الصحافة الحكومية في الربيع العربي

الكاتب:

23 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

سيأتي يوم، و لا بُدّ، أن يُطرح فيه هذا السؤال: ماذا كانت الصحافة السعودية تفعل خلال الربيع العربي؟ و من بين مواقفها البهلوانية المتقلبة من مطالب الإصلاح السياسي في مصر و اليمن و سوريا و البحرين؛ سيُسجل التاريخ أنها كانت ثابتة و راسخة في وقوفها ضدّ انعكاسات الربيع العربي على السعوديين.

كان من الطريف ملاحظة سلوك الصحافة السعودية خلال الربيع العربي في ظل أسطورة طالما قدمت نفسها من خلالها، و هي كون الصحافة السعودية مُتقدمة فكريًا على المجتمع السعودي، و مُنحازة إلى قيم الحداثة و التحرر و تؤدي دورها في قيادة هذا المجتمع – المتخلف، لكن الواعد –  نحوها، هذا إلى جوار  دفاعها عن “استقلاليتها” كلما ثار السؤال حول تبعيّتها للموقف الحكومي؛ لكن الربيع العربي كما أسقط جملة من الأساطير السياسية، فإنه أسقط معها جملة من الأساطير جار-السياسية، أو المكمّلة للأسطورة السياسية، كأسطورة حداثة الصحافة السعودية هذه.
فبينما كانت الأحداث تتلاحق و الثورتان المصرية و التونسية تقدمان درسًا عمليًا مفتوحًا لما يمكن أن يكون عليه سلوك الشارع، و الوعي العام يلتقط الرسائل و ينتبه أكثر فأكثر إلى قيمة الإرادة الشعبية و مصادر شرعية السلطة؛ كانت الصحافة السعودية تخدم في البلاط بكل ما أُوتيت من قوة، محوّلةً ذاتها في كل موقف إلى جبهة للدفاع عن القيم السياسية الأشد تخلفًا و استبدادية، منذ اللحظة الباهرة لسقوط بن علي و حتى اللحظة الأكثر إبهارًا لمحاكمة مبارك.

و لأنه يصعب أن تقول صراحة أنك تؤيد الديكتاتورية ضد الديموقراطية، و إرادة الفرد ضد إرادة المجموع، و أنك ضد حقوق الإنسان و قيم المواطنة؛ لأنه يصعب التصريح بهذا حتى عندما يكون المرء صحافيًا حكوميًا، كان من الضروري أن يبتكر صحافيو البلاط لأنفسهم في هذه المرحلة لغة خاصة أكثر مواربة، تعطي هذه التوجهات المتخلفة صبغة أخلاقية و ثقافية و حتى حقوقية في الظاهر، لكنها تبطن حركاتٍ فكرية بهلوانية شديدة الالتواء لتتمكن من تمرير الدعاية التي تريدها.
كانت الصحف السعودية طوال الأشهر الماضية تواصل نشر موادّ من هذا النوع، تميزها درجة عالية من التلفيق و الركاكة، و ما كانت لتجرؤ على نشرها لولا اطمئنانها إلى التغييب التام للصحافة الحرة و الأصوات الناقدة القادرة على كشف هذا النوع من الخطابات. هذه بعض النماذج الضرورية لإنعاش الذاكرة: المادة التي نشرتها “الشرق الأوسط” يوم 11 مارس الماضي على صفحة كاملة معرِّفة إياها في عنوان فرعي بوصفها “قراءة في البيانات السياسية السعودية من خلال ثلاث شخصيات تمثل ثلاثة أطياف”، حيث تُوحي كلمة “قراءة” و الاستشهادات بأركون و ولد أباه في المتن بمضامين نقدية فكرية، لا تتلائم و حقيقة المادة التي كانت عبارة عن تقرير أمنيّ موجه ضد محمد سعيد طيب، سلمان العودة، تركي الحمد؛ لأنهم شاركوا بالتوقيع على البيانات الإصلاحية التي لا يجرؤ هذا التقرير الأمني على وصفها بـ”الإصلاحية” و يُسميها “البيانات السياسية” عوضاً عن ذلك.
لعبة الأكروبات التي يؤديها هذا التقرير الأمني تتمثل في تصنُّعه مناقشة البيانات الإصلاحية، لينزلق بدلًا عن ذلك إلى ضربها من خلال ضرب موقـِّعِيها، متهرّبًا من الخوض في مطالب البيانات، التي لم تقم صحيفة سعودية واحدة بنشر مضمونها فضلًا عن مناقشته، لأنها تعجز عن تفنيدها أو رفضها صراحة. نموذج آخر: أمام التنشيط الإلكتروني المستمر لملف المعتقلين دون محاكمة لجأ خطاب الصحافة الحكومية إلى الإشارة تكرارًا إلى كون هؤلاء المعتقلين مجرمون متورطون في الإرهاب و كأن التورط في الإرهاب كافٍ لتعطيل حقوق المتهم، ثم وجد ضالته في قصة رسالة “أم فهد السعيد” التي ردت عليها وزارة الداخلية بنفي وجود سجين بهذا الاسم، فانطلق ثلاثة من الصحافيين ليكتبوا متزامنين مقالاتٍ رقيعة تحتفي بهذا النفي و تشمت بمن تفاعل مع الرسالة، و الغرض طبعًا هو خلق إيحاء عام بكون قضية المعتقلين قائمة على الكذب، و شخوصها إما أسماء وهمية أو إرهابيون يدّعون البراءة و يريدون الإفلات من العقاب، و هي دعاية يبدو أنها تلقى قبولًا بدرجة ما عند المتلقي الذي صدمته تفجيرات عام 2003م؛ لكنها دعاية مضللة تعتمد على التعامي عن جوهر هذه القضية و هو سهولة الاعتقال على الرأي و النشاط السلمي الـمُعلن، كما هو حال أشخاصٍ معروفين بوجوههم و أسمائهم و ظروف اعتقالهم و تسريحهم دون محاكمة أو توجيه تهمة.
أما أحداث الشغب الأخيرة في بريطانيا و صدور أحكام قاسية على بعض المتورطين فيها، فقد انتهزها بعض الصحافيين بصفاقة شديدة ليختلق مُماثلة بين السياقات القانونية الصارمة التي تحدد مفهوم الشغب و أسلوب مواجهته في أعرق ديموقراطيات العالم؛ و أسلوب مواجهة دعاوى التحرر و الإصلاح السياسي في السعودية و البلاد العربية! واصفًا كلتا الحالتين بـ”التحريض” المجرّم قانونًا، و كأنه يخاطب مجموعة من القرويين المعزولين عن العالم الخارجي الذي ينفرد هو بمعرفته و إخبارنا عنه! بالطبع، هذا الخطاب الصحافيّ سيتحاشى اتّخاذ بريطانياً مضرباً للمثل في تظاهرات مواطنيها الحاشدة الرافضة قرار الحكومة البريطانية الدخول في الحرب على العراق عام 2003م، و لن يضرب المثل بحال في امتناع سلطاتها عن اجتياح حقوق المواطنين بذرائع أمنية عقب تفجيرات لندن 2005م، و بالتأكيد ليس في منظومة الحريات و الحقوق التي كانت تكفل حتى لمنظري التطرف المهاجرين (أبو قتادة، أبو حمزة المصري) حق التنظير للتطرف! أما تغريم الصحافي البريطاني روبرت فيسك و صحيفة “الإندبندنت” لنشرها وثيقة مزيفة حول خطة وزارة الداخلية السعودية لقمع المتظاهرين، فكان مناسبة لكتابة المقالات الوطنية التي تروّج صورة للصحافة الغربية بوصفها مُتجنيّة ممتلئة بالأكاذيب حول السعودية، بلغة مُنتفخة توحي أن فيسك يحتاج إلى دورة تدريبية على أيدي الصحافيين السعوديين.
لكن هذه الجوقة الاحتفالية ذاتها تعلم جيداً أن فيسك و الصحافة الغربية عموماً نشرت و تنشر سيلًا من المعلومات لم تواجه بأيّ نوعٍ من التكذيب، بل حتى و في جزء منها، سرعان ما تظهر المؤشرات المحلية الصريحة على دقة هذه المعلومات، آخرها مسودة نظام مكافحة الإرهاب الجديد، لكن الجوقة الاحتفالية تتحاشى النظر في هذا الاتجاه و تُشيح بعيدًا. و عكست اللغة الصحافية عموماً هذا المركّب، و كتب البعض في مقالاتهم ذات الرائحة البوليسية عن تهمة غامضة كـ “التحريض” دون وضعها في سياق واضح أو تحديد تحريض مَن على ماذا؟ و كتب آخرون مقالات تصف المتحمسين للإصلاح السياسي بـ “تخوين الآخرين و المزايدة عليهم”، رغم أن صحافيو البلاط هم من حشا أعمدة الصحف بالقصص عن المؤامرات الصفوية و المقالات التي لها نكهة إذاعة الصباح المدرسية عن “حُبّ الوطن” ! و تعبيراً عن انتهاء شهر العسل الذي عاشته هذه الصحافة مع الشبكات الاجتماعية التي كان رصدها موضوعاً محبباً للصحافة، نحت بعض الصحافيون تعابير كـ‍‍ “الفيسبوكيون الجدد” و “التويتريون الجدد” و “الحقوقيون الجدد”، للإيحاء بأن اهتمام رواد الشبكات بالإصلاح السياسي هو مجرد موجة طارئة دخيلة عليها. فيما ساق اللاوعي أحد الصحافيين في مقالته التي لا تزيد عن 500 كلمة إلى تكرار متلازمة “التشكيك – الطعن – الدولة” خمس مرات على الأقل في معرض كلامه عن “الحقوقيين الجدد”، مفصحًا عن مُضمَر  وَجِل لا يرى في مطالب الإصلاح السياسي إلا خطرًا يهدد الدولة.

ما هو تعريف “الحقيقة” الذي نسمعه في قََسَم شهود المحكمة في الأفلام الأمريكية؟ “أقسم أن أقول الحقيقة، كل الحقيقة، و لا شيء غير الحقيقة”. “كل الحقيقة” لأن إخفاء جزء من الحقيقة “كذب”، و التركيز على جزء من الحقيقة دون آخر “كذب”، و نشر المقالات التي تقول أن المطالبين بالإصلاح السياسي متخبطون و المعتقلون إرهابيون و الصحف الأجنبية كاذبة – حتى عندما تحمل معلوماتٍ صحيحة – و منع كل مقالة تقول العكس، هو شكل من أشكال الكذب المنظم الموَظَّف في خدمة الحرب على الإصلاح السياسي و محاصرة الآثار المحلية للربيع العربي، هذا هو الدور البسيط و الصريح الذي سيسجل التاريخ للصحافة السعودية أنها اختارت لعبه في هذه الحقبة، و هي قد “اختارت” لعبة لأن ثمة خياراتٍ أخرى كانت متوافرة بين يديها، أقلها الحفاظ على درجة من الاتزان الموقفي في خطابها الحكومي، و الإبقاء على الأصوات الأخرى حاضرة في الصحف؛ لكنها عوضًا عن ذلك تخلصت منها بالتضييق و الإيقاف لبعض الكُتاب الذين شاركوا في بيانات الإصلاح السياسي، و  أخذت مناخات الخطاب الصحافي نحو معادل محلّي للحقبة المكارثية.

إنها لحظة سقوط مجموعة من الأساطير السياسية و الاجتماعية و الثقافية. لطالما قدّمت الصحافة نفسها بوصفها حاملة قيم الحداثة في مجتمع متخلف، لكن هذه اللحظة بالذات وضعت في الضوء دورها المفصلي كإحدى أدوات السلطة السياسية المسخّرة لتنفير المجتمع من قيم الحداثة… إذا كانت الحداثة تعني أولًا تفكيك تمركز السلطة و الثروة و الحقوق في أيدي القلة.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق