نقد التجربة الإصلاحية: البيانات الإصلاحية في السعودية

الكاتب:

23 فبراير, 2013 لاتوجد تعليقات

*”رؤيتكم رؤيتي، و مشروعكم مشروعي”.

الملك عبدالله (ولي العهد وقتذاك)، مخاطباً د.عبدالله الحامد، د.متروك الفالح، علي الدميني، و إصلاحيين آخرين من موقّعي عريضة “رؤية لحاضر الوطن و مستقبله”، عندما استقبلهم إثر نشر العريضة عام 2003م – كتاب (السجين 32) صـ327.

*جاء في لائحة الدعوى التي حركتها هيئة التحقيق و الادعاء العام في أغسطس 2004م ضد كلّ من: عبدالله الحامد، علي الدميني، متروك الفالح، ما يلي: “و باستجوابهم كان مما أفاد به المدّعى عليه الأول (الحامد) قيامه بالمشاركة في إعداد و تبني إصدار بيانات و عرائض و قيامه بالسعي لجمع تواقيع عدد من المواطنين عليها و أن فكرة إعداد خطاب (رؤية لحاضر….) بدأت أثناء لقاء في مملكة البحرين حيث جرى نقاش بين عدد من الأطياف الثقافية منها إسلامية و ليبرالية و علمانية و اتفق بينهم على أسسه و شارك هو في إعداده”، “و انتهى التحقيق إلى توجيه الاتهام لهم: بالضلوع في المشاركة في تبني إصدار العرائض المشار إليها (من بينها عريضة الرؤية) و تزعم الموقعين عليها و حث غيرهم على توقيع هذه العرائض المتضمنة التشكيك في منهج ولي الأمر”. 

مرّ المشهد السياسي السعودي في العقد الماضي بموجتين من “البيانات الإصلاحية”، أولاهما بدأت مع عريضة “رؤية لحاضر الوطن و مستقبله” عام 2003م و ما تلاها، و الثانية في 2011م بخطاب “دولة الحقوق و المؤسسات” و ما واكبه. و يمكن القول أن كلتا الموجتين تبنيان على ما يُشبه التقليد الإصلاحي الذي أسسته “مذكرة النصيحة” و “العريضة المدنية” اللتان قُدّمتا أوائل التسعينيات الميلادية إلى الملك وقتذاك. بصفة عامة، هناك ظاهرة خليجية تتمثل باللجوء إلى العرائض و البيانات كحلّ مؤقّت لتجاوز احتكار الفضاء العام من قِبل منظومات الحكم في المشيخيات الخليجية، كما حدث عندما تمّ تعطيل البرلمان الكويتي عام 1986م فلجأ النواب و المواطنون إلى كتابة و توقيع “العريضة الشعبية”، وصولاً إلى العريضة الإصلاحية التي رفعها عدد من المواطنين الإماراتيين إلى رئيس الدولة عام 2011م و بدأت على إثرها موجة من الاعتقالات و سحب الجنسية. تقدّم هذه المقالة قراءة نقدية لظاهرة “البيانات الإصلاحية” في السعودية خلال العقد الأخير، مُمثلة في عيّنة من أهم البيانات ذات الطابع العام أو الفئوي، و تشمل: 

 “رؤية لحاضر الوطن و مستقبله” 2003م 

 “دفاعاً عن الوطن” 2003م

 “نداء إلى القيادة و الشعب معاً: الإصلاح الدستوري أولاً” 2003م

 “شركاء في الوطن” 2003م 

 “دولة الحقوق و المؤسسات” 2011م 

 “إعلان وطني للإصلاح” 2011م 

 “دعوة للإصلاح” 2011م 

 “رسالة شباب 23 فبراير إلى الملك” 2011م 

 “بيان الشباب السعودي بخصوص ضمان الحريات و أدب الاختلاف” 2012م

 “مبادرة القيادة للمرأة السعودية: خطاب الشعب لخادم الحرمين الشريفين” 2012م 

لا يمكن استخدام هذا التوصيف: “البيانات الإصلاحية”، إلا بصفة مجازية متسامحة، للإشارة إلى أشكالٍ متباينة من النصوص و المضامين و مفاهيم الإصلاح، يجمع بينها كونها خطابات مفتوحة و مُتاحة لتوقيع المؤيّدين. فيما عدا ذلك فإن هذه “البيانات الإصلاحية” تصدر في التباسٍ حول هدفها، و اضطراب يطال أحياناً بُنيتها الداخلية، ثمّ بعد صدورها يحيط بها اضطراب منظومة الحكم السعودية في التعامل معها: الاحتواء؟ التجاهل؟ الاعتقال؟ تجلّت ذروة هذا الاضطراب في بيان “رؤية لحاضر الوطن و مُستقبله” الذي استقبل الملك الحاليّ عندما كان ولياً للعهد موقّعيه قائلاً: “رؤيتكم رؤيتي، و مشروعكم مشروعي”، ثم في العام التالي تحول توقيع هذا البيان – ضمن غيره – إلى تُهمة يُحاكم و يُسجن بموجبها الثلاثي الإصلاحي عام 2004م. انعكس هذا الاضطراب السلطوي على طبيعة الموقف الاجتماعي من هذه البيانات و خصوصاً بين الموقّعين أو المدعوين للتوقيع، إذ دخلت في الحسابات أشياء أخرى بعيدة عن مضمون البيان و أفكاره، كحسابات الربح السياسي و الشخصي المتوخى من التوقيع. فمثلاً، يذكر محمد سعيد طيب أنه و بعد ذيوع نبأ قَوْلة الملك “رؤيتكم رؤيتي”، لامه بعض الأشخاص على عدم دعوتهم لتوقيع العريضة (كتاب السجين 32)، و في المقابل اعتبر آخرون أن عداء منظومة الحكم لهذه البيانات يُعدّ مكسباً حقوقياً كما يقول علي الدميني (كتاب زمن للسجن، أزمنة للحرية). خلال العقد الماضي كان جزءٌ من أسلوب التفاعل الاجتماعي مع البيانات و النقاشات حولها يغلب عليه طابع الاهتمام التحليلي بتشكيلة أسماء الموقّعين، فتصبح قائمة الموقعين بمثابة “نصّ اجتماعيّ موازٍ” لنصّ البيان؛ و مؤشراً “ما” على خريطة الأفكار و التيارات و حراكها المستجد، لكن عند أخذ هذا الظرف الذي يحيط بإصدار البيانات و توقيعها في الاعتبار، يمكن ملاحظة دوافع مختلفة وراء توقيع هذا البيان أو ذاك؛ سوى مَتن البيان نفسه، دوافع تكتيكية أو شخصية أو آنية للتوقيع، و هذا بدوره يجعل القيمة التحليلية لمغزى حضور هذا الاسم أو غياب ذاك، ذات صلة بالمشهد السياسي و الاجتماعي، أكثر من صلتها بتطور الخطاب الإصلاحي ذاته. مثلاً، عند مراجعة بعض العرائض القديمة كـ”نداء إلى القيادة و الشعب…” المنادي بالملكية الدستورية، يمكن ملاحظة توقيعات لكُتابٍ تجلّوا بعد ثمانية أعوام خلال الربيع العربي في شنّ حملة صحافية على الديموقراطية مفهوماً و ممارسة. و يذكر محمد سعيد طيب أن د.توفيق السيف هو من وضع الخطوط العريضة لبيان “رؤية…” لكنه لم يوقّعه لئلا يحجم بعض الإسلاميين السُنّة عن التوقيع (السجين32). أما ما بدا أنه تلاقٍ بين التيارات التي تشاركت التوقيع على بعض البيانات (كما حدث في بيان “دولة الحقوق…”)، فيصفه الباحث مشاري عبدالرحمن النعيم بـ”التلاقي الشكلي” كما برهنت على ذلك الأحداث اللاحقة للبيانات (كتاب اتجاهات النخب في السعودية). على هذا الأساس، تُنحّي هذه المقالة جانباً دراسة الخارطة الاجتماعية لموقّعي البيانات، و تُركّز  بشكلٍ أساسي على قراءة متون البيانات، كمادّة تصلح لرصد خطوط فكر الإصلاح السياسي في السعودية، و إشكالياته. 

نجحت “البيانات الإصلاحية” على عدة مستويات. فرغم أنها تقدّم مفاهيم متفاوتة للإصلاح، إلا أنها نجحت في إرساء خطوط عامة لقضية الإصلاح السياسي في السعودية، أهمها تطوير نظام الحكم، انتخاب المؤسسة التشريعية، استقلال القضاء، المساواة و القضاء على التمييز، حرية التعبير و التجمّع، محاربة الفساد و آثاره الاجتماعية و الاقتصادية. كما نجحت في حشد عدد لا بأس بهِ من المواطنين وراء هذه القضايا. و كوّنت قاموساً محلياً لمفردات لخطابها الإصلاحي التي فرضتها على الحقل السياسي السعودي، كمفردات “المشاركة الشعبية” و “الملكية الدستورية” و “الحقوق و الحريات”، “المال العام”، “سيادة القانون”، إلخ. كما مثلت، و دون قصد، رصداً غير مباشر لمدى الركود السياسي و مُمانعة منظومة الحكم للإصلاح، و في الآن نفسه التقدّم المتزايد لمطالب الإصلاح، و مثّلت كذلك مؤشراً على التدهور في الوضع الداخلي للدولة. فالبيانات المتوالية ما لبثت تكرر مطالب ثانوية سهلة التنفيذ و لا تمسّ صُلب منظومة الحكم، كإقرار النظام الخاص بالجمعيات الأهلية دونما استجابة! و بينما كان بيان “رؤية…” يشير إلى مشكلة البطالة، و المعتقلين و المنع من السفر، فإن خطاب “دولة الحقوق و المؤسسات” بعد ثمانية أعوام، يشير إليها جميعاً و يزيد عليها مشكلة السكن، و يضيف إليها “الإعلان الوطني للإصلاح” و بصراحة فاقعة، قضية “الفقر”. و كل هذا جنباً إلى جنب التصاعد المستمر في المطالب، فبيان “رؤية…” يقف عند مطلب تطوير نظام الحكم، لكن “دولة الحقوق و المؤسسات” يرفع سقف مطالبه إلى تحديد صلاحيات الملك عبر  فصل رئاسة الوزراء عن منصبه. في المقابل، يمكن اعتبار  تقارب بل و تكرار  مضامين البيانات المنفصلة لكن المتزامنة؛ مؤشراً مُحبطاً على عجز النخب السعودية عن إنتاج خطابٍ وطني جامع، و تمسكهم بتمايزاتهم الداخلية الهشة، مُنتجين بياناتٍ منفصلة تُجمع على نفس المطالب الرئيسية، و الاختلاف الأساسي فيها هو ازدياد جرعة الخطاب الشرعي أو نقصانها. ثمة مؤشر مُحبط آخر يمكن أن يولد من التتبع التاريخي للبيانات المختلفة، و هو تمسكها التقليدي و المتكرر بتحذير منظومة الحكم “من احتقان المجتمع المؤذن بالانفجار”، لكن الأعوام تمرّ و المجتمع محتقن لكنه لا ينفجر، ما يفرض سؤالاً حول ملاءمة هذا الخطاب الإصلاحي، و سؤالاً أكثر مرارة حول نجاح منظومة الحكم السعودي في توظيف الحل الأمني و الضّخ المالي في تنفيس الاحتقان الاجتماعي، و لو مؤقتاً. 

يمكن أن يكون السؤال الأبرز الذي يواجهه البيان الإصلاحي هو سؤال الغاية. ما الغاية الرئيسية المرتجاة من كتابة و توقيع البيانات في السعودية؟ ما الهدف الذي تحدده البيانات لنفسها؟ أهي في موقف “نصيحة” لنظام الحكم.. أم موقف “توعية” للمواطنين؟ هل يمثّل البيان فِعلاً سياسياً يناور منظومة الحكم (خاصة خلال الأعوام2003-2004م عندما كان بعض الإصلاحيين مقتنعون بصدق التوجه الإصلاحي عند جزء من منظومة الحكم و بحاجته للدعم كما يقول علي الدميني!)، أم تبشيراً بالفكر الإصلاحي و نموذجاً عملياً لممارسة حرية التعبير؟ كِلتا الغايتان مشروعتان على حدٍ سواء، و مُتداخلتان أحياناً، لكن مُشكلة البيانات الإصلاحية هو مزجُها غير الواعي بين الغايتين، بين منطق السياسة و ضرورات الفِكر، بطريقة تفتقر إلى الاتّساق بين الخطاب و غايته المفترضة. مثلاً: إنه من المألوف توجيه البيانات إلى الملك و وليّ عهده إلخ، هذه البيانات تبدأ غالباً بحَثّ منظومة الحكم على الإصلاح من أجل تعزيز و استدامة حكم الأسرة المالكة، لكن هذه المقدّمة لا تنتمي بحالٍ إلى الفِكر الإصلاحي الذي ينبني حول تحقق مواطنة المواطنين، لا حماية مصالح الأسر الحاكمة. و كلما مال البيان الإصلاحي أكثرَ إلى تقديم خطابٍ عن الإصلاح على قياس الذهنية الحاكمة، ضعفت قيمته  كخطاب يبث الوعي الإصلاحي بين المواطنين. يتجلى أحياناً مأزق الهدف و الغاية بعد إصدار البيان، عندما يتساءل موقّعوه عمّا بعد البيان؟ يذكر علي الدميني أن الاعتقالات التي أعقبت حركة العرائض عام2003م مثلت “مخرجاً” للإصلاحيين من مأزق وصول الخطابات إلى طريق مسدود كالعادة و مِن شُبهة التحالف مع أحد أجنحة منظومة الحكم (زمن للسجن، أزمنة للحرية). إذن: يصدر البيان، فلا منظومة الحكم تستجيب، و لا المواطنون يحتشدون بدرجة كافية حول البيان أو أصحابه، فيجد أصحاب البيان أنفسهم في مأزق السؤال عن الغاية من إصداره، و يأتي الحلّ الـمُنقذ على يد منظومة الحكم بالاعتقال و التضييق و المنع من السفر و التدريس، فيما يُشبه طـَقس الرفع على الصليب (معنوياً). 

تظهر في متون البيانات لمحاتٍ تشي بافتقارها إلى الجدّية و التناسق بين مطلبها الرئيسي و مطالبها الثانوية، أو بين عنوانها و خطابها، أو اضطرابِ بُنية خطابها الداخلية. من بين البيانات التي وُجِّهت إلى الملك عند عودته من العلاج في فبراير 2011م، كانت “رسالة شباب 23 فبراير”. تضمنت مطالب رئيسية، و أخرى ثانوية من قبيل “رصد و معالجة الظواهر المجتمعية السلبية”، و “تجديد الخطاب الديني”، و “استيعاب الناشطين المهتمين بالشأن العام” في مجلس الشورى. و في بيان “دفاعاً عن الوطن”، تَرِد المطالب التالية: مطالبة الإرهابيين بنبذ العنف و الإرهاب. في مثل هذه المطالب التي ترد عادة على هامش البيانات يتّضح عادة الفرق بين بيانٍ و آخر، و  مدى جدّية خطابه، و نمط تصوراته عن الدولة و المواطن. عندما يُطالب بيانٌ إصلاحيّ منظومة الحكم بمطالب تتمحور حول تربية و توجيه المجتمع و الأفكار، كتجديد الخطاب الديني و رصد الظواهر السلبية؛ فإنهُ يشير إلى تصوّرات مُضمرة عند محرر البيان لم تتجاوز بعد نموذج الدولة الرعوية في الخليج، الدولة التي تسقي و تكسي و تُعلّم، و تحدد للمجتمع بأيّ شيء يجب أن يفكر و كيف يعيش. إنه أمرٌ طريف أن يرد مطلب كـ”استيعاب الناشطين في مجلس الشورى” بصفته مطلباً “إصلاحياً” في بيانٍ “شبابي”، مُكرّساً أبوية الدولة التي تحدب على أبنائها الناشطين – المارقين – و “تستوعبهم” ضمن مؤسساتها العتيقة؛ هذا بدلاً عن أن تركّز مطالب البيان الشبابي الإصلاحي على تحرير حركة المجتمع من قيود منظومة الحكم، و على فتح الطريق أمام الأنشطة الفردية لتتحول إلى مؤسسات أهلية مستقلة. بنفس القدر من الطرافة تمكن قراءة مُطالبة “الإرهابيين… بنبذ الإرهاب و العنف”. لا بُد أن كاتب البيان يدري أن تنظيم القاعدة لن يراجع نفسه بعد قراءة هذه الفقرة و يبكي بكاء النادم التائب؛ و يدري جيّداً أن هذا مطلب مُفتقر للجديّة و موجّه تقريباً إلى “لا أحد”، لكنه يستخدم هذه الفقرة من أجل خلق توازن – في نظر منظومة الحكم – مع باقي مطالبهِ  الإصلاحية الواردة في نفس البيان، و تسجيل موقف شخصي ضد الإرهاب. نوع آخر من اضطراب الخطاب يظهر في بيان “دعوة للإصلاح”، الذي يقدّم مفهوماً مختلفاً للإصلاح يتلخّص في إعطاء نفوذ أوسع لـ”العلماء و الدعاة”، مقدّماً له بديباجة شرعية و خطابٍ ديني، لكن في ثنايا البيان ترد مطالب إصلاحية مُستمدة من قاموسٍ مدني: “هدر المال العام، المراقبة، المحاسبة، خط الفقر، الموقوفين، نظام الإجراءات الجزائية”، فتبدو المطالب الإصلاحية الخاصة بالمواطنة و الـمَدَنية في موقع ثانوي بالنسبة للمطلب الكبير الخاص بـ”العلماء و الدعاة”، و ربما لا تمثل هذه المفردات المدنية سوى وسيلة تسويقية للمطالب “الدينية”. و لأن الحفاظ على الاتّساق بين الخطاب الديني و المدني يستلزمُ قصديّة و وعياً مُسبقاً، و هو ما لا يتوافر عليه هذا البيان بالطبع؛ فإنه يصل إلى ذروة الفوضى في خطابه و هو يطالب بـ”التعامل مع الطوائف المخالفة ضمن خطط مدروسة تحقق لهم المواطنة العادلة و الحقوق التي كفلها الإسلام لمثلهم”، جامعاً بين اصطلاحي “الطائفة المخالفة” و “المواطنة”، اللذان لا يجتمعان إلا بصفة التعارض، فحيثما صار الناس كلهم مواطنون وفق قانونٍ مَدَني، لا يعود هناك محلٌ للتمييز بينهم بصفتهم طائفة مخالفة و طائفة موافقة. عادة، تكون البيانات ذات الموضوع المحدود هي الأفضل صيغة و الأكثر جدية، و “بيان الشباب السعودي بخصوص ضمان الحريات و أدب الاختلاف” نموذج جيد لهذا، لكن هناك نماذج سيئة كـخطاب “مبادرة القيادة للمرأة السعودية” الموجه إلى الملك، المكتوب بلغة إنشائية متواضعة و تَمَلّقية، و المشغول في قسم منه، بالاعتذار عن المبادرة، و في القسم الآخر، بتسهيل استقدام السائقين من الخارج!

…هذه النماذج و سواها كثير، تكشف عن اختلالات الوعي و تواضع الفكر الإصلاحي عند بعض من يحرر البيانات و يُفترض فيهم أن يكونوا “نُخباً” فكرية و أن “يقودوا” الحراك الإصلاحي. كما توحي أن كتابة البيانات رغم كونها عملاً جماعياً كما يُفترض، إلا أنها قد تلقى عناية و تدقيقاً أقل مما تلقاه كتابة مقال شخصي، و تخضع بسهولة لظروف التعجّل لاستغلال حدثٍ معيّن، أو مراعاة المزاج السياسي و الشعبي.  و إذا كان هذا مفيداً لترويج البيانات بشكلٍ مؤقّت لحظة صدورها، فإنه مُضرٌ بالحصيلة التراكمية للخطاب الإصلاحي الذي يبدو عند النظر إليه عن بُعد، أقلّ جدية و اتّساقاً مع ذاته، و خاضعاً لما تفرضه اللحظة السياسية أكثر من التزامه بجوهر الفكر الإصلاحي، و هو ما يقود إلى الإشكال التالي، و الأخير في هذه المقالة. 

هناك خاصية مميزة تظهر تقريباً في جميع البيانات أعلاه، حتى تلك المشغولة بقضية فئوية أو موضوع محدد، و هو ارتباط صدورها بحدثٍ خارجيّ، حدث لم تصنعه الكتلة الإصلاحية، لكنها تحاول استغلاله لصالح إعادة أفكار الإصلاح السياسي إلى الواجهة. بيان “رؤية…” عام 2003م كان يشير في ديباجته إلى أحداث 11/9، و البيانات التالية لتفجيرات الرياض مايو 2003م كانت تشير في ديباجتها و متنها تكراراً إلى ضرورة الإصلاح “من أجل تجنب العُنف” (التفجيرات حَدَث داخلي، لكنه خارج عن يد الإصلاحيين). بيانات العام 2011م جميعها تتكئ في ديباجتها على الربيع العربي و تداعياته، بما في ذلك بيان “دعوة للإصلاح” الذي لا يتضمن أية مطالب ديموقراطية أو تحررية؛ لكنه يوظّف الربيع العربي بصفته المصير المخيف الذي يجب أن تتجنبه البلاد (عبر تطبيق الشريعة و فتح الإعلام و المناصب العليا لأهل الخير، حسبما يقترح البيان). و كذلك بيان المواطنين الشيعة “شركاء في الوطن” الذي تتمثل فكرته الأساسية في إدخال الشيعة إلى النظام الحالي (و ليس إصلاح بُنية النظام)؛ هذا البيان يتكئ أيضاً على أحداث 9/11. استقراء هذه الخاصية المميزة للبيانات الإصلاحية، يمكن أن يقود إلى بناء تصوّر حولها كفِعل، و حول موقف مُنتجيها، و الخلل الذي يعتريهما معاً. فاتّكاء البياناتِ الإصلاحية السعودية دائماً على حدثٍ خارجي – ينتمي إلى الخارج دولياً كالثورات، أو الخارج عن مسؤولية و تأثير الكتلة الإصلاحية – يضع هذه البيانات أولاً في محل ردّ الفعل على هامش الفعل الأصلي، أي أن البيانات الإصلاحية ليست تحركاً إصلاحياً قائماً بذاته، و الكُتلة الإصلاحية التي تقدّم البيان تعتمد في محاججتها من أجل الإصلاح على حَدَث لم تصنعه، كالإرهاب و الثورات و وفاة وليّ للعهد و تنصيب آخر؛ لكنها تحاول استغلالهُ و الإفادة منه، فقط. و هذا ما يضع الكتلة الإصلاحية في موقفٍ ضعيفٍ ابتداءاً، فهي تُحذّر مما لم تصنع و تُنذر مما لا تستطيع، ثم تطلب من منظومة الحكم أن تقدّم تنازلاتٍ طوعيّة عن سلطتها، و لهذا تبدو البيانات الإصلاحية في صورة “معاريض” تعزز الصورة التقليدية لمخاطبة منظومة الحكم، حتى شاع وصمها بـ”الخطابات الاستجدائية” كما يقول علي الدميني (زمن للسجن، أزمنة للحرية). ثانياً، و لأن الكتلة الإصلاحية عاجزة عن الحركة و ممارسة نشاطها على الأرض، فهي ضمن مجتمع محرومٍ ككل من حقوقه المدنية في التجمّع و التعبير؛ فإنها ترغب في تقديم  البيانات بصفتها تنوب عن الحراك المدنيّ المحاصر، فأصبح ردّ الفعل المتوقّع بإزاء أي حدثٍ كبير، هو إصدار بيان، كما حدث في فبراير 2011م عقب الثورتان التونسية و المصرية. فهل يمكن للبيانات وحدها أن تنوب عن الحراك المدني… و أن تقدّم بعض الراحة للضمير الإصلاحي القلق؟

“إنّي أتهم”. شبح إميل زولا و خطابه، يلوح دوماً كلما جاء ذكر  قُدرة الكلمة على إظهار الحقيقة، و قُدرة المثقف على إعادة الاعتبار لقيمة المواطنة. ليس هذا هو السبب الوحيد لاستدعاء زولا عند الحديث عن البيانات، هناك سببٌ ثانٍ و هو أن زولا و صَحبه، لجأوا هم أيضاً إبان قضية دريفوس إلى كتابة و توقيع ما عُرف بـ”بيان المثقفين”، الذي كان دافعاً لجدل اجتماعي و سياسي و مُراجعة شاملة. لماذا كان “بيان المثقفين” و خطاب “إني أتهم” مؤثران إلى هذا الحد؟ هل كانت كلمات البيان تعويذة سحرية غيّرت بقوّتها وحدها المجتمع الفرنسي؟ الحقيقة، عندما صدر بيان المثقفين الفرنسيين عام 1898م، لم يكن مجرّد بيان، كان صدوره مؤشراً على تغيّر اجتماعي قد تحقق و يتمثل في استقلال الحقل الثقافي عن الحقل السياسي، و حيازة المثقف سلطة معرفيّة، ثم كان صدوره نقطة انطلاق لحركة اجتماعية تالية مدافعة عن حقوق الإنسان و المواطن تواصلت حتى عام 1906م، و عبر هذه السنوات وُلد مفهوم المثقف بصورته الحديثة (كتاب سوسيولوجيا الثقافة و المثقفين). 

في السعودية، و لأن البيانات باتت تصدر تباعاً دون أن تنجح في خلق هذا التغيير الاجتماعي، يبدو للبعض أن مرحلة البيانات قد استنفذت أغراضها، كما يقول نجيب الخنيزي (السجين32). لكن عند مقارنتها بالنموذج الفرنسي الآنف، يمكن رؤية صورة و دور مختلف للبيانات، كحلقة ضمن سلسلة تحولاتٍ اجتماعية تطال المثقف و الحقل الثقافي، مُنتجة مفاهيم جديدة و خطاباً جديداً، ثم تتواصل بعد البيان عبر تكوين عُصبة أو حركة تتمثل مفاهيم البيان و تحمل روحه، و هو ما لا يحدث في حالة البيانات الإصلاحية في السعودية التي لم تتمخّض عن حركة مماثلة، و مهما كانت جيّدة الصياغة – كـ”الإعلان الوطني للإصلاح” مثلاً – فإن دور موقّعي البيان ينتهي بالتوقيع، ثم ينصرف كلٌ منهم إلى أنشطته الفردية المعتادة (باستثناء د.عبدالله الحامد و زمرة قليلة تواصل تكريس نفسها بالكامل للقضية الإصلاحية). و عندما توجّه الإصلاحيون عام 2003م إلى تحويل بياناتهم إلى عمل منظّم واسع النطاق عبر لجانٍ في كل منطقة من المملكة، كان الاعتقال لهم بالمرصاد قبل إنجاز هذا التحول (زمن للسجن، أزمنة للحرية). 

ثمة تعويل بالغ في على الكلمات المجرّدة، في المشهد السعودي، يُراوح بين الإيمان الحالم بقدرة الكلمات (أو البيانات) على تغيير الواقع؛ و اليأس العميق من تغيير الواقع بحيث لا تمثل البيانات الإصلاحية بالنسبة لمقدّميها إلا مَعْذرة الذات العاجزة إلى الضمير القلق. من الواضح أن قيمة البيانات لا تتعلق بنصوصها و موقّعيها فقط، و لكن بالسياق الذي تأتي ضمنه. فإذا ولدت كجزء من حركة مستمرة و عبّرت عن خطابٍ جديد، ستختلف قيمتها عمّا إذا وُلدت كردّ فعلٍ على هامش حدث خارجي، و عَكَس خطابها ارتباط و ضعف موقف الكُتلة الإصلاحية، ثم انتهت الحركة بصدورها. و اللافتُ أنه بينما تستمر بيانات الكُتلة الإصلاحية بالصدور عند كل مناسبة، معبّرة – أكثر من أي شيء آخر – عن عجز الكتلة الإصلاحية عن تجاوز الحصار الخانق لأيّ حراك مدني، فإن الاختراق قد تحقق فعلاً على الأرض بواسطة مجموعاتٍ أقل اعتناءاً بإصدار البيانات و بالفكر الإصلاحي ككل، لكنها أكثر قدرة على تنظيم الاعتصامات و المسيرات و الإضرابات، و إبداع وسائل الاحتجاج الناعمة كما فعل أهالي المعتقلين دون محاكمات صبيحة العيد الماضي، أو ما فعلته طالبات جامعة الملك خالد.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق