الاستئثار بالسلطة –الفساد أنموذجا

الكاتب:

10 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

من المظاهر الأكثر دلالة على  الاستئثار بالسلطة في أية مجتمع هو تفشي “الفساد الكبير”، ونعني هنا بالفساد الكبير ذلك الفساد المتمركز في القسم الأعلى من هرم السلطة. العوائد النفطية الهائلة في دول مجلس التعاون خلقت تناقضا غريبا على مدى العقود الماضية. فالطفرات في أسعار النفط  بلورت في دولنا فسادا  كبيرا تخطى في كمه ونسبته اية مقارنة مع باقي دول العالم، فتمكن المتنفذين من تجميع ثروات هائلة تعذر احصاؤها نظرا لانعدام الرقابة ولهول حجمها، والتي من شبه المؤكد أنها تعدت مئات البلايين من الدولارات.

لكن العوائد الهائلة من النفط سمحت لدول المجلس في الوقت ذاته بتقديم خدمات متقدمة نسبيا على المستوى العالمي لمواطنيها، بما في ذلك من ناحية السكن والبنية التحتية والصحة والتعليم. اسَس هذا التناقض عقدا غير مكتوب في الدولة الريعية: على الدولة توفير الخدمات المتقدمة والرفاهية لمواطنيها، في المقابل يحصل متخذي القرار على الولاء من المواطنين وعدم تعرضهم للمسائلة أو المعارضة. هذا التضاد ، بين الفساد الكبير المستفحل من جهة والمقدرة على تقديم دولة ريعية متقدمة من جهة أخرى، جعل الفساد الكبير ظاهرة معروفة في المجتمع ولكن مسكوتا عنها طالما تواصل عقد الدولة الريعية.

في اطروحة الدكتوراه التي أعدها قبل أكثر من أربعة عقود، بين د. علي الكواري أن نسبة إيرادات دول الخليج التي كانت تستقطع للعوائل الحاكمة  منذ النصف الأول من القرن العشرين تقدر بحوالي الثلث.  في دراسة أخرى أعدها وتركزت في الأساس على إيرادات دول الخليج من النفط في 2008، أي في عز الطفرة النفطية الأخيرة، نجد أن ما لا يقل عن الثلث من إيرادات الدولة  من النفط غير مدرجة في الأرقام الرسمية. تضاعفت عوائد النفط في غضون نصف القرن الماضي مئات المرات، وبذلك تضاعفت كمية الإيرادات المختفية مئات المرات أيضا.  فأغلب الدول – بالرغم من أن عوائدها تقدر بمئات البلايين – ما زالت  تعتبر  ميزانياتها واحتياطها من النفط امورا سرية لا تصلح للنشر!

الفساد الكبير أخذ أشكالا متعددة على مر العقود الماضية، فبعضه تلبس طابع استقطاب الآلاف من عمال الـ”فري فيزا” الذين لا حول لهم ولا قوة، وبعضه تمثل في مصادرة نسبة معينة من أرباح أية مشاريع تجارية كبيرة في الدولة. ولكن قد يكون نوع الفساد الكبير الأكثر تأثيرا وغليانا في نفوس المواطنين هو ذلك الذي يرونه أمام ناظريهم، وبالتحديد الفساد المتعلق بالأراضي. فها هي الأرض التي كان الناس يتجولون فيها ويستخدمونها مشاعا، هي الآن تسور، ويبنى حولها حائطا. بل أن الأمر وصل إلى دفن البحر، ذلك المورد الأساس الذي اعتمدت عليه أغلب شعوب الخليج لعملها وحياتها، ومن بعدها يُسوّر البحر المدفون ويحوّل إلى أملاك خاصة. ونحن هنا نتكلم عن مئات الكيلومترات المربعة والتي تقدر بمئات البلايين من الدولارات التي تم الاستيلاء عليها. مهما تم سن قوانين وصفقات وأعذار لتبرير مصادرة هذه الأراضي، فإن حقيقة هذه الظاهرة معروفة، فما هو حق لا يمكن طمسه بقوانين جائرة. في جدة، على جدران أحد الأراضي البحرية المصادرة والمسورة، كتب أحد الشباب نقشا يقول: “هذا بحر ربّنا”.

تفشي الفساد الكبير في دول الخليج ظاهرة معروفة، ولكن ما بودي أن أركز عليه هنا هو أنه من غير الممكن أن يواصل الفساد على نفس الوتيرة لأبد الآبدين، وأن هذا الفساد الكبير إن لم يتغير سيكون محل تصادم بين المتنفذين والمواطنين. أرقام الدكتور علي الكواري تبين ان الفساد تزايد بشكل هائل على مدى العقود الماضية، ومع تزايد الفساد تتزايد تطلعات المتنفذين والمستفيدين منه. فالمتنفذ الذي كان سيقبل ببيت عريش قبل أكثر من نصف قرن في وسط المدينة القديمة، أصبح الآن يتطلع إلى عدة قصور ضخمة، متناثرة بين المدن الاوروبية والأمريكية. وقد يتطلع أيضا إلى اقتناء مضمار خيول أو مطار أو حلبة سيارات للـ”بريستيج”، فميزانية الدولة ككل قبل أكثر من نصف قرن لا تساوي متطلبات متنفذ واحد لمدة شهر في عصرنا الحالي. وعدد المتنفذين ما انفك يزداد…

متطلبات الشعوب أيضا لن تتقلص، فأعدادها في نمو أيضًا، ومن الصعب عليها أن تتقبل تخفيضا في الخدمات والمميزات التي تعودت عليها على مدى العقود الماضية، خاصة عندما تتواصل أمام أعينهم حياة الفخامة والبذخ بين أوساط المتنفذين، فكيف يطلب منهم أن يقتصدوا فيما هو فتات اصلا؟

كل هذا يخلق فجوة بين تطلعات المتنفذين، وتطلعات الشعوب، والموارد المتوفرة. قد تسمح العوائد النفطية الضخمة بتفشي الفساد الكبير ومواصلة عقد الدولة الريعية لفترة معينة. فكما يشير د. علي فخرو في مقالة حديثة، فمن المتوقع ان يتدفق ما يقارب 9 تريليون (اي 9 ألف بليون) دولار من عوائد النفط على دول الخليج على مدى الاثنتي عشرة سنة القادمة. الإشكالية تقع في أن تطلعات المتنفذين والشعوب في مقابل الكعكة المتوفرة لإشباعها تسير في اتجاهات معاكسة. فالمتنفذين تعودوا على مرتبة اجتماعية معينة، تتطلب كمية معينة (هائلة جدا) من المصروفات والموارد، ومن الصعب جدا عليهم أن يستغنوا عن نمط الحياة والمرتبة الاجتماعية التي تعودوا عليها. الشعب أيضا تعود على خدمات ومميزات اجتماعية معينة، ولن يتقبل تقلصها.

في المقابل، فالنفط ثروة ناضبة، ومن غير الممكن استمرار صرفه على تطلعات الحكام والشعوب إلى أبد الآبدين. وبما أن اقتصاديات الخليج ما زالت فعليا غير منتجة على المستوى العالمي في أية قطاعات أخرى غير النفط، ولا يبدو أن هذا الأمر سيتغير في المستقبل القريب، فالسيناريو المتوقع إن لم يطرأ تغيرا جذريا في اقتصاديات ومجتمعات المنطقة سيكون الوصول إلى مرحلة تصادم تطلعات الشعوب مع تطلعات الحكام عند بلوغ المرحلة الحرجة في الايرادات النفطية. وقد لا تكون هذه المرحلة بعيدة جدا، فسعر النفط المطلوب لتغطية مصروفات الميزانيات في كثير من دول الخليج قد شارف أو تعدى مئة دولار للبرميل، وهذا الرقم في تصاعد مستمر.

وعند الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة، فإن تواصل الفساد الكبير المتفشي في دول مجلس التعاون سيصبح نقطة تصادم بين من ينتفع منه ومن لا يحصل سوى على الفتات منه.

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق