مخازي الإقطاع

الكاتب:

22 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

الإقطاع ـإذاًـ صيغة جديدة ومطورة من العبودية التقليدية المعروفة، فعوضاً عن أن تكون المعادلة الاجتماعية “عبد” مقابل “حر”، أصبحت “مقتطع” مقابل “مستقطع”، أو “مالك أصلي” مقابل “مالك ثانوي” أو “مانح” مقابل “ممنوح”، أو كما أصبحت في التطورات الأخيرة للإقطاع “مالك” مقابل “فلاح”.. لقد تحولت بهذه الطريقة فكرة العبودية التقليدية المباشرة إلى تاريخ .. واخترع الإقطاعيون طريقة أخبث لاستعباد الناس عبر امتلاك الأرض والتحكم المباشر فيها،
بقلم عبدالله العودة

في القرن الخامس عشر الأوربي.. وبالتحديد في بريطانيا وصل مايعرف بالإقطاع في أوربا إلى غاية أمجاده فالملك البريطاني الذي نجح في غزو مناطق وحدود جديدة أراد للأرض الجديدة أن تكون مستعملة من قبل الناس والشعب عبر عملية الإقطاع المنهكة والمعقدة ..

الملك ضمن الفلسفة البريطانية حينها “يملك” الأرض التي يحكمها ابتداءً فهو بالتالي يملك بشكل مباشر كل أرض يغزوها .. وأي ملاك ثانويين داخل كل تلك الأراضي هم متصرفون “يسمح” لهم الملك بالتصرف في تلك الأراضي، ويسمح لهم بحرثها والعمل عليها ماداموا يؤدون العمل الذي يرضي الملك .. فيصح حينها وصف تلك العلاقة بأنها إجارة، حيث إن الملك وهو المالك الأصلي يعطي المستأجر حق التصرف في الأرض مقابل إثبات الطاعة المطلقة والولاء للملك .. وإذا كان لي أن أستخدم السياسة الحديثة، فإن تلك العلاقة تقوم على (الأرض مقابل الولاء)!.

ضمن تلك الفلسفة الإقطاعية.. الملك هو المالك وكل ملك مالك. الملك يملك الأرض، ولكنه يؤجرها أو يستقطعها لمجموعة من الناس كي يعملوا بها، ولكن مع الوقت أصبح هؤلاء المستقطعون مؤجرين لآخرين كي يعملوا بها.

وهكذا تتشكل مع مرور الوقت عدة طبقات من المستقطعين الذي يعملون بالأرض: كل طبقة مدينة للطبقة التي تملك الأرض، أو بالأصح تستأجرها بشكل مباشر، وهذه الطبقة الأعلى مدينة كذلك لطبقة أعلى حتى تصل لطبقة الملك التي يوجد فيها شخص واحد هو الملك.

وفي المقابل، تشكلت طبقات مختلفة دنيا؛ كل طبقة تستعمل مجموعة أخرى والتي بدورها تستعمل مجموعة ثالثة وهكذا.. حتى لم يعد أحد في الأرض إلا وهو “دائن” و”مدين” في الوقت نفسه.. دائن للمجموعة التي يستعملها ومدين للمجموعة التي تستعمله.

ومع كل ذلك، فإنه في حقيقة الأمر لا يوجد عاملون حقيقيون في الأرض إلا المجموعة الأخيرة من الأسفل، والتي يصح أن نقول عنها بأنها الطبقة الأدنى، أو ربما تلك التي اصطلح عليها الماركسيون لاحقاً بالطبقة العاملة أو (البروليتاريا).

في تلك الطاحونة الإقطاعية، على كل واحد أن يكون جزءا من عملية استعمال الأرض كي يبقى في حدود الولاء للملك، وبالتالي أصبح المجتمع، كل المجتمع البريطاني، جزءا من منظومة الإقطاع.. وكل شخص في ذلك المجتمع هو مؤجر للأرض لمجموعة أدنى ومستأجر من مجموعة أعلى إلا طبقتين: طبقة الملك، والتي يوجد فيها الملك وحده، فهو مالك غير مستأجر.. والطبقة الأدنى من العاملين حقيقة في الأرض، فهم مستأجرون لا مؤجرين.

بهذه الطريقة، على الجميع أن يثبت الولاء عبر الأرض، وبقدر الولاء للملك البريطاني يزداد احتمال ملكية الأرض المؤقتة أو الاقتطاع، الذي في حقيقته استئجار من الملك، فالإقطاع يفترض أن كل أرض ليست لهؤلاء المستأجرين، الذين ربما شاركوا الملك أصلاً غزوه، بل هم الذين باشروا العمل وتحملوا كل أشغال الاجتهاد، بل هي للملك الذي “يقتطع” لمن يراه مناسباً، وفق ولائه المحض لشخص الملك.

والإقطاع يفترض أيضاً أن يكون المجتمع كل المجتمع مرتبطاً بشكل أو بآخر بهذه الأرض التي تعود ملكيتها في النهاية للملك، فبالتالي يستطيع الملك البريطاني (وهو صاحب الحق الأساسي) أن يجرد من يشاء من الملكية المؤقتة أو الإيجار كما يفعل أي مالك بأي أرض لأي غرض، ففي بلد الملك لا يوجد مالك مطلق لأي أرض إلا الملك وحده.

والملك البريطاني بهذه الطريقة يضمن ولاء كل المجتمع المتشكل من مجموعة من المستقطعين الثانويين.. إلى أدنى طبقة من المستقطعين، فالملك هو من أقطع وأعطى حق التصرف (المؤقت)، وهو يتصرف فيه ويرجع ملكه إليه حين يشاء.

وفي ذلك المجتمع الإقطاعي كيف يمكن أن تجري الأملاك .. وكيف يستطيع الناس أن يكونوا ملاكاً حقيقيين؟

مخازي الإقطاع فاحت روائحها حين أصبح المجتمع البريطاني كله مسلوب الإرادة للمالك الأساسي الوحيد لكل الأراضي والذي هو الملك.. مع أن الملك يمنح حق التصرف لكل مستقطع ثانوي في أرض لكن بشكل مؤقت ومشروط.

والملك بهذه الطريقة “يمنح” الأرض لمن يشاء متى يشاء، ومفردة “يمنح” هي أدق تعبير عن العمل المتبع، لأنها تعني أن الأرض أساساً وبشكل مباشر مملوكة للملك البريطاني، وأن أي مالك ثانوي من الناس هو في النهاية “ثانوي” ومؤقت ومشروط، وأيضاً فهي “منحة”، لأن الملك يتفضل ويمنح هبة وكرماً وجوداً لمن يشاء، جزاءً لولائه وإخلاصه لشخصه.

بهذه الفلسفة المخزية .. الأرض ابتداءً للملك، فهو مطلق التصرف، لا يدير وينظم الأراضي داخل الحدود وحسب، بل يمنح هذا ويعطي ذاك، ليكون العطاء مقابل الولاء، لا مقابل العمل والاستحقاق. لأجل كل هذا الذي حاولت توضيحه هنا، كان الفكر اليساري الذي ولدت الماركسية في أحضانه ناقماً على الإقطاع. 

الإقطاع ـ إذاً ـ صيغة جديدة ومطورة من العبودية التقليدية المعروفة، فعوضاً عن أن تكون المعادلة الاجتماعية “عبد” مقابل “حر”، أصبحت “مقتطع” مقابل “مستقطع”، أو “مالك أصلي” مقابل “مالك ثانوي” أو “مانح” مقابل “ممنوح”، أو كما أصبحت في التطورات الأخيرة للإقطاع “مالك” مقابل “فلاح”.

لماذا هي عبودية مطورة؟

ببساطة شديدة: كل المجتمع البريطاني كان مسلوب الإرادة للأرض.. ومرتهن بالعمل على هذه الأرض .. ومرتبط بعلاقات اجتماعية متشابكة وكثيرة، تنتهي إلى أن هناك مالكا واحدا نهائيا للأرض، يمنح ويعطي ويسترد بكل استحقاق.

الملك البريطاني ـ إذاً ـ ضمن ولاء الناس وضمن هذه العبودية الجديدة عبر ابتزاز الناس بالأرض وتخويل من يشاء ومنع من يشاء .. هذه الأرض التي في النهاية لا يملكها الملك إلا لأنه زعم أنه يملكها دون الناس.

لقد تحولت بهذه الطريقة فكرة العبودية التقليدية المباشرة إلى تاريخ .. واخترع الإقطاعيون طريقة أخبث لاستعباد الناس عبر امتلاك الأرض والتحكم المباشر فيها، واختراع فكرة أن الأرض كل الأرض تنتهي لهذا المالك الوحيد.

حتى هذه الصيغة الإقطاعية تطورت بأشكال مختلفة وتشكلت في بلدان مختلفة بأشكال أخرى .. وخفت حدة الإقطاع الأساسي وأفكاره الرئيسية، ولكن بقيت بعض عناصره المهمة في الذهنية المرتبطة بالعقار في بعض بلدان العالم الثالث.

على سبيل المثال: الأرض في الإقطاع المخفف قد لا يشترط أن يكون كل الناس مرتبطين بأرض واحدة، ولا يشترط أن تبقى صيغة المالك/الفلاح، وربما حتى يتيح حق البيع والشراء والتملك المباشر لآحاد الناس وأفرادهم، ولكنه يمنع حق الإحياء المباشر من قبل الناس، ويمنع حق التملك عبر الاستعمال للأرض الخالية أو الميتة كما يعبر الفقهاء، ويستبدل ذلك بفكرة “المنح” التي تعيد للذهن الفكرة المخزية في أن الأصل تملك هذا المانح للأرض وأن الممنوح هو فرد مختار إما بسبب الولاء الشخصي أو شيء آخر.

بيد أن هذا المنح .. قد يأخذ صيغة الملكية المطلقة فهذا الممنوح يملك مطلقاً وبشكل نهائي تلك الأرض الممنوحة.

بهذه الطريقة.. الإحياء ليس عبر الإحياء المباشر المنظم الذي يبعث التنافس وإعمار الأرض بل عبر “المنح” الكريمة السخية .. تماماً كما كان يمنح الإقطاعي الكريم السخي فلاحيه وعماله.

هذه الصيغة أيضاً تفترض أن الأرض ليست ملكاً عاماً للناس دور الجهة القانونية تنظيمه، بل ملكاً خاصاً للسياسي يمنحه لآحاد الناس وأفرادهم، وأغرب ما في هذه الفلسفة الأخيرة هو أن لفظ الملكية قد لا يبدو حاضراً وهذا أخطر ما في المعادلة.

السياسي ـ هنا – قد لا يزعم بشكل مباشر أنه يملك كل أرض ولكنه يتصرف في كل أرض خالية، تصرف المالك في المنح والعطاء وانتقاء المالكين وحرمان من يشاء وإعطاء من يشاء، مما يذكرنا بالاصطلاح الفقهي الذي عرفه أذكياؤهم في التاريخ الإسلامي في أن الملكية للأرض قد لا تكون حقيقة ولكن حكماً، وهذه الامتلاك الحكمي للأرض أشد فتكاً لأنه يبدو كأنه لا يملكها بيد أنه له كل حقوق المالك، وليس عليه واجباته!

وأخيراً: فقد تعرف االمالك الأوربي أخيراً على الناس بعد قرون الإقطاع ومخازيه، وأصبح يقر بملكية الأراضي للناس وبحقهم الأساسي في التملك عبر البيع والشراء والإحياء، فعادت أرض الناس للناس .. ولم يبق مالكٌ للناس إلا الله (ملك الناس، إله الناس).

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن عبدالله العودة

كاتب حاصل على ماجستير قانون
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق