ الذي راجت فيه كلمة الوسطية.

يذكُر الشيخ سلمان العودة أن الأخذ بمنهج “الوسط” وحده لا يكفي، ففي لقاءه في برنامج: حجر الزاوية، 2007، أكّد على ضرورة أن يكون للوسط معياراً يحدّده، وهو عنده: “النص الشرعي” وقارئ هذا النص –العالم أو الفقيه- الذي لو كان في تكوينه النفسي معتدلاً وليس منفعلاً، لكان مرشّحا لتحديد هذه “الوسطية”، بجمعه كل أطراف المسألة التي يحكم فيها. لكن ما يستوقفنا هنا أنه قد يبدو هذا “التحديد للمعيار” قوياً ومُحدِّداً في أول وهلة، مثل استصحاب أرسطو للعقل مُرشداً للوسط، لكن وجود هذا المعيار في الحقيقة يُلغي تماماً الترويج لفكرة “الوسطية” أصلا وينسفها، فهو سيجعل النص الشرعي في مركز ما ينبغي قراءته وملاحظته بكل تنوّعاته ومساحات التأويل الشاسعة، فالمهم هو ما سيقوله “النص الشرعي” لا ما إذا كان هذا الحكمُ “وسطياً” أم لا. وهذا يُعيدنا مرة أخرى إلى نقطة أن هذا الترويج المتكرّر لخطاب “الوسطيّة” هو ليس إلا تماهياً مع البريق الإعلامي الجاذب لهذه الكلمة، لا المؤصّل لها فكرياً.

3- القراءة النهضويّة للتراث:

أعني بالقراءة النهضويّة للتراث، القراءة التي تُحيل الأفكار المتعلقة بـ”نهضة الأمة” والقِيَم الإنسانية المعاصرة إلى معانٍ موجودة في التراث الإسلامي نفسه، فهي بضاعتنا رُدّت إلينا لأننا أفرطنا فيها. كتب محمد عبده كتابه (الإسلام بين العلم والمدنية)، وأحال مصطفى محمود الكثير من مكتشفات العلم إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية في برنامجه الشهير: العلم والإيمان، وفي محاضرة عدنان إبراهيم (النسبة الذهبيّة وسرّ الجمال) نجده مثلاً يستحضر من أحد الدارسين الأمريكيين للجمال والأعصاب فكرة أن (النسبة الذهبية= رقم 1.61) هي سرّ الجمال وأن وجود مكة المكرمة في الخريطة الجغرافية للعالم يقع تماماً على هذه النسبة مما يشكّل إعجازاً علمياً لحقيقة الإسلام، ويحيل أحمد الشقيري كل المنجزات الحضارية إلى معانٍ إسلاميّة ضيّع المسلمون اكتشافها وتناسوها. ولو استطردت أكثر لرأيت نماذج كثيرة من هذه النظرة التوفيقية: فعباس العقاد له كتاب (الديموقراطية في الإسلام)، ومحمد الغزالي كتب عن (حقوق الإنسان في الإسلام)، وعبدالحليم أبوشقة كتب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) والكثير مما يمكن تتبُّعه.

أسئلة مثل: ما هي علاقة الديموقراطية بالإسلام؟ ما مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام؟ ما دور الإسلام في تحرير المرأة والعبيد؟ يقف الباحث أمام أسئلة كهذه أمام علاقة يخلقها هو، تصوّرات ومفاهيم حديثة يُسقطها بأثر رجعي على النص الديني ليجعل من النص جوهرا لها نفياً أم إثباتاً. رغم أن هذه المفاهيم الحديثة أخذت من الفكر الغربي قروناً لتتطوّر وتأخذ أشكالها المستقرّة عليها الآن. يقف الباحث القارئ للنص الديني أمام أقوال متناقضة، أو بالأصح: قراءات متناقضة، فأمام كل قول يبدو أنه يدعو إلى تحرير المرأة يوجد قول آخر يبدو على أنه مخالف لذلك، وأمام كل قول يبدو كمساند للديموقراطية هناك قول آخر لا يبدو كذلك. وهكذا في كل المفاهيم.

خلال هذا التنوّع في قراءة النص الديني تتشكّل التيارات الإسلامية وتوجهاتها، والشيء الثابت بين كل هذه القراءات: أن كل نظراتنا لما هو أصلح وأنسب للحياة وللمجتمع وللحاضر لا بد أن تُستمَد من الدين، من  النص الديني، فموضوع الدين هو موضوع كل ما في هذه الحياة من دقائق ومجملات. فالخيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نتخذها لا نسأل هل هي أفضل وأصلح؛ بل هل هي إسلامية أم غير إسلامية، فالدين هو دين ودنيا ودولة ومجتمع وحياة ورؤية شمولية للكون ولا يمكن أن يكون غير ذلك، عند أصحاب هذه النظرة. والفكرة المختبئة خلف هذا كله –بتشويه لها- أن (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، وبالتالي لا بد أن يكون كل ما قد يكون أفضل في تنظيم الحياة السياسية أو الاجتماعية موجوداً في النص الديني حتى يصبح مشروعاً. والمشكلة دائماً أنه مع مرور الوقت واستمرار هذا التصوُّر عن النص الديني تنشأ طبقة معيّنة تستأثر وتحتكر تأويلها للنص الديني وتجعل منه حكَماً على الحياة والأفراد. وفي الواقع؛ ليس المطلوب مصادمة الفرد المؤمن لتتغيّر نظرته هذه كلياً بقدر ما هو مطلوب أن لا تتحول إلى (رؤية محددة للإسلام صالحة لزمان ومكان محدّدين)، ويبدأ بعد ذلك قليلاً قليلاً تفكُّك هذا التصوُّر عن شموليّة النص المقدّس لكل مجالات الحياة وذكره لها بالتفصيل، بحيث يتم تحديد ما هو مجال الحياة الدينية وموضوع النص الديني وما هو مجال التنظيمات الدنيوية البحتة. الشيء الغير يسير بالتأكيد واستغرق جهوداً كثيرة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق