بؤس الإنسانوية (2) : بين الخطاب الديني والقومي

الكاتب:

25 فبراير, 2013 لاتوجد تعليقات

تهافت الخطاب الإنسانوي

في الجزء الأول كان كل الذي أردت أن أثبته أن قضية فلسطين ليست قضية أفراد فيتم التعامل معها وكأنها قضية جنائية قانونية، بل هي قضية سياسية متعلقة بانتهاك سيادة جماعة سياسية. مهما اختلفنا حول هوية هذه الجماعة السياسية، فإن هذا لا يلغي أن القضية هناك هي قضية سياسية، أي قضية هذه الجماعة السياسية. في هذا الجزء سأتعرض للمشكلة الثانية في خطاب الطويرقي وهي ما أسميته ”وهم المساواة السياسية بين البشر“، وبعد تعرضي له سأبين المبررات التي تدفعني لاعتبار أن الجماعة السياسية المنتهكة حقوقها إنما هي الأمة العربية.

يقول الطويرقي ”… وهذا بالضبط ما يحاول فعله القوميون. هم يريدون أن يصوروا الصراع الفلسطيني أو العربي الإسرائيلي على أنه صراع من أجل الهوية بالأساس وليس من أجل الإنسان…هذه الرؤية تحول القضية الإنسانية من اعتداء انساني على حقوق ناس أبرياء إلى صراع هويات وقوميات…“. كيف نستطيع فهم المصطلحات التي يوردها الطويرقي مثل ”القضية الإنسانية“ و“اعتداء انساني“ و“من أجل الإنسان“؟ ماذا يعني عندما يقوم شخص برفض انتماء سياسي محدد- كالانتماء للعروبة أو الأمة الفرنسية أو الألمانية- انحيازا للإنسانية؟ هذا الذي سنفعله هنا.

عندما توضع ”الإنسانية“ كمقابل للانتماءات السياسية فهذا يعني تسييساً لها، والتسييس هنا يعني نقل انتماء ما من مجال ما إلى مجال السياسة، فالإنسان- أي انسان- متعدد الانتماءات، فهو اجتماعيا قد ينتمي لأسرته أو لحيّه أو لدوائر أصدقائه وقبيلته أو للجمعيات الأهلية التي يختار الانضمام لها، وهو – دينيا- قد ينتمي إلى هذا المذهب أو ذاك، وهو- اقتصادياً- ينتمي إلى طبقة اقتصادية محددة قد تكون طبقة ثرية أو وسطى أو فقيرة، هذه الانتماءات عندما تُسيَّس فإنها تُنقل من فضائها الخاص إلى الفضاء السياسي، وحين يتم هذا فإنها ستتحول إلى ظواهر مختلفة، فتسييس الانتماء الديني سيظهر لنا الحركات الطائفية- سنية كانت أو شيعية، إسلامية كانت أم مسيحية أو يهودية أو بوذية- وتسييس الانتماء الاقتصادي، سيظهر لنا الحركات الشيوعية والإشتراكية واللبرتارية. عملية النقل هذه – أو عمليات التسييس- تصبغ هذا الانتماء بعد نقله بالمنطق الأساسي الذي يتحكم بالمجال الجديد أي مجال السياسة.

كل مجال من مجالات التجمع البشري يحمل منطقاً خاصا به، يقول كارل شميت في ”مفهوم السياسة“: ”لنعتبر أن التمييز في مجال الأخلاق هو بين الخير والشر، وفي مجال الجمال بين الجميل والقبيح، والتمييز في مجال الاقتصاد هو بين الربحي وغير الربحي… إن التمييز السياسي الذي بناءً عليه يمكن رد كل الأفعال والدوافع السياسية إنما هو التمييز بين الصديق والعدو… العدو السياسي ليس بالضرورة أن يكون شريراً أخلاقياً أو قبيحاً جمالياً، وليس عليه أيضا أن يبدو كمنافس اقتصادي، بل قد يبدو من المفيد الانخراط معه بصفقات اقتصادية، لكنه ذلك الآخر، الغريب… وتحديده لا يكون باللجوء إلى معيار أو مبدأ ما ولا عبر طرف ثالث محايد“، فعلى سبيل المثال التمايز بين العمال وأصحاب العمل هو تمايز اقتصادي يمكن رده إلى التمايز بين المربح وغير المربح، ولكن عندما يتم تسييس هذا التمايز فإنه يتم تغيير العلاقة بين الطرفين إلى علاقة صديق-عدو، ويصبح الغرض المتطرف لكل طرف هو ”إفناء“ الآخر، وهذا بالضبط ما قام به ماركس حيث أن كل نظريته قائمة على إلغاء السياسية وتسييس الاقتصاد وتفسير الصراع السياسي على أنه صراع بين طبقات والانحياز لطبقة العمال والتبشير بأنهم في النهاية سيقومون بالقضاء على الطبقة البوروجوازية. يمكن أن نرى نفس هذا الأمر أيضا في المجال الديني، فالتمايز في المجال الديني هو بين الحق والباطل، وأطراف هذا المجال يمكن تصنيفهم بين من هو محق ومخطئ وبين من هو مبتدع وضال، ومؤمن وكافر، والوسيلة التي يمكن تسوية هذه التمايزات في هذا المجال إنما تكون بأدوات كالحوار والنقاش والدعوة وما إلى ذلك، لكن بمجرد ما يتم تسييس هذا المجال، وتحويل العلاقة بين المؤمن والكافر إلى علاقة بين صديق-عدو، فإن الهدف النهائي لكل طرف سيكون القضاء على الآخر بالقوّة.

بحسب هذا الفهم المحدد لمعنى ”التسييس“- أي نقل انتماء ما من مجال ما إلى المجال السياسي- ماذا يعني تسييس انتماءنا الانساني؟ ما هو المجال الذي ينتمي إليه ”انتماؤنا إلى الإنسانية“ والذي يريد الطويرقي ومجمل المتبنين للخطاب الانسانوي نقله إلى المجال السياسي أي إلى التمايز “عدو-صديق”؟ في الحقيقة إن الخطاب الإنسانوي يقوم بتسييس خليط من المجالات بعد دمجها سوية بشكل محدد، وهذا ما سأشرحه بقليل من التفصيل فيما يلي.

لنبدأ بالمجال الأول، وهو المجال البيولوجي، أي التمايز بين الكائنات الحية من ناحية الصفات والخصائص البيولوجية، فهنا نجد أن ما يقابل الانسان هو الحيوان، فانتماؤنا للنوع الإنساني في هذا المجال لا يعني أكثر من تشاركنا بمجموعة من السمات والخصائص البيولوجية التي تميزنا عن باقي الحيوانات التي تشاركنا هذا الكوكب. إن أبرز نموذج على  تسييس هذا المجال ، أي نقله لتمايز إنسان-حيوان من المجال البيولوجي إلى المجال السياسي وتحويله إلى تمايز صديق-عدو، نجده في التراث اليهودي وفي فكرة ”شعب الله المختار“، إن هذه الفكرة تعني أن العلاقة بين المنتمي لليهودية والمنتمي لغيرها من الأعراق/الأديان مماثلة للعلاقة بين الانسان-الحيوان، وبتسييسها يتم إعلان العداء ضد كل من هو غير يهودي. نفس المعنى نجده في التمايز الأوروبي بين ”المتحضر-المتوحش أو البربري“ الذي هو علمنة لمقولة شعب الله المختار.

الفرق الذي يقوم به الخطاب الإنساني أنه لا يحصر معنى الانسانية في عرق أو قبيلة أو دين محدد، بقدر ما يقوم بوضع تعريف أخلاقي وقانوني- أي بدمج المجال الأول البيولوجي بمجالات أخرى أخلاقية وقانونية- لمن هو ”الإنسان“، أي بجعل الإنسان مرادف للبريء في المجال القانوني ومرادف للخيّر في المجال الأخلاقي، ثم يقوم بتسييس هذا الخليط معا، ليصبح ”العدو“ هو الحيوان المتوحش المجرم الشرير. يمكن ملاحظة خطاب الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد ما تسميه ”الإرهاب“، لنرى أن الإرهابي يقدم بهذه الصفات: مجرم خارج على القانون، شرير، أي لا يستحق صفة ”إنسان“، ولهذا يتم تبرير التعامل معه بطريقة مشابهة لطريقة صيد الذئاب والدببة والوحوش التي تهدد القرية، أي الطريقة التي نراها مجسدة في سجن جوانتنامو وقتل الناس بطائرات بدون طيار وغيرها. إن هذا المعنى للإنسانية – أي هذه الخلطة القانونية/الأخلاقية/البيولوجية- هو الذي يخلع على بعض الأفعال، فانطلاقاً من هذا المعنى المحدد تصبح المعونة الأخلاقية: مساعدة إنسانية، ويتحول التدخل العسكري من أجل حماية المدنيين ”تدخلا إنسانيا“، وتصبح عمليات الإبادة جرائم ”ضد الإنسانية“. إن الإنسانية في هذه العبارات تعني أن هذه المساعدات وهذا التدخل وهذه الجرائم ليست ”لغايات سياسية“ بل ”لأجل الانسانية أو ضدها“. ونفي وصف ”السياسة“ هنا لا يلغي ”التسييس“ إذ أن السياسة في هذا السياق فقدت معناها وتحولت لمعنى من قبيل “السعي خلف المصالح الخاصة“، في حين أن الإنسانية هي السعي لما فيه صالح ”النوع الإنساني“- المعرف تعريفا أخلاقيا وقانونيا محدداً- بشكل عام. أي أن هذه المقابلة بين الإنسانية/السياسة، تقوم بتسييس الإنسانية ونقل السياسة من مجالها – أي مجال الصديق/عدو- إلى مجال الاقتصاد – أي حسابات المصالح الخاصة والأرباح والخسائر.

هذا الخطاب الإنسانوي يعاني من ثلاثة مشاكل، أولها: أنه يقوم بتحويل الانتماء البيولوجي للنوع الإنساني إلى انتماء سياسي، ويقوم بإذابة الجماعات السياسية البشرية المتنوعة إلى جماعة سياسية واحدة كبرى اسمها ”الإنسانية“، محكومة بقوانين طبيعية وتتمتع بحقوق ”إنسانية“، وبالتالي تُعتَبر قضية فلسطين قضية ”إنسانية“، أي أنها صراع بين ”الجماعة السياسية الإنسانية“ وبين ”إسرائيل“ التي سيفهم من هذا السياق أنها لا تنتمي إلى الإنسانية وأن أفرادها فاقدين لها. تقول حنة أرندت ”ليس الإنسان من يعيش على هذا الكوكب، بل الناس“، وما تؤكد عليه أرندت في هذه العبارة هو ما يسعى الخطاب الإنسانوي إلى مصادرته: أي التنوع البشري، أن البشر متنوعون كأفراد وجماعات وموزعون على لغات وتواريخ وتقاليد ودول متنوعة، وأن خطاب ”الإنسانوية“ هذا، لا يقوم بأكثر من تحويل ”الإنسان“ إلى صنم، يستخدم لطمس هذا التنوع واستبداله بنمط واحد مكرر من نسخة واحدة لـ“الإنسان“.

بالإضافة لهذه النزعة الشوفينية المتضمنة في هذا الخطاب الإنسانوي، فإن ثاني مشاكل هذا الخطاب تتمثل في أنه من الناحية العملية ليس أكثر من يوتوبيا، أي محض حلم لا يمكن تحققه مع وجود هذه الدول والأمم والجماعات السياسية المتنوعة الموجودة في العالم، إلا أن اليوتوبيا- لأنها تحديداً غير قابلة للتحقق- تصبح مبررا لكل أنواع العنف والقهر والاستغلال، فهي بهذا الشكل لا يستفيد منها تقريباً إلا جهتان فقط: الولايات المتحدة الأميركية من جهة،  والشركات العابرة للقارات من جهة أخرى. الأولى عبر توظيف هذا النوع من الخطاب لانتهاك سيادة الدول والأمم الأخرى واعتبار الممانعين لسياساتها ”إرهابيين“ و“محور شر“، أي لا يستحقون صفة ”إنسان“، أما الثانية فعبر الاستفادة من تنميط البشر- باعتبار أن هذا التنميط هو الإنسانية، فيبدأ الحديث عن ”أعياد انسانية“ و“مناسبات انسانية“- الأمر الذي يقتضي تنميط أذواقهم وعاداتهم بحيث يكونون نسخ مكررة من بعضهم، وهو الأمر المرافق لفتح أسواق جديدة، بعد تقليص القدرات السيادية للدول والأمم على أسواقها.

أما المشكلة الثالثة فهي في الفهم المختل لمعنى المساواة السياسية. فهذا الخطاب- عبر تسييسه للتمايزات البيولوجية والاخلاقية والقانوني- يسعى لإنهاء كل التمايزات الأخرى في المجال السياسي، فهو يتعامل مع تمايز الفرنسي والصيني والعربي والإسرائيلي على أنها إما ”تمايزات لا معنى لها“ أو أنها ”عنصرية“، ففي هذا الخطاب التمايز الوحيد المقبول هو ذلك الذي بين الإنسان/الخيّر/البريء وبين الحيوان/الشرير/المجرم، وهذا هو الجذر الحقيقي لعداء الطويرقي وغيره من الإنسانويين للقوميات. المساواة السياسية لا تكون بين الناس، بل بين المواطنين، والمساواة بين المواطنين تتضمن في ذاتها عدم تساويهم مع الغرباء والأجانب والأعداء، فالمساواة السياسية لها مضمون، وهي تتضمن في ذاتها لامساواة: المساواة بين المواطنين لا تكون ممكنة إلا إذا تضمنت لا مساواة مع الأغراب، فالمواطن الأمريكي مساوٍ للمواطن الأمريكي الآخر بمعنى أن المقيم والأجنبي ليس مساوياً لهم. يقول كارل شميت عن المساواة بين البشر بصفتهم بشراً، أي المساواة بلا مضمون، بأنها ”ستكون مساواة بدون اللامساواة الضرورية لها، أي أنها بالمحصلة ستكون من ناحية سياسية ومن ناحية المفهوم بلا معنى، بأنها مساواة  لامبالية… إلا أن المساواة ذات المضمون لن تختفي من العالم ومن الدولة، بل سينتقلون إلى مجال آخر، ربما تنفصل عن السياسة وتتركز في الإقتصاد، جاعلة من هذا المجال ذا أهمية حاسمة واستثنائية، وفي ظروف المساواة الإنسانية السياسية، فإن مجالاً آخر حيث المساواة ذات المضمون تسود (كالمجال الاقتصادي على سبيل المثال اليوم) سيهمن على السياسة“ (المقدمة الثانية لأزمة البرلمانات، ص ١٢). أي أن الهاجس العُصابي الكامن في هذا الخطاب الإنسانوي في القضاء على كافة التمايزات السياسية، لن يقوم بأكثر من نقلها إلى مجالات أخرى كالأخلاق والاقتصاد والدين وتسييسها، ومهما كانت الشرور التي قد تنبعث من الحروب بين الأمم والجماعات السياسية، إلا أن الشرور التي تنبعث من تسييس المجالات الأخرى لا تقل عنها إن لم تكن تتجاوزها بالإضافة للشرور الأخرى الناتجة عن إفساد المجال الأصلي نفسه عبر تسييسه.

الخطاب الذي يستند إليه الطويرقي في نسخته اللطيفة لا يمكن أن يقدم أكثر من رد السياسة إلى محض قانون والتعامل مع المختلفين بشكل فرداني عبر تمايز بريء/مجرم، أو أنه في نسخته الشاملة يعمد إلى تقسيم العالم إلى إنسان/خيّر/بريء و حيوان/شرير/مجرم. في الأولى لا يمكنه- في سياق القضية الفلسطينية- إدانة ”الاحتلال“ بل كل ما سيدينه هو بعض الجرائم واستخدام العنف ومن الطرفين، وفي نسخته الثانية فسيعتبر الانحياز لأحد طرفي الصراع هو انحياز مع الخير والبراءة والإنسانية ضد الإجرام والهمجية والشر.

صراع عربي-إسرائيلي

الآن، في حال رفضنا لهذا الخطاب الإنساني وإعادة الاعتبار للمجال السياسي، وفي حال رفضنا للنظر للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية قانونية بين أفراد بل قضية سياسية بين جماعات سياسية، فإنه بالإمكان الحديث الآن وبشكل واضح أن هاتين الجماعتين السياستين هما: العرب من جهة، والإسرائيليون من جهة أخرى. هو ليس صراعاً فلسطينياً-إسرائيلياً، لأن اسرائيل تحتل أراضٍ عربية- احتلت أراضي من لبنان ومصر وسوريا والأردن وفلسطين- ولأن إسرائيل لا تعتدي فقط على الفلسطينيين بل تعتدي على الدول العربية أيضاً: تقصف مفاعلا نوويا في العراق، وتقصف مقر منظمة التحرير في تونس. إنها تعادي العرب وتحتل أراضيهم، وعلى رغم أن هناك  من يختلف مع جعل العرب هم الطرف الآخر في الصراع، إلا أنهم يتفقون على أن إسرائيل هي الطرف الأول. لهذا تجد أن الصراع يوصف تارة بأنه ”صراع فلسطيني-إسرائيلي“ أو ”صراع عربي-اسرائيلي“ أو حتى ”صراع إسلامي-إسرائيلي“، وهذا الخلاف على الطرف المقابل لإسرائيل يعود إلى ما يدعوه عزمي بشارة بالمسألة العربية، أي إلى كون الأمة العربية واحدة من أكبر الأمم المعاصرة التي لم تنل حق تقرير المصير. هذه الحالة، أي كون العرب لم ينالوا حق تقرير المصير، أفرزت العديد من الظواهر السياسية كالطائفية، والدولة القُطرية، بل يمكن تصوير الإنسانوية بنسختها العربية بأنها هي الجواب الليبرالي العربي عن هذه المسألة، وهي الحال التي تفرز عدم الوضوح هذا في تحديد الطرف المقابل لإسرائيل في الصراع، وما سأقوم به الآن هو الحديث عن مسألتين: الأولى هي توضيح أن المقصود بالعروبة والأمة العربية ليس تسييساً عرقياً، والثانية أن قضية فلسطين ليست ”قضية دينية“ وليست ”قضية فلسطينية“، بل قضية عربية، حيث ستتضمن هذه المسألة الثانية رداً على الموضوع الثاني الذي تناوله الطويرقي.

القومية العربية تعني أن العرب جماعة سياسية تقابل الأتراك والفرس والفرنسيين والألمان وغيرهم. هناك اتجاه يرى في العرب ”عرقاً نقياً“ أعلى من باقي الأعراق، ويعتبر أن العربي أفضل من غيره فقط لأنه عربي، وأن للعروبة معانٍ نبيلة وأخلاقية وجمالية، هذا الاتجاه عنصري، يقوم بنقل التقسيمات العرقية إلى مجال السياسة بعد خلطها بمجموعة من القيم الأخلاقية وغيرها، وهذا الاتجاه يزعم أنه بإمكانه اشتقاق أخلاق عربية وعادات عربية واقتصاد عربي من الانتماء لجماعة عربية، هو اتجاه يفهم ”الجماعة“ بشكل عضوي لا يدع مجالاً لحرية الفرد، وهو في حال وصوله للحكم سيقوم بكل الفظائع التي يقوم بها كل نظام عنصري.

إلا أن المغالطة التي يرتكبها كل من ينتقد ”القومية“ هو أنه يختصرها في هذا الاتجاه العنصري، فالدولة الألمانية قائمة على قومية ألمانية، لكن القومية الألمانية ليست هي النازية، ومحاولات الانقلاب على هتلر التي قام بها بعض ضباط الجيش الألماني إنما كانت من أجل إنقاذ ”ألمانيا“ من النازية، أي دفاعاً عن الجماعة السياسية ضد هذا الاتجاه العنصري. يوجد يهود قوميين، لكن هذا لا يجعلهم بالضرورة صهاينة، فالصهيونية- مثل النازية – حركة عنصرية وليست حركة قومية، وبنفس هذا المنطق يجب التفريق بين الاتجاهات العنصرية العربية والقومية، فالحركات القومية ليست بالضرورة بعثية.

إن المشروع القومي لا يحمل أجوبة اقتصادية واجتماعية ولا يتبنى شكلا محددا للنظام السياسي، فكما أن هناك أميركي شيوعي وأميركي لبرالي فكذلك هناك عربي ديمقراطي، وآخر سلطوي، وثالث ليبرالي، ورابع اشتراكي..إلخ، وإذا كانت القوميات الأوروبية استغرقت فترة زمنية طويلة للتشكل كاستجابة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتطور في مجال الاتصال والمواصلات، فإن القوميات الأخرى احتاجت حركات وتضحيات في سبيل أن تنال استقلالها ووحدتها من الاستعمار، ومن هذا المنطلق يمكن النظر للقومية العربية باعتبارها مشروع سياسي يقوم بشكل رئيسي على التحرر من الاستعمار وبناء المؤسسات السياسية العربية، أي الاستقلال وبناء الدولة، إلا أن العرب، على مدى عقود، لم ينالوا حق تقرير المصير ولم يتحرروا كليا من الاستعمار، بل نالوا استقلالهم بشكل مُجَزَّأ على شكل دول قطرية، أي دول لا تمثل كل العرب بل تمثل أجزاء منهم. هذه الحال التي لا يمكن اعتبارها استقلالاً كاملاً ولا حتى تحرراً كاملاً، لا خروجاً من زمن الاستعمار ولا دخولاً في زمن الاستقلال، لا حرباً مع العدو ولا سلاماً معه، هي التي تتسبب في كثير من تبديد الوضوح الذي نعيشه هذه الأيام، إلا أن هذا الوضع لا يدفعنا إلى اعلان ”نهاية العرب“، بقدر ما يدفعنا إلى معالجة هذه المشاكل المستجدة والتفكير فيها انطلاقاً من كوننا عرباً، مثل مقاومة تسييس الهويات الفرعية كالهويات الطائفية وتحويل الطوائف إلى جماعات انفصالية أو حركات محاصصية، ومثل مقاومة الاحتلال الإسرائيلية ومعالجة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية، والسعي نحو اتحاد عربي بين الدول العربية بحيث تكون سياسات هذه الدول تستجيب لتطلعات الأمة التي يمثلونها، والحرص على بناء مؤسسات الدولة على أسس عربية، لا أسس طائفية أو عشائرية، وأخيراً احترام حقوق الجماعات السياسية الأخرى مثل الأكراد وغيرهم في تقرير المصير.

ليس الهدف هنا كتابة بيان للمشروع العربي القومي، إنما المقصود توضيح أن التأكيد على الانتماء العربي ليس ترديداً للغة خشبية ولا إحياء لتقليعة ماضية ولا انحيازاً لاتجاهات عنصرية تبرر سياسات استبدادية وقمعية لدى بعض الدول التي ترفع شعارات قومية.

ومن هذا المنطلق تصبح دعوى الطويرقي أن الخطاب القومي مشابه للخطاب الإسلامي من ناحية بنيوية لا معنى لها، ذلك أن الخطاب الإسلامي يقوم بتسييس انتماءٍ ديني، أي نقل الانتماء الديني إلى المجال السياسي. الانتماء الديني قائم على الإعتقاد والاعتناق، أي أنه مشروط بالاختيار الحر وخاضع للتبدل، وهو من ناحية أخرى عابر للثقافة والجغرافيا والدول، فالمسلمون يوجدون في مشارق الأرض ومغاربها. إن نقل هذا الانتماء الديني إلى المجال السياسي يؤدي إلى أربعة أمور: أولاً، يقوم باعتبار الشخص مسلماً بالولادة لا بالاختيار، بحيث يعتبر مسلماً من وُلد لأب مسلم بغض النظر عن اعتقاده، وهذا الأمر يؤدي لظواهر مضحكة كما هو حاصل الآن في لبنان، إذ تجد أن الهوية السياسية لشخص ما قد تكون ”سنية“ لكنه ملحد، فيصبح ”سني ملحد“. ثانياً، ولأن الانتماء الديني قائم على دعوى الوصول إلى الحق، ولأن البشر يختلفون فيما بينهم في وصولهم لهذا الحق، فإن تحويل هذا الانتماء إلى المجال السياسي يعني نقل هذه التمايزات في الوصول إلى الحق إلى تمايزات في الحقوق السياسية، فلا تعتبر مواطنة المؤمن كمواطنة المبتدع ولا تعتبر مواطنة الأخير كمواطنة الكافر، وتخضع المواطنة لتقييم دوري للتأكد من سلامة العقيدة. ثالثاً، ولأن الأديان تتوزع إلى فرق ومذاهب فيما بينها، فإن تسييس الانتماء الديني يعني تحويل أتباع المذهب الديني إلى جماعة سياسية، ومشكلة الطائفية ليس أنها تحمل في طياتها نزعات انفصالية أو محاصصية، بل مشكلتها أيضاً – كما لاحظ ذلك عزمي بشارة- أنها تقضي على الفرد أيضاً إذ تذيبه في الطائفة، فحماية الطائفة للفرد مشروطة بذوبانه فيها. أخيراً، فإن الخطاب الديني هو خطاب شمولي، يقوم على دعوى تقديم حلول لكل شيء، فهناك شكل محدد للدولة، وهناك اقتصاد اسلامي، ومعرفة إسلامية، وسياسة شرعية…إلخ، وهي بهذا المعنى تكون متشابهة مع الحركات العنصرية لا مع الحركات القومية التي يفشل الطويرقي دائماً في التمييز بينها.

وكما أن القضية الفلسطينية لا يمكن اعتبارها قضية إسلامية- إلا اذا اختصرنا قضية فلسطين بالتهديدات التي تتعلق بالحرم المقدسي والمساجد الإسلامية في فلسطين، وإن قمنا بهذا الاختصار فاننا لا نستطيع أن نرى الاحتلال كمشكلة بل ما يقوم به فقط تجاه هذه المؤسسات- فإنها أيضاً ليست قضية ”الفلسطينيين“ بل قضية ”العرب“. فاعتبار الهويات القُطرية هويات بديلة للهوية العربية يتضمن عدداً من المشاكل التي لا تنتهي، فمن ناحية مبدئية هذه الهويات هي أحد نتائج المستعمر وليست مضادة للإستعمار، فالحدود التي تفصل لبنان عن سوريا عن العراق والتي تفصل مصر عن السودان والتي تفصل دول الخليج عن بعضها هي حدود مصطنعة، ومن صنعها هو الاستعمار، فبناء هوية فوقها يعني الخضوع للمنطق الاستعماري. أما من ناحية أخرى، فهذه الهويات لا تحمل في داخلها شرعية إذ أنها مرتبطة بالأنظمة السياسية القائمة التي هي الأخرى منحازة طائفياً وعشائرياً ومناطقياً، وهو الانحياز الذي يوفر بيئة خصبة لنشوء معارضات طائفية ومناطقية وعشائرية، معارضات انفصالية أو محاصصية، ولا يُفهم من هذا الكلام بالضرورة المطالبة بإلغاء الحدود والمطالبة بالوحدة العربية الشاملة، بل كل ما يؤكد عليه أن هذه الدول لا تستمد شرعيتها إلا بصفتها دولا ”قُطرية“ أي أنها تمثل جزءاً من الأمة العربية، وبالتالي فإن عملية بناء الدولة والمؤسسات السياسية فيها لابد أن يكون مرتبطاً ببناءها على أساس عربي لا على أساس ”وطني“ – الذي لن يعني إلا مناطقي وعشائري وطائفي- وأن سياستها الخارجية يجب أن تكون سياسات عربية، أي ليست سياسات تطبيعية أو سياسات خاضعة للهيمنة ومتحالفة مع الآخر ضد الدول العربية الأخرى.

خاتمة:

كما يبدو واضحا، فأنا في هذه الورقة حرصت أن أقدم نقداً شاملاً لمجمل الخطاب الانسانوي المنتشر في أوساطنا العربية مؤخراً، وقمت بتوظيف مقال محمد الطويرقي ليكون نموذجاً لهذا الخطاب، لكن لم أحصر النقد به بل حاولت أن أجعله عاماً وشاملاً، ومن هذا المنطلق اشتمل النقد المقدم هنا على ثلاثة جوانب: الأول، هو التأكيد على أن رد السياسة إلى قانون لن ترى في الخلافات والأزمات السياسية إلا الانتهاكات والجرائم الفردية، لكن لا يمكن أن ترى ظواهر سياسية مثل الاستعمار والاحتلال، ولهذا السبب تحديداً تفشل هذه المقاربة في التعاطي مع السياسة التي لابد من النظر إليها انطلاقا من أن العالم مكون من جماعات سياسية، أما الجانب الثاني، فقد وضحت فيه مدى تهافت الخطاب الانسانوي وكيف أنه في محاولته لإلغاء كافة التمايزات السياسية الموجودة اليوم يقوم بتسييس انتماءات بيولوجية وأخلاقية وقانونية تتضمن عدداً من المشاكل والمآزق والأخطار. أخيراً، وبعد إعادة الاعتبار للمجال السياسي وللجماعات السياسية، وضحت أن الجماعة السياسية المتضررة في قضية فلسطين هي الجماعة السياسية العربية، ليست الفلسطينية ولا الإسلامية، وأن وصف الجماعة السياسية بالعربية لا يتضمن تسييساً عرقياً ولا تنظيراً عنصرياً مع توضيح الفرق بين العنصرية والقومية.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق