معتقل الرأي، القضية الأكثر وضوحاً

الكاتب:

25 نوفمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

إذا وُجِدَت قضية في السعودية، يمكن للمرء أن يحدد ضحاياها فوراً، و  ينحاز لهم بأكبر قدرٍ من راحة الضمير، و دون أدنى قدر من التردد أو الشكوك، فستكون قضية معتقلي الرأي، لأنها القضية التي تمثل ذروة المواجهة بين الإنسان كمخلوقٍ حُر، و الدولة ككيان قامع.

و لأن حيثيّات قضية معتقلي الرأي في السعودية، تقود حتماً إلى نتائج كبرى، تتعلق بطبيعة هذه الدولة، و غايتها، و موقع الإنسان فيها؛ فإن هذه القضية الجليّة هي أكثر قضية يتم ضخ الكثير من الأكاذيب حولها بطريقة مُمَنهجة، و وِفق قوالب باتت معروفة و تكاد تحتل بالنسبة إلى بعض الـمُتلقين، مع الأسف؛ مرتبة الحقائق. لا تنشر الصحافة السعودية شيئاً عن هذه القضية إلا مُرغمة، تحت ضغط نشاط القضية على الإنترنت و في الواقع، و تنشر بهدف واضح و مُحدد و هو تبنّي و دعم الرواية الحكومية. معظم المقالات التي تشير إلى قضية المعتقلين، تصفهم جميعاً بالمتورّطين في الإرهاب، و تتحاشى تماماً، و كُليّة، التمييز بين المعتقل على خلفية نشاطٍ إرهابي، و مُعتقل الرأي. و إذ يكتب الصحافيون الافتتاحيّات و التغريدات ساخرين من “الحقوقيين و الناشطين الذين يدافعون عن الإرهابيين”، فإنهم يكتبونها و هم يعرفون جيّداً أن في السجون رجالٌ معتقلون من أجل كلماتهم و حسب، و هم يعرفون جيّداً أن محمد البجادي و فاضل المناسف و عيسى النخيفي سجناء لا لأنهم إرهابيون، لكن لأنهم اعترضوا على سياساتٍ حكومية، و يعرفون جيّداً الاسم الكامل لأبي بلال د.عبدالله الحامد و د.محمد القحطاني لكنهم يرمزون لهما بـ”الأكاديميين ع.ح و م.ق”، لأنهم لا يريدون الاعتراف بوجودهما، و لا بأن المحاكم السعودية تُحاكم الرجال على آرائهم. هؤلاء يقومون بمهمة إعادة بث البروباغاندا الحكومية، لكنهم يعرفون جيّداً من هم معتقلي الرأي، واحداً واحداً، و لا يُعانون أي نقص في المعلومات أو عجزٍ عن فهمها، و يكذبون عامدين، و يعلمون أنهم يكذبون. لأن هذا النوع من الوقائع لا يمكن تبريره حكومياً بأي طريقة. يمكن فقط إنكاره و الكذب بشأنه.

أهمّ حزمة أكاذيب يتبناها الخطاب الحكومي بشأن قضية معتقلي الرأي تضمّ ثلاث مقولاتٍ رئيسية. أولاً: أن سياسة الاعتقال بصفة عامة كانت ضرورة فرضتها مرحلة مكافحة الإرهاب. فيبدو في هذه المقولة و كأن التوسّع في الاعتقالات سياسة مؤقتة، و يلعب الإرهاب – الذي ترك ذكرى شعبية مؤلمة – دور الغطاء التبريري لها. و هذه المقولة بالطبع تلعب على المجهول من التاريخ السعودي و على الذاكرة الشعبية القصيرة. فالاعتقال على الرأي ليس سياسة طارئة فرضتها ظروف الإرهاب القاهرة، و التوسّع في موجات عارمة من الاعتقال بغرض محاصرة حراكٍ اجتماعيّ سلمي، قد حدث عدة مرات سابقاً: في منتصف الستينيات للخلايا الشيوعية، و في أوائل السبعينيات لخلايا القوميين العرب و البعثيين، و في منتصف التسعينيات للكثير من رموز الصحوة، و في بدايات الألفية الجديدة لموقّعي بيان الملكية الدستورية. محمد سعيد طيب اعتقل عدة مرات من أجل التعبير عن الرأي، و سلمان العودة، و علي الدميني، و تركي الحمد، و عبدالله الحامد، و عبدالكريم الجهيمان. هؤلاء أعلامٌ معروفون جداً، و جلّهم كتب ذكرياته عن الاعتقال. الحقيقة أننا نملك إرثاً زاخراً و مُستمراً من “أدب السجون” في السعودية، هذا أولاً، و ثانياً: أن من يعترض على الاعتقال من أجل الرأي، لا يعترض على سياسة طارئة، و لا من أجل أشخاصٍ محددين؛ الاعتراض على الاعتقال من أجل الرأي، اعتراضٌ على سياساتٍ تقليدية، مستمرة، طالت عدداً كبيراً من الأشخاص، و ستطال آخرين إذا استمرّت. حركة الاعتراض على الاعتقال من أجل الرأي في جوهرها، إنما هي اعتراضٌ على الشكل الحاليّ لعلاقة المواطن بمنظومة الحكم، و لهذا السبب بالذات، يحرص الخطاب الحكومي على مسخها و تقديمها كقضيّة مجموعة من الحقوقيين “البلهاء” الذين يسعون للإفراج عن مجموعة إرهابيين قَتَلة، فتبدو هكذا كقضية لا تستحق التفاتة عابرة. المقولة الثانية للخطاب الحكومي بشأن قضية معتقلي الرأي: الخلط العمد بين معتقل الرأي و معتقل الإرهاب.  و أهمّ نصّ صدر بهذا الخصوص هو بيان الداخلية في أكتوبر الماضي، الذي وضع اسم “محمد البجادي” بين أسماء محكومي القاعدة: هيلة القصيّر و نمر البقمي. و بين أسماء كهذه، يمكن الإيحاء أن الأعمال الغامضة و “المخلة بالأمن” التي ارتكبها البجادي تتضمن أسلحة و متفجّرات و قتلى، و لن يُخمّن قارئ البيان أن البجادي مسجون لمشاركته في جمعية حقوقية، و مُدانٌ بحيازة كُتب تُباع نسخٌ منها في معرض الرياض للكتاب كل عام. المقولة الثالثة: أن مطلب “إطلاق السراح الفوري لمعتقلي الرأي” يشمل بالضرورة معتنق آيديولوجيا القاعدة، جنباً إلى جنب معتقل الرأي السياسي، رغم أنهما قضيتان موجودتان في مستويين مختلفين. فاعتناق فكرة القتل دون ممارسة حالة تحتاج معالجة خاصة، و بناء جسم قانوني كامل يضع تعريفاً محدداً للإرهاب و الإرهابي، و يميّز بين الفكرة و النيّة و الشروع (و هو ما لا يحدث في السعودية بالطبع)؛ أما معتقلي الرأي السياسي (و الديني مثل حمزة كاشغري)، فنعم: يستحقون إطلاق سراحهم فوراً، و القضية ليست محلّ جدال قانوني.

عالمياً، هناك جدلٌ نظري فلسفي ثريّ حول ما يجعل الحقوق “حقوقاً” و مصادرها الدينية و الاجتماعية، لكن ما يجري في السعودية من جدل حول معتقلي الرأي، ليس جزءاً منه. إنه مجرّد انعكاس لغوي لصراعٍ بين جبهتين غير متكافئتين. على الجانب الأول توجد الدولة ذات القوة الكاسحة، التي لا يلجمها شيء، القادرة على سجن شخصٍ ما، لأنها قادرة على سجنه، و دون حاجة لسبب مقبولٍ عقلياً. و على الجانب الآخر، يوجد إنسانٌ أعزل في مواجهة هذا الكيان الهائل. و المرء يحدد موقفه من القضيّة و يختار الانحياز لأحدهما، إلى جوار اللوياثان، أو إلى جوار الإنسان الأعزل. ثمة أشخاص يعبدون القوة الصارخة حتى تسحقهم، لكن هناك آخرين سيظلون مأخوذين بالحريّة حتى الحصول عليها، و هؤلاء، هم من سُجنوا من أجل الرأي، و هُم من سيكتب من أجل حرية مَن سُجن من أجل الرأي. لم تكن الأمور يوماً أكثر نصاعة و وضوحاً.

و من أجل هذا كانت حملة التدوين و #مدونة_اعتقال.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق