المدينة و”الدفان” في الخليج العربي

الكاتب:

11 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

كتب الروائي الراحل السعودي عبدالرحمن منيف رائعته “مدن الملح” في ثمانينيات القرن الماضي، والتي تم منعها في بعض دول الخليج. ولو كان الأمر في تحكمي، لجعلت “مدن الملح” المادة الرئيسة في مناهج التاريخ الدراسية في دول المنطقة، لأنها ببساطة أفضل ما حاكى واقع الخليج وشبه الجزيرة العربية في عصر النفط، العصر الأبرز في تاريخها منذ بزوغ الاسلام.

ليس بطل مدن الملح شخص أو اثنين، بل هو المكان، المدينة، المساحة، وتغيرها ومن يأهلها على امتداد عصر النفط. تبدأ القصة بوادي العيون، تلك القرية الواحة التي تجسد الحياة في عصر ما قبل النفط، وكيف تغيرت وسكانها مع اكتشاف الذهب الأسود. ثم تنتقل الرواية إلى حران، مدينة جديدة كليا بنيت على ضفاف الخليج العربي لتحتضن الصناعة النفطية. بعدها يأخذنا منيف إلى موران، عاصمة الدولة، لنتبع دهاليز الحكم والسياسة والطبقة المستفيدة التي تشكلت حولهما.

رغم الأسماء الخيالية لهذه المدن، فليس بخفي على أحد أن منيف بناها على مدن في السعودية، بل أنها قد تنطبق على التاريخ المعاصر لأغلب المدن في الخليج. الرواية في الأصل هي قصة ساكني هذه المدن، وكيف تأقلموا وتغيروا مع التحولات الجذرية التي هزت المجتمع مع قدوم الصناعة النفطية وتدفق الإيرادات منها.

على مدى السنتين الماضيتين، استهوتني قضية المدينة والمساحة في الخليج العربي، فهي أكثر ما يتفاعل معه الشخص بشكل مباشر في حياته اليومية. فهي المكان الذي يعيش فيه، ويعمل، ويأكل، وينام، ويحب، ويموت به. مما لا شك فيه أن مدن دول الخليج العربي تحولت تحولا هائلا على مدى العقود التي يصورها عبدالرحمن منيف في مدن الملح. وهذه التحولات تبعتها تغيرات جذرية أخرى على مدى العقد الأول من الألفية الثالثة، هذا العقد الأخير الذي احتوى على الطفرة النفطية من 2001 إلى 2008، ومن ثم الأزمة المالية العالمية.

هذه التحولات على مدى العقد الأخير هي ما استهوتني في كتابي “اقتلاع الجذور”، وهي محاولة لرصد وفهم التقلبات على مستوى المدينة في دول الخليج في هذه الفترة. التحولات كانت واسعة النطاق، شاملة في نطاقها الطبيعة والبشر والمادة. ما شدني بداية لموضوع المدينة في الخليج العربي هو ما كان يحصل في بلدي الأم البحرين، ولم يكن لما يحصل في البحرين يختلف كثيرا عن باقي دول الخليج. على مدى هذه السنوات العشر، برزت في البحرين ظاهرة غريبة تمثلت في ردم البحر، أو ما يسمى محليا “بالدفان”، حيث يدفن البحر بالرمال إلى مثواه الأخير بلا عودة لتشكيل أراضي عذراء للاستثمار الاقتصادي في مكانه. رغم أن ظاهرة ردم البحر ليست جديدة، إلا أنها أخذت في البحرين شكلا كان من الصعب فهمه. على مدى هذه السنوات العشر، حيث تم ردم أكثر من 60 كم من بحر الدولة، أي ما يوازي حوالي 10% من مساحة يابسة البحرين الاصلية. هذا الحجم الهائل من الردم حصل في جزيرة اعتمدت على البحر كموردها الرئيس لمئات بل آلاف السنين (فالبحر للبحرين كان بمثابة النيل لمصر)، وفي غضون سنوات معدودة تم قتل جزء ليس بيسير منه. صودرت الأراضي الناتجة من هذا الردم لقلة متنفذة منتفعة، ومن بعدها تم تسويق هذه الأراضي لبناء مشاريع خاصة، مثلت في كثير من الاحيان مدن جديدة كليا تعد قاطنيها المقتدرين بالفخامة والراحة الخالدة. ويا للسخرية، حيث تم التسويق والتهليل لهذا الردم والمشاريع التي بنيت عليه وكأنها عمل رائع وحكيم بل هو أساس التنمية الحميدة للدولة.

معالم المدينة تغيرت في البحرين بلا عودة، فمن مدن وقرى كان البحر أساسها، أصبح الشاطئ مكونا غير مألوفا وغريبا على أغلب سكان الجزيرة. أضحى البحر بعيدا، ومنعت الأغلبية من الوصول إليه، سوى الطبقة الميسورة التي تستطيع أن تدفع للدخول أو سكن هذه المدن الخاصة والمجتمعات المغلقة التي برزت في مكان البحر.

ومع زوال البحر، اختفت معه حِرف وأعمال عرفت بها البحرين لقرون، حتى سميت عوائلها بالنهام والطواش والقلاف والغواص والسماك تيمنا بهذه المهن. وتحولت مع ردم البحر طريقة حياة وتفاعل المجتمع، وطرأ تحول عميق طال اليم والمدينة والإنسان، وهذا الأخير سيكون محور حديثنا في المقال القادم.

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق