عندما يتفق الليبرالي والفقيه

الكاتب:

5 مارس, 2013 لاتوجد تعليقات

سأبدأ بإيضاح ما أعنيه بالمفردات لكي لا تؤول النصوص خارج سياقها وتعطي الجمل معان غير معانيها.

الليبرالي:

في هذا النص هو أنا، والليبرالي في هذا النص هو الذي جعل من عقله عجلة القيادة للوصول إلي عقيدته ومبادئه وأعطى لعقله السيادة على توجيه وضبط سلوكه وتصرفاته.

الفقيه:

 في هذا النص هو فضيلة الأخ الدكتور عائض القرني. هو فقيه بحكم  تخصصه العلمي في الشريعة الإسلامية وأحكامها ومساهماته في المجالات الإعلامية والدعوية المختلفة  في تفقيه الناس بأمور دينهم.

موضوع المقال:

 هو إعادة قراءة لمقال الدكتور عائض القرني الصادرفي صحيفة الشرق يوم الاثنين 24 ديسمبر 2012 بعنوان (بعد سفري للشرق والغرب اكتشفت أن الحضارة في العقول) والقيام بشيء من الحفريات في جمله ومعانيه بعين وعقل ليبرالي.

يقول الدكتور القرني في عنوان مقالته (بعد سفري للشرق والغرب اكتشفت أن الحضارة في العقول)  ويقول إن جميع الأسباب المادية  لكي نترقى ونتمدن ونتحضر في دنيانا موجودة لدينا ولكننا لسنا كذلك ويعيد السبب في ذلك إلي إشكالية التربية والتعليم (فالإنسان يحتاج إلي تحول حضاري يأخذه من طباعه الصحراوية والقاسية إلي الطباع الحضارية الموسومة بالأدب والأخلاق والإنتاج  واحترام حقوق الإنسان علي الإنسان) ثم يشير إلي الوعاء الحامل لكل مظاهر التحضر التي شاهدها ولامسها ويقول إنه الإنسان ( فمن خلال التجول في مدنهم وأريافهم وجدت كل شيء من أمور دنياهم يسير في جمال ورتابة وتنسيق ونظام دون فوضوية أوبعثرة أو ارتباك أو خلل والسبب هو الإنسان وحده).

من المؤكد أن الدكتور القرني يقصد عقل الإنسان فالإنسان عقل ولحم ودم وعظم ولا أظن أنه يعني إلا عقل الإنسان كما جاء في عنوان المقال.

ويواصل الدكتور القرني التأكيد علي أهمية تطور الإنسان لتطور الحياة فيقول (هناك إنسان ترقي في سلم التمدن الدنيوي والتحضر المادي وهناك إنسان بقي في الدرج الأول من السلم يستهلك ويستخدم ويتمتع دون أن يشارك في التصنيع والإنتاج والابتكار والاختراع والاكتشاف ومع ذلك لايجيد حتى استعمال هذه الوسائل). جميع هذه الصفات السلبية لمن هم في قاع السلم الحضاري – والمعني بذلك مجتمعنا – تعود أسبابهاإلي تخلف العقل وعدم قدرته علي المشاركة في الإنتاج من خلال الابتكار والاختراع وأكثر من ذلك عدم قدرته علي حسن استخدام منتجات العقل الأجنبي المتحضر  في البلاد التي زارها.

ويؤكد الدكتور القرني أن العوار ليس في الإسلام وإنما في عقل الإنسان وما بداخله من تعليم ومفاهيم غير حضارية أدت به إلي التخلف عن المشاركة في بناء حضارة الإنتاج والاختراع وإلى سلوك غير حضاري في التعامل مع منتجات العلم والتقنية.

ثم يعرج الدكتور القرني في نهاية المقال إلي جانب من جوانب التحضر التي وجدها عندهم ولم يجدها عندنا وهو الحساب والعقاب في الدنيا لمن أساء التصرف وأخل في أداء الواجب حسب النظام والقانون فالوزير أوالمسئول  يستقيل إذاأخطأ ويتحمل المسئولية.

 هذا ملخص لما قاله  الدكتور عائض القرني وأظنه مختصراً شاملاً ودقيقاً.

عنوان المقالة يحمل الكلمة ألتي تشبه خاتم سليمان في سحرها هذه الكلمة هي العقل. ورغم أنني لم أجد في صلب المقال إعادة لهذه الكلمة حيث يبدو أن الدكتور عائض قد اكتفي بالإسهاب في سرد المنتجات السلوكية  للعقل المتحضر بدلاً من تكرار سبب الفعل.

 الصراع الفكري بين العقل والنقل موضوع كان حاضراً في تاريخ الفقه الإسلامي بعد صدر الإسلام وعصره النبوي وأنا لا أريد استدعاء كل تلك المدارس الفقهية من المعتزلة إلي  ابن رشد وأتباعه والغزالي وأنصاره وفي  زمننا الذي ليس ببعيد محمد عبده وطه حسين والطهطاوي ومن خالفهم ، لا أريد استحضار كل هذا الجدل لكنني لا بد أن أقول  إن  بعضأً  من الفقهاء الأقدمين والمعاصرين وقف ضد العقل موجهاً أساسياً  للإنسان في البحث والوصول إلي عقيدته وترشيد سلوكه رغم أن الله تعالى طلب من عباده استخدام العقل في الوصول إلى الإيمان به وبرسوله.  كلمة العقل هذه هي التي جذبني سحرها إلي  إعادة قراءة المقال موظفاً في ذلك  أدوات العقل الليبرالي في التفكير والتحليل.

 بعد هذه المقدمة أقول, اتفق أنا والدكتور القرني علي أن قيم الحضارة والرقي يختصرها الإنسان في سلوكه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وقد أتي الدكتور القرني في صلب مقالته بالجوانب المختلفة لهذا السلوك. وعندما يكون مجموع السلوك الفردي الإيجابي في عينة مجتمعية طاغياً على مجموع السلوك الفردي السلبي فإن ذلك دليل على رقي المجتمع وتقدمه ومدعاة لوصفه بأنه مجتمع متحضر. وأعتقد أنني والدكتور القرني نتفق على أن الجوهر في الإنسان هو العقل لذلك جعل العقل سبباً في السلوك الصالح  والطالح للإنسان ووضع ذلك عنواناً لمقاله، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ماهو ذلك المخزون من الوقود في العقل الذي يكون ويشكل ويدير ويحرك آلة العقل؟ تحدث الفلاسفة وأهل المنطق في ذلك كثيراً وقسموه إلي مكونات أساسية أوطبيعية ومكونات مكتسبة والمقال لايتسع حتى لتلخيص العناوين الرئيسية في الموضوع لكن ما هو مهم أنني والدكتور نتفق حسب مقاله على أن المكون التعليمي الذي يتلقاه الإنسان هو الوقود الأساسي الذي يحرك العقل ويديره ويوجهه نحو الاتجاه المنطقي السليم.  وإذا اتفقنا على ذلك يكون السؤال: ماهو محتوى المكون التعليمي للإنسان السعودي الذي جعله ينحرف عن الصراط السلوكي الحضاري السليم كما جاء في مقال الدكتور القرني؟ وجوابي على ذلك هو أن المكون الأكبر في الحزمة التعليمية المشحونة في عقل الطالب السعودي خصوصاً في مراحله الابتدائية والمتوسطة، وهي مراحل هامة جداً في تكوين العقل الطلابي السعودي، هو مكون طابعه ومحتواه العام من الفقه الديني ذي الميول المتشددة والمحافظة التي تحرم أو تقيد الطالب السعودي بشكل خاص والمواطن السعودي بشكل عام من استخدام آلية العقل في التحليل والتفكيك من أجل فهم أعمق وأصدق لتلك النصوص والمسلمات الفقهية أو حتى التراثية التي تشكل الجزء الأكبر من مناهج طلابنا في المدارس ومناهجنا في الحياة العامة.

لابد لنا في الأمر  الديني أن نفرق بين أمرين أساسيين:

الأول/ هو المقدس الثابت الذي لا يخضع لآليات البحث والتحليل العقلي، وهذا المقدس المتعالي فوق العقل البشري هو كتاب الله  والثابت الصحيح المتواتر من حديث نبيه محمد. دور العقل هنا هو البحث والتبصر والتعقل من أجل الوصول إلي الإيمان بالله وبرسوله  لكن إن أشكل الأمر على العقل فلابد للعقل أن يترك الساحة للإيمان بأن قدرة العقل البشري لا تستطيع أن تتجاوز في قدرتها قدرة الخالق للعقل البشري.

الثاني/ هو كل ماتبقي من منظومة الدين الإسلامي خارج النصوص القدسية وهي كلها أقوال علماء وفقهاء ومفسرين ومحدثين وأئمة أجلاء لهم كل الاحترام والتقدير لكنهم  كلهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون يؤخذ منهم ويرد عليهم. ما ورثناه عنهم لاشك أنه إضاءة واجتهاد في بيان علوم الدين والشريعة والعقيدة في كثير من جوانبها لكن هذا كله لا يعني على الإطلاق أن نقف حيث وقفوا ونردد ما قالوا دون تحليل وأعمال أكبر للعقل المسلم الجديد العالم العارف المسلح بكل علوم الدنيا الجديدة وتقنياتها.

العقل السعودي في نسخته الطلابية، وهذا هو الأهم، وفي نسخته العامة محتل بشكل كبير بالأدبيات الفقهية الدينية التي حُميت وحُصنت من تحليل ونقد وإضافات وإبداعات العقل المسلم الفقيه العالم  المتحضر المتطور الملم بآليات وأدوات العقل التحليلي لذلك فان ما أنتجه العقل السعودي من تخلف في السلوك والإنتاج والإبداع والاختراع ليس له علاقة بجوهر الدين وقيمه ومبادئه المقدسة وانما هو في معظمه نتاج  فقه وتعليم وتراث  لم يتعرض للشمس والنور منذ قرون طويلة وبقي  محصنا من فقه وفلسفة العقل المسلم العالم المستنير .

أكرر هنا واختتم بما قلته سابقاً (انظر صحيفة الشرق العدد 386 بتاريخ 24/12/2012 المقال بعنوان “المرأة في مجتمعها السعودي”أنه لابد من إفساح المجال لنقد عالم عارف مسلم متخصص لفقه الأوائل من العلماء والفقهاء وما يصاحبه من تراث وعادات وتقاليد تلبس في كثير  من الأحيان ثوب الدين والدين  منها براء  , دون حجر أو إكراه أو تكفير أو تغريب. نقد ملتزم بالثوابت من المقدس , محلل وناقد ومطور ومكمل لغيره من فقه وعلوم دينية أو مقولات وموروثات وتقاليد شعبية. بهذا المنهج التطويري الابداعي العلمي العقلاني للموروث الفقهي مع تطوير غيره من المناهج العلمية والرياضية وتبني سياسة تعليمية تقوم علي تفعيل دور العقل في الاستشكال والسؤال بدلاً من التسليم والاذعان سينهض العقل السعودي من كبوته وينهض معه وبه الإنسان السعودي والمجتمع السعودي ونلحق جميعاً بركب الحضارة البشرية وتقدمها ومعنا هويتنا الدينية في نسختها الأصيلة الحديثة وعقولنا المبدعة المتطورة العالمة والمؤمنة بحرية الإنسان وكرامته وحقوقه. عندها لن يضطر أخي الدكتور عائض القرني إلى السفر إلي بلاد الدنيا ليشعر ويلامس الحضارة والتقدم بل سيجدها هنا  صناعة وطنية.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق