الأطراف والمصالح التي تعيق التغيير الحميد في الخليج

الكاتب:

29 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

يبدو لي ان هناك اعداد متنامية من المطالبين بالتغيير الذين بدأوا يشكلون كتلة حرجة ترى ان بقاء الامور على حالها في الخليج امر غير مستدام، وانه  اصبح الآن امرا واجبا المطالبة بالتغيير علنا حتى لا تنزلق المنطقة في درب غير حميد قد يأكل الأخضر واليابس.

اختلفت الآراء حول حجم هذا التغيير وماهيته ووتيرته بناء على الافكار والانتمائات والمصالح المترتبة. لا زال المطلب الأكثر ترددا بين التيارات السياسية الرئيسية في الخليج هو الاصلاح، وان وصلت في بعض دوله الى المطالبة بما هو اكثر من ذلك.

في رأيي ان ما يسمى عادة ب”الاصلاح التدريجي” لم يعد يجدي نفعا، وهو يماطل في التغيير الجذري الذي اصبح جليا الحاجة اليه. هذه النقطة تحتاج الى شرح اكثر تفصيلا. انا لست ضد تطبيق التغييرات او الاصلاح بشكل تدريجي، فغالبا ما كانت هذه الطريقة الاسلم لتطبيق الامور وتجنب الصدامات والتقلبات المترتبة من التغيرات الهائلة، وهو الدرب الذي تتبعه أغلب الدول التي لديها رؤية بعيدة عندما تطبق خططها. ما اقصده هو انه لم يعد ينفع التشدق بمقولات مبهمة ك”الاصلاح على وتيرتنا المحلية وفق خصوصيات المنطقة”، ومن ثم القيام ببعض الخطوات الخجولة دون وضع رؤية واضحة لمسار هذا التغيير، بما فيه الخارطة والزمن للوصول اليه.  فلم يعد يفيد القيام ببضع الخطوات المبهمة كمجالس بلدية لا تغني ولا تسمن من جوع او مجلس تشريعي عقيم والقول بأن هذه خطوات اصلاح تدريجية بدون توضيح الى اين ومتى نحن ذاهبون. المطلوب هو اصلاح وتغيير جذري، يتطرق الى اهم اوجه الخلل المزمنة وكيفية معالجتها والمدة التي ستنفذ فيها هذه الخطوات. بدون ذلك فسينظر الي اية خطوات اخرى كحركات مراوغة وحيل سياسية لكسب الوقت والهدن السياسية.

السؤال الذي يخالجني بشكل مسهب على مدى الأشهر الماضية هو ما مدى احتمال حصول التغيير الجذري الحميد، والى اي مدى يمكن ان يصل في نطاقه؟ بشكل اكثر دقة، ما هي المعوقات الرئيسية التي تقف في وجه هذا التغيير، الذي بإمكانه ان يخرج المنطقة من دوامة اوجه الخلل المزمنة التي هي فيها؟

من البديهي ان اكبر معوق هم متخذي القرار، والذين سيقفون في وجه اي تغيير فعلي حقيقي، فهم الخاسر الأكبر في هذه الحالة. اظن هذا الأمر بات جليا للجميع، وبينت التطورات على مدى السنتين الماضيتين في دول مجلس التعاون ان امكانية التغيير الجذري بمحض ارادة متخذي القرار هي ضئيلة جدا ونادرا ما تأتي الا بعد مواجهات وتضحيات جمة. وحاليا لا توجد اي مؤشرات ان متخذي القرار لديهم اية نية حقيقية لتغيير او اصلاح جذري في اي من دول المنطقة.

العنصر الآخر الذي قد يكون بنفس الاهمية ولكن نادرا ما يتم التطرق اليه هو صعوبة تقبل وتفعيل تغيير جذري حقيقي على مستوى باقي فئات المجتمع. اكبر عائق من هذه الناحية قد يكون شبكة المؤسسات والمصالح والقيم التي اسستها الدولة الريعية على مدى العقود القليلة الماضية، والتي ستقف ضد اي تغيير جذري في تركيبة الاقتصاد والمصالح التي بنيت حوله.

مثالان صغيران يفيان لإيصال النقطة. حاولت هيئة تنظيم سوق العمل في البحرين القيام باصلاحات خجولة  لمواجهة اوجه الخلل المزمنة المستفحلة في سوق العمل. جزء من هذه الإصلاحات شملت فرض رسوم يدفعها صاحب الشركة على كل عامل وافد يعمل لديه، في محاولة لمقاربة التكلفة بين العامل الوافد والمواطن ولتغطية تكاليف دعم العامل الوافد التي تتكبدها الحكومة (من دعم لخدمات صحية وكهرباء ومياه وبنزين). كانت هذه الرسوم تذهب الى صندوق اسس لدعم تدريب العمالة البحرينية. المبالغ المفروضة كانت متدنية نسبيا (25 دولارا شهريا لكل عامل وافد)، وكانت اقل بكثير مما كان مقترحا في بداية المشروع، ويعود ذلك في الاساس لمعارضة شرسة من القطاع التجاري الذي كان سيتكبد هذه الرسوم . خرجت مظاهرات منظمة من قبل ارباب العمل منددة بهذه الرسوم وتبعاتها لأنها “تعطل اعمالهم ومصالحهم”. وصل الأمر الى الغاء هذه الرسوم في خضم احداث السنة الماضية بعد ضغط شديد من التجار، وبهذا انتهت هذه التجربة في “اصلاح” سوق العمل في البحرين بالفشل المرير. تكمن المفارقة في خروج مظاهرات في الماضي القريب جدا كانت تندد باستقطاب العامل الاجنبي خوفا من مزاحمته للعامل المواطن في سوق العمل (كما حصل في  عام 1972)، بينما اليوم تخرج المظاهرات تنديدا بالرسوم الزهيدة التي تفرض على استقطاب الايدي العمالة الوافدة.

النقطة الأهم هي ان هذا التجذر في المصالح المنتفعة من الريع تجعل امكانية التغيير الجذري على المستوى الاقتصادي صعبة، فلا متخذي القرار او “الهوامير” (fat cats) او حتى صغار المنتفعين لهم مصلحة من تغيير هذه الشبكة الريعية، مما يخلق تعقيدا في كيفية مواجهتها.

مثال آخر لتبيان هذا الأمر هي تجربة نعيشها شخصيا مع باقي الأهالي في “الفريج” او الحارة في مدينة المحرق. أعلن المجلس البلدي لمدينة المحرق عن منع بناء اية عمارات جديدة في حارات المدينة التاريخية، لأن المسألة وصلت الى حد أشبه بالمسخرة، حيث كانت تتساقط البيوت التراثية القديمة وتعلو في مكانها عمارات “شقق ودكاكين” من اقبح ما شيد الانسان معماريا. أغلب سكان هذه الشقق هم من الوافدين من ذوي الاقامة المؤقتة اللذين لا حول لهم ولا قوة، والذين اضطرتهم متطلبات المعيشة الصعبة الى التكدس مع بعضهم البعض في هذه الشقق نظرا لرخصها ولأنهم بشكل متزايد الوحيدين الذين يقبلون العيش في هذه المناطق ذات البنية التحتية المترهلة والازدحام الذي لا يطاق. مبادرة المجلس البلدي لحل مسألة عمارات “الشقق والدكاكين” كانت تتطرق في جوهرها الى مشكلة حقيقية  من المهم ان يوجد لها حلا عادلا. في غضون بضعة ايام، صدر خبرا آخرا بأن قرار المجلس البلدي قد تم ايقافه.

المبررات التي تم سردها من قبل المنتفعين لرفع المنع تشدقت بأن العمارات” تسمح بايواء عدد اكبر من الاسر البحرينية مقارنة بالبيوت، والسماح ببناء العمارات سيوفر حلا لمشاكل السكن لدى الاسر البحرينية”. بعيدا عن هذه الخزعبلات التي يعرف مدى مصداقيتها الجميع، حيث ان البحرينيين نادرا ما يسكنوا في العمارات المبنية في وسط المدينة القديمة نظرا لصعوبة المعيشة فيها، فالمعروف انه كان هناك ضغطا هائلا لرفع القرار البلدي من قبل المنتفعين. فهدم بيوت الاجداد وبناء عمارات “شقق ودكاكين” اصبح مردودا ماديا مهما لكثير من الاطراف المنتفعة.

النقطة من هذين المثالين هو ان افرازات الدولة الريعية خلفت شبكة مصالح تستفيد من تواصل الاقتصاد الريعي في حلته الحالية، وستحارب التغيير الجذري لأنه يضر بهذه المصالح وتحد من الارباح التي يجنوها. هذه الشبكة تتعدى فيما بينها متخذي القرار والمتنفذين الكبار، بل ان الشبكة المستفيدة من الريع قد تجذرت حتى الى صغار المنتفعين. ورغم هزالة ما يجنونه مقارنة بال”هوامير” fat cats، فالحقيقة ان جزء كبير من دخلهم يأتي اساسا من ريع ايضا (اما عن طريق عقار او ايدي عاملة وافدة مكفولة او تسجيل تجاري مؤجر)، والمطالبة بتغيير هذه الشبكة من المصالح اصبح صعبا.

وحقيقة فمن الصعب الطلب من هذه الاطراف الاستغناء عن ما هو فتات الريع، بينما يواصل الهوامير في شفط أغلب موارد المنطقة.

النقطة المهمة الأخرى هو ان محاولات الاصلاح الخجولة والمتجزئة، حيث تحاول الدولة تارة تطبيق اصلاحا جزئيا في سوق العمل، وتارة اخرى وضع مجالس تشريعية ذات صلاحيات تثير الشفقة، ومن ثم التشدق بأن هذه الخلطة بقدرة قادر ستحل الأمور في دولة تجذرت فيها مشاكل الدولة الريعية، هو امر مستبعد من اساسه. المطلوب هو تغيير جذري، ولا مانع وإن طبق بالتدريج، ولكن في البداية يجب ان تكون هناك خطة متكاملة تبين الهدف والخارطة للوصول اليه والمدة الزمنية لاستكمال كل محطة في الطريق. واول هذا الاصلاح يجب ان يأتي في اعلى الهرم قبل قاعدته، والا فإن محاولة تغيير الفتات من دون التطرق الى الخلل الكبير لن تكون مجدية.

في رأيي ان اكبر تحدي سيواجه جيلنا هو الادراك ان هذه الشبكة من المصالح التي بنيت حول الدولة الريعية من المستحيل استدامتها على المدى البعيد، وان التصدي لها بشكل صحيح سيتطلب تغييرا جذريا سيمس كل المصالح التي بنيت حول هذه الشبكة، والا سيكون من الصعب جدا تجنب ما يواجه المنطقة من مصير مدن الملح على المدى الطويل.

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق