نقد التجربة الإصلاحية: العنوان العريض للإصلاح

الكاتب:

11 أبريل, 2013 لاتوجد تعليقات

يواجه الباحث في تاريخ الإصلاح في السعودية عدة معضلات أثناء تنقيبه في تاريخ نشوء وتكون هذه الحركة. فالإصلاح نفسه يحتاج لجملة من الأدوات التحليلية من أجل فحص محتوى ومضمون هذه الكلمة التي باتت تتردد على ألسنة الكثيرين, بل إن بعض معارضي الإصلاح باتوا يتسربلون بوشاح هذه الكلمة, بجانب أن ما قد يراه البعض إصلاحا قد يراه اخرون إفسادا, مما أوقع البعض في سفسطة لغوية لا نهاية لها.

والمتابع لمعظم التحركات ” الإصلاحية ” سواء بعيد انتهاء حرب الخليج الثانية مطلع التسعينات الميلادية, أو حتى قبل ذلك في زمن الملك فيصل, أو بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 سيلاحظ أن معظم هذه التحركات والمطالبات باءت بالفشل, وأن العرائض والبيانات لم تتم الاستجابة لها, بل قوبلت بالتجاهل والتهميش أو في أحيان أخرى اعتقل أصحابها ومن بادر بكتابتها, وهو مؤشر من بين مؤشرات كثيرة يمكن النظر إليها على أنها إحدى أسباب إخفاق المسار الإصلاحي.

تنوعات إصلاحية

تطرح السلطة السعودية نفسها على أنها خير نموذج للإصلاح, وقد سمى الملك عبدالله نموذجه بالنموذج الإصلاحي للسعودية, وكان من فقرات هذا النموذج إصلاح القضاء خصوصا, وكذلك إقامة الجامعات التعليمية التي تكاثرت في عهده, وبنيت المنشآت الكثيرة كمدينة الملك عبدالله الاقتصادية, وفي عهده أيضا أنشئت الهيئة العامة لمكافحة الفساد لأجل الإصلاح الإداري, وهي هيئة تتضمن اعترافا ضمنيا بوجود الفساد من ناحية, وكذلك التصدي الحكومي له ( أي الإصلاح ) من ناحية ثانية, وكذلك أدخلت المرأة للمرة الأولى في تاريخها بمجلس الشورى.

ولو عدنا للوراء لثلاث قرون لوجدنا أن الحلف بين الشيخ محمد عبد الوهاب والامام محمد بن سعود كان من أجل ” الإصلاح ” وانعقدت العلاقة الصلبة بينهما ضمن هذا التصور, وكانت الحروب الطويلة لتوحيد السعودية قد جاءت لإحقاق هذا التصور الإصلاحي المبني على العقيدة الحنبلية والتي تمثل طريق النجاة نحو الآخرة, مما صبغ الإصلاح بهالة دينية وقدسية, ومع الانتصار باتت جزيرة العرب مهبط الإصلاح الجديد, مما حدى بالكاتب أحمد أمين أن يجعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب واحداً من زعماء الإصلاح في العصر الحديث!

وبالمثل فإن حركة اشتهرت بمعارضتها لكل تحرك حكومي كحركة سعد الفقيه هي الأخرى اتخذت من الإصلاح شعارا تتبناه وتتسمى باسمه, ويغلب على هذه الحركة المعارضة المطلقة والشاملة والعداء التام لمجمل ما يصدر من الحكومة من تصريحات وبيانات, وتكاد هذه الحركة تتجسد بالكامل بشخص الدكتور سعد الفقيه والذي انشق عن زملائه الإصلاحيين القدماء وانعزل في لندن ليقود الحركة هناك وقد أمضى قرابة العقد والنصف منفردا بهذه المهمة. بينما استقر بعض المعارضين في لندن كالدكتور حمزة الحسن وفؤاد ابراهيم ومضاوي الرشيد, وأفكارهم تختلف اختلافا جوهريا عن حركة سعد الفقيه وإن كانوا يشتركون بنقد النظام السياسي رغم التباين في المنطلقات والتفاصيل.

ونجد في الداخل السعودي ناشطين حقوقيين كالدكتور عبدالله الحامد الذي جعل الإصلاح شعارا له, ويتبعه كثير من الرموز والناشطين السياسيين الملتفين حوله إما مؤسساتيا عبر بعض الهياكل التي ينشط من خلالها الدكتور كجمعية الحقوق المدنية والسياسية, وهي جمعية مستقلة عن نظيرتها الحكومية والتي من مهامها التكفل بالدفاع عن حقوق الإنسان, أو فرديا وشخصيا عبر مواقع الإنترنت والمواقع الاجتماعية كالتويتر والفيسبوك. والدكتور من خلال ممارسته السياسية الطويلة انطلق من نفس السياق التاريخي الذي انبثقت منه تحركات سعد الفقيه ومحمد المسعري ومحسن العواجي, وإن اختلفت الآراء والمرئيات بطبيعة الحال وبحسب ميول كل شخص. 

بل لا نبالغ إن قلنا أن تنظيم القاعدة نفسه, وتنظيم جهيمان هو الآخر, قد انطلقوا من فرضية الإصلاح! ولم يوفروا وسيلة عنيفة إلا واستخدموها لإقرار ما أرادوه, ومع أن سيلان الدماء يحول دون الإصلاح, إلا أنه اتخذ ذريعة لإحقاق المشروع أيا كان الثمن ومهما كانت النتائج, وهنا تكمن مفارقتهم.

وفي الاتجاه غير الإسلامي داخليا ( أو على الأقل الاتجاه الذي لا يستدل بالنصوص الدينية دائما لإثبات شرعيته ) نصادف كتابات كثيرة حول مشروعية الإصلاح وضرورة التغيير بل وحتميته, فتركي الحمد مؤلف ( من هنا يبدأ التغيير ) يقترح نموذجه الإصلاحي والمختلف نوعيا عن التجارب الإصلاحية المذكورة أنفا, وبالمثل فإن كاتبا شهيرا كغازي القصيبي نشر كتبا عن التنمية والتجديد الديني والفكري وكانت ذات مقروئية هائلة في العالم العربي بأكمله, ولا ننسى محمد سعيد طيب الذي أُلف عنه كتاب ” السجين 32 ” حيث سلخ أعواما طويلة من حياته في النضال الإصلاحي وإشعال الحراك السياسي. ومثل هؤلاء جميعا فعل كثير من الأدباء والكتاب في السعودية, فجاءت هذه الكتابات خليطا من النقد الاجتماعي والتاريخي, وخليطا من النضال الواقعي والحي, وتضمنت جهودهم وكتاباتهم طابعا مباشرا أو غير مباشر في نقد الواقع المحلي, بجانب التحركات الإسلامية التي جاهرت علانية بمطالبها ودون تردد.

الإصلاح ضمن معطيات العصر

لو حددنا معطيات العصر الحديث وحقيقة الموقع التاريخي الذي نعيش فيه الان, لقلنا أن الإصلاح يتلازم مع السعي الأصيل صوب الديمقراطية وتوزيع المشاركة السياسية على الأطياف الشعبية, واستلام الإنسان مسؤولية نفسه ووطنه وماله وحريته.

وهذه المعطيات لا تتحقق ضمن مشروع جاهز وناجز, بل تخضع للاجتهاد والحذف والتعديل من خلال الممارسة التاريخية والانخراط الحي في مشكلات الواقع, وهذا ما ورط  كثير من الأيديولوجيين العرب – والسعوديين من ضمنهم – في فخ العداوات الأيديولوجية التي اتخذت طابعا هزليا في أحيان كثيرة, خاصة حين تتم التضحية بالمشتركات والمصالح العامة لأجل مجرد الاختلاف وإثبات الذات, ومرد ذلك إلى فقر الممارسة السياسية والتخندق الدائم حول النظريات المتعالية وعدم اختبارها بالتجربة. إنها التجربة التي لا تأتي عبر النماذج الجاهزة والمختصرة وإنما تتولد من مخاض طويل وعسير قد لا تتقولب نتائجه النظرية بسهولة!

فأي نموذج هو إصلاحي, ما دام يصب في اتجاه الحق الإنساني بتقرير المصير والتمتع بالحرية وامتلاك زمام النفس والمال والكرامة الإنسانية, وقابلية تحقيق ذلك في الواقع. وكل نموذج هو فاسد طالما أنه يتجاهل هذه العناصر الأساسية في شخصية الإنسان. 

وكانت الخلافات الأيديولوجية قد ضللت النخب وأبعدتها عن معطيات هذا العصر: فتوهم البعض قدرته على الإصلاح لمجرد استذكاره بعض الأقوال والديباجات حتى وإن حصل ذلك بصورة ركيكة ومجافية تماما عن الواقع والمنطق المعقول, وتوهم آخرون أن باستطاعتهم تحقيق الإصلاح طبقا لتصورات نخبوية ضيقة لا تراعي حاجة الشعب نفسه للنهوض من كبواته وتحقيق أحلامه العاثرة والتي تتنوع بين أحلام المعيشة ( العامل اقتصادي ) وأحلام الحرية ( العامل إنساني ) وأحلام المشاركة بالمسؤولية الجماعية ( العامل سياسي ) وتجاهل هذه العوامل من شأنه أن يزيد الأوضاع سوءا, إن لم نقل بأنه يسهم بخلق حالة احتقان مزمنة.

الجانب السياسي : الإصلاح بطريقة الحكومة

جاءت القرارات الحكومية على خلاف الأجندات للمعارضة الإصلاحية, فحينما طولب بإنشاء مجلس منتخب للشورى مطلع التسعينات الماضية, جاء قرار الحكومة بتأسيس المجلس بالتعيين لا بالانتخاب. وحينما طالبت بعض الشرائح الاجتماعية بقرارات تنصف المرأة وتمنحها حق التحرك والحرية وتعديل بعض الأحوال الشخصية, جاء قرار الحكومة بتعيينها في مجلس الشورى المذكور أيضاً, ودمج إدارة تعليم البنات مع البنين. ولما صدرت بيانات تطالب بالمشاركة السياسية وفسح المجال أمام قطاعات الشعب لممارسة شيء من السلطة, أتى القرار بفتح مجال الانتخاب في المجالس البلدية فحسب.

وكانت هذه التحركات من قبل الحكومة تنبئ عن تصورات مغايرة عن كل القطاعات الإصلاحية ” غير الحكومية ” والتي أرادت هامشاً أوسع ولكن عبر تصورات مختلفة. 

فتصورات سعد الفقيه تختلف عن الحامد الذي يختلف بدوره عن أسامة بن لادن وجهيمان قبله, فهؤلاء المعارضون يشتركون بإدانة الوضع القائم, لكن يختلفون أشد الاختلاف في رؤاهم التغييرية لما هو قائم. غير أن الإصلاحيين على كثرتهم لم يتوصلوا لما أحاول تسميته بالحس المشترك, المؤدي بالضرورة لمفهوم الهوية.

نحو حس مشترك للإصلاح

أسوأ ما قد يحل بأي مجتمع يتطلع للإصلاح هو أن يفقد حسه المشترك ويسقط في مهاوي الشقاق والخلاف والتمزق, وهذا ما يحصل مع مجتمعنا الذي يساوم نفسه لنيل حقوقه الطبيعية. فنجد أن كثيرا من المتشددين يرفض التعايش مع الآخر الطائفي أو الإقليمي أو القبلي, وهذا الشقاق أمره ليس بالسهولة التي يتصورها البعض, فهو يؤدي إلى أزمة فكر ووجود ووعي, أزمة تنم عن فقدان لغة التواصل مع المختلف ( والذي يحضر هنا بصيغة المواطن الآخر وليس الأجنبي البعيد! ) وهذه الأزمة تغذي العقلية التقليدية في التعاطي مع الآخر وتحولها إلى صراع لا ينتهي أجله.

والحس المشترك Common Sense هو عبارة غربية شائعة تعني مجمل التصورات والآراء والأفكار التي يسلم بها الناس لئلا يقعوا بالسفسطة واللغو ( وهو ما يحصل هنا للأسف ) ومن ضمن هذه الآراء التي تجسد الحس المشترك بين الناس, الرأي القائل أن للإنسان حريته وكرامته وحقوقه التي لا تنازل عنها, وأنه حر في خياراته وتصرفاته مالم يضر الآخرين, بجانب بعض الآراء العلمية التي تدعم من منطق التفكير العقلي كدوران الأرض حول الشمس, وأن السماء لونها أزرق بسبب غاز الأوزون, وأن عدد الكروموسومات الموروثة عن الوالدين هي ست وأربعين, وأن الإفراط في تخزين السعرات الحرارية يؤدي للبدانة, وغيرها من البديهيات العلمية والعقلية التي تشكل معارف المجتمع, ولا يُقصد بها أنها صحيحة دائما ومطلقا, بقدر ما يستفاد منها في تشكيل أساس الرؤية الناجعة للواقع, وبغيابها يصبح الحوار الاجتماعي عبثا لا غاية من وراءه.

ونلاحظ أن مثل هذا الحس المشترك مفقود ليس عند الإصلاحيين فحسب ولكن في المجتمع ككل, فمعظم البديهيات العقلية تم التلاعب بها وسفسطتها مما جعل قواعد الحوار مستحيلة أحيانا ( إن لم نقل دائما!) وباتت كثير من الخروقات العقلية والفكرية مباحة بل وطبيعية! وصار الحديث عن التسامح والانفتاح بين المواطنين وبعضهم وكأنه جريمة لا تغتفر في مجتمع يحتقن بالتمييز الذاتي بين فئاته. 

مثل هذه الممارسات جعلت من الحس المشترك أمرا وهميا, وبات من الصعب حقا الاتفاق على قواعد واضحة في العمل الإصلاحي الذي أول ما يرتكز على تحرير المفاهيم والمصطلحات لا سيما تلك المتعلقة بحق الإنسان ومصيره في الحياة.

وغياب الحس المشترك أدى لضعف الهوية الوطنية نفسها, فهي هوية لا تستند على مفهوم واضح ينسجم مع معطيات هذا العصر وحقائقه, فليس من المعقول أن تستنبط الهوية من تراث انتهى بريقه منذ أكثر من ألف سنة, دون أن يفحص هذا التراث ويغربل نقديا بمناهج وعلوم هذا العصر. والأغرب من ذلك أن التراث يجري استحضاره بطرق انتقائية وفجة لا تتناسب مع التراث وتنوعه, ولا تتناسب مع هذا العصر وغزاره معارفه, مما جعلنا بعيدين تماما عن التراث وغرباء بالكامل عن عصرنا الذي نحياه دون أن نلج فيه.

ومالم يشدد الإصلاحيون على مفاهيم هذا العصر وحقائقه, ومسلماته, وبديهياته التي لم تعد خافية على أحد إلا على من عُبث بعقله واستبيحت أفكاره, فإن الإصلاح نفسه لن تقوم له قائمة. ولا أعني بذلك أن الإصلاحيين لوحدهم من يضطلع بهذه المهمة, بقدر ما أنهم حال إعلانهم التصدي لهذه المهمة الجسيمة ( مهمة الإصلاح ) فإنهم مطالبون أكثر من غيرهم بالعثور على مبادئ مشتركة في التفكير والعمل, هذه المبادئ لا يشترط لها أن تكون مرجعية دوجمائية وقطعية على الدوام, وإنما تكون بمثابة المرجعية المؤقتة لمجمل التصورات والمفاهيم التي ينطلق منها الإصلاحيون لئلا يقعوا بما وقع به غيرهم من انتقائية في الفهم وتعسف في تأويل المواقف وتغليب لنزعات الهوى, وهو ما يناقض الإصلاح ويسهم بتعثر مسار الإصلاح كله.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن طريف السليطي

كاتب في جريدة المدينة باحث في الفكر والفلسفة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق