اقتلاع الجذور

الكاتب:

18 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

استهوتني قصة المشاريع العقارية الضخمة والمدن الجديدة التي سيطرت على النشاط الاقتصادي في دول الخليج العربية لأنها تجسد في طياتها كل أوجه الخلل المزمنة التي تواجه المنطقة. فيتجسد الخلل السياسي والاستئثار بالسلطة في الفساد الذي استشرى في صفقات الأراضي وعمليات ردم البحر (الدفان) الذي تطلبته هذه المشاريع، بالإضافة إلى انعدام دور غالبية المواطنين في التخطيط والموافقة على هذه المشاريع. أما الخلل الاقتصادي المتجذر في المنطقة فيبرز في الكميات الهائلة من الأموال التي أتت أساسا من الريع النفطي لتنصب في هذه المشاريع (حوالي 1.2 تريليون دولار) ، التي بدورها أيضا نوع آخر من الريع (العقاري). هذا بالإضافة إلى التركيبة المتشعبة من الشركات الاستثمارية والمطورين العقاريين والبنوك التي تشكلت حول هذه المشاريع. في المقابل، فيتجلى الخلل السكاني المزمن في هذه المدن الجديدة الموجهة في الأساس لشعب جديد لأن يسكن فيها، حيث تغيّرت رؤية ومعاملة متخذي القرار إلى ظاهرة تدفق الوافدين من النّظر إليها بوصفها ظاهرة عرضيّة لا بد منها، هدفها سد متطلبات الإنتاج، إلى تبني استقطاب الوافدين هدفا أساسيا ينبغي تبنيه لزيادة الطلب الاقتصادي عليه في دول المجلس.

تبين هذه المدن الجديدة بشكل جلي أن أوجه الخل المزمنة في المحاور السياسية والاقتصادية والسكانية مترابطة وتغذي بعضها البعض في جدلية مستمرة ، حيث لا يمكن فصل هذه المحاور عن بعضها البعض والنظر اليها منفردة. وهذا التشعب المتعمق بين العوامل السياسية والاقتصادية والسكانية الحادة ينذر بخلطة متفجرة من الصعب التنبؤ بتبعاتها، بل أنه من شبه المستحيل على صناع القرار ان يتحكموا في مسارها في خطط مرسومة مسبقا.

طبيعة هذه المشاريع العقارية تشير إلى مسارين:  إما أن تنجح هذه المشاريع العقارية، وبذلك تتحول إلى مدن جديدة ضخمة يقطنها الملايين من السكان الجدد.  في المقابل، قد تفشل المشاريع العقارية فشلا ذريعا، وتتحول إلى مبان خاوية ينبذها الناس، وتكون في نهاية الأمر مشاريع فيل بيضاء white elephants  وعملية نصب كبرى مصيرها أن تكون مدن أشباح.

كلا الخيارين ما زالا مطروحين، ومن الممكن أن يحدث الاثنان على مر الزمن.  فكثير من هذه المشاريع قد أوقفت في خضم الأزمة المالية العالمية. في المقابل، فإن كثيرًا من هذه المدن الجديدة قد تم بُنيت فعليا وأصبحت مأهولة، كمنطقة المارينا في دبي و أمواج في البحرين. والقول بأن رؤوس الأموال والمتنفذين بها ستقف مكتوفة الأيدي وسترضى بأن تبقى هذه المشاريع شاغرة يعبر عن فهم ضيق لمنطق رؤوس الأموال وتحركاتها. وكما رأينا، فقد سمحت البحرين لملاك العقار الدولي بالتصويت في الانتخابات البلدية لعام 2010، كما مددت الإمارات مدة الإقامة المرتبطة بشراء العقار من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات في عام 2011. كما تدل تصريحات المسؤولين عن هذه المشاريع إلى أنهم يتطلعون إلى إعادة المشاريع التي أوقفت متى ما سنحت الفرصة، هذا بالإضافة إلى نية لبناء مشاريع عقارية ضخمة جديدة.

النقطة الرئيسة هنا هو أنه من المستحيل أن يتواصل الخلل السكاني في التراكم  دون أن تكون له تبعات جذرية مصيرية على المنطقة في المستقبل غير البعيد.  بعض هذه التبعات نُقِشت بإسهاب، بما فيها  ازدياد أعداد الوافدين في سوق العمل، وتهميش دور المواطنين إنتاجيا وعدديا، بالإضافة إلى تشوه الهُوية العربية في المنطقة وازدياد حدة التعصب xenophobia بين صفوف بعض المواطنين . في المقابل  ستتواصل حالات الاضطهاد التي يتعرض إليها كثير من العمالة الوافدة وتدني حقوقهم على المستوى الاقتصادي والسياسي، التي بإمكاننا تلخيص هذه الإفرازات في حالة شديدة من “الاغتراب” التي يعيشها المواطنون والوافدون معا.

أما عن ظاهرة المشاريع العقارية فلها معطيات تختلف كما ونوعا عن ظاهرة توافد العمالة الأجنبية. ولعل الخاصية الأهم هي بروز ظاهرة “المجتمع المغلق” أو ما يمكن تسميته “بالمدينة داخل المدينة”. حيث يُخلَق مجتمع من “الكانتونات” المنفصلة، تعيش كل مجموعة منه في منأى تام عن باقي الأطراف، لا يربطها ببعضها أي انتماء قومي أو ثقافي أو سياسي، ولا يكون هدفها الجامع سوى النمو الاقتصادي وتحريك رؤوس الأموال تحت إطار اللغة الانجليزية الحاضنة. هنا تصبح المدينة مفهوما بالإمكان بنائه وتجديده وإعادة تركيبه بشكل سريع بناء على أهواء متخذي القرار والخبراء المنفذين للمشروع. والحالة الأساسية التي تميزها هي التغير المستمر في ملامح وعمران وحتى سكان المدينة، فلا البيوت ولا النخل ولا حتى البحر في مأمن من الهدم والاقتلاع والدفن.  كل هذا قد يحصل في سنين بل أشهر معدودة، فلو قدر لأحد أن يشد الرحال إلى الخارج طلبا للعلم، لما عاد بإمكانه التعرف على المدينة أو سكانه عند عودته من الدراسة.

فالمدينة في الخليج لم تعد تعكس وتعبر عن رغبات  حياة أهلها وساكنيها ونمطها، فهم عامة مهمشون ودون أي دور فعال في تحديد ملامحها العمرانية والاجتماعية. فها هم يشاهدون العمارات تعلو من حولهم وليس في يدهم إلا أن يراقبوا ويتأقلموا، فقد لا يكونوا هم حتى من ساكني منطقتهم الحالية في المستقبل القريب. وهكذا تم هز واقتلاع الجذور التي كانت تربط السكان بمدنهم ، وفي المقابل أمست المدينة  مفهوما متقلبا قد يتبدل هو  وساكنيه في غضون أيام معدودة. وهكذا أصبح ما يحدد شكل وحتى جغرافية المدينة ليس سكانها، الذين يتغيرون بنفس سرعة تغير المدينة، بل المردود المادي وتطلعات متخذي القرار.

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق