التغيير قادم إلى دول الخليج… عاجلا أم آجلا

الكاتب:

9 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

يظن الكثيرون بأن انظمة دول الخليج العربية في منأى عن التغييرات التي طالت وما زالت تطال الدول العربية الاخرى. يرتكز هذا الظن في الأساس على العائدات النفطية الهائلة المتوفرة  لديها، والدعم الأمني والسياسي الغربي لها، وتحكمها المطلق على كافة الأجهزة العسكرية والأمنية المحلية. هذا بالإضافة إلى عدد مواطنيها القليل نسبيا والركود النسبي في مستوى النشاط السياسي في بعض أقطاره (باستثناء البحرين والكويت وعمان).  وإن دلت الاحتجاجات التي وصلت إلى ضفاف دول الخليج على شيء، فهي تبين مقدرة الأنظمة على السيطرة على زمام الأمور والقدرة التكيفية الهائلة لديها عند مواجهة أية تحركات محلية مهما بلغ حجمها.

صحيح أن لدى دول الخليج خصوصيات قد تجعلها حالات فريدة على المستوى العالمي، لكن يخطئ من يظن أنها في معزل عن التغيير. بل هذه الخصوصيات إن لم يتم التطرق لها جذريا وسريعا قد تجعل التغيير يأخذ منحنى حادا ومتفجرا من الصعب التنبؤ به أو معرفة مداه أو تبعاته، لكن التطورات على أرض الواقع  تنذر بأن التغيير قادم لا محالة.

تم تناول خصوصيات حالة دول مجلس التعاون بإسهاب من قبل أطراف عدة مسبقا، وهي ليست بالطرح الجديد على الساحة. هذا رغم أن الدخل والبذخ الذي تراكم في الطفرة النفطية الأخيرة قد خلق عند البعض وهما زائفا بأن هذه الخصوصيات قد تم تخطيها أو أنها لم تعد مهمة. لقد لخص د. على الكواري بشكل أنيق ومسهب هذه الخصوصيات عندما سماها  بـ “أوجه الخلل المزمنة الأربعة” التي تواجه دول المنطقة. أولها هو الخلل السياسي، والذي يكمن في الاستئثار شبه المطلق من قبل النخبة الحاكمة بالقرار السياسي والحكم. ثانيها هو الخلل الاقتصادي، حيت تتواصل الاعتمادية شبه المطلقة على العائدات من النفط كمرتكز اقتصاديات المنطقة. ثالث أوجه الخلل المزمنة هو الخلل السكاني، المتمثل في الاعتماد المكثف على الوافدين للإنتاج ولتحريك اقتصاد المنطقة، حتى وصل الحال بأن شكل الوافدين غالبية السكان في أربعة من دول المجلس الستة. أخيرا هناك الخلل الأمني المستفحل، وهو الاتكالية الحادة على القوى الغربية لتزويد الحماية والدعم السياسي والأمني والعسكري لدول المنطقة.

تترابط أوجه الخلل المزمنة الأربعة  وتغذي بعضها البعض في تفاعل وجدلية مستمرة، فالعوائد الهائلة من النفط هي السبب الرئيس لاهتمام الغرب بالمنطقة. النفط أيضا هو المورد الرئيس الذي منح متخذي القرار الاستقلالية المادية محليا، والتي خلصتها من الاعتماد على شعوبها اقتصاديا، وسمحت بترسيخ دولة ريعية يتكون غالبية سوق العمل فيها من الوافدين. كل هذه العوامل مجتمعة  أدت إلى تكون ما سماه الباحث الإماراتي محمد عبيد غباش بـ “سلطة أكثر من مطلقة، مجتمع أقل من عاجز”.

يشكل “كوكتيل” أوجه الخلل المزمنة هذه خلطة فريدة عالميا في حدتها وترابطها. هذه “الخصوصية” أدت بالكثيرين إلى تحليلها كنقاط قوة للأنظمة السياسية، ساعدت في ترسيخ دعائم حكمها واستمراريتها وقدرتها البقائية. فالاستئثار شبه المطلق بالسلطة والدعم الغربي والموارد المادية الجبارة وضعف المواطنين (والوافدين) من الناحية السياسية والاقتصادية والأمنية يجعل إمكانية التغيير شبه معدومة.

ما بودي طرحه في هذه السلسلة من المقالات هو التالي: ربما كانت أوجه الخلل المزمنة مصدر استقرار في دول وأنظمة الخليج على مدى العقود القليلة الماضية، إلا أنها ستكون مصدر اضطرابات وتغيرات حادة في المستقبل غير البعيد جدا. فتسميتها بأوجه خلل مزمنة لا يأتي من فراغ، فهذه التسمية لا تعني فقط أن الشعوب هي من تحس بتبعات أوجه الخلل المزمنة بينما الأنظمة محصنة منها. بل هي أوجه خلل مزمنة تحديدا لأنها تجذرت في مجتمعات المنطقة، وإن استمرت في التراكم فهي تنذر بتغيرات جذرية وحادة ستشمل بتبعاتها كل مكونات المجتمع. وهدفنا في هذه السلسلة من المقالات هو تسليط الضوء على هذه العوامل الجذرية التي انغرست في مجتمعات دول المجلس التعاون والتبعات المتوقعة منها.

ما بينته التطورات على مدى السنوات القليلة الماضية هو تقلص قدرة الأنظمة  الحاكمة في التحكم والسيطرة على مجريات الأمور  في نطاقها الأوسع، خاصة وأن أعمدة أوجه الخلل المزمنة قد تم إرساؤها بشكل معمق، بحيث أصبح من الصعب جدا التطرق إليها بدون مجهود جبار، وحيث باتت الحلول (الترقيعية) والتدريجية عقيمة. فالاعتمادية  شبه المطلقة على العوائد المتدفقة من النفط ترسخت بشكل جذري في مجتمعات الخليج، وكذلك الاعتمادية على الوافدين لتحريك الاقتصاد، ونفس المنطق ينطبق على بقية أوجه الخلل المزمنة. هذه العوامل لا يمكن مواجهتها إلا ببرنامج إصلاح جذري  لمجتمعات واقتصاديات الخليج، وحاليا لا توجد مؤشرات على حصول ذلك.

من الصعب جدا التنبؤ بكيف ومتى سيكون هذا التغيير وأي شكل سيأخذ ، فحدة أوجه الخلل المزمنة في دول المجلس تجعل “الكوكتيل” قويا ومركبا ومن الصعب التكهن بطريقة تفاعله. ولكن استمرار أوجه الخلل المزمنة على حالها بلا تغيير يبدو أمرا مستبعدا. فالتغيرات  والتضادات على أرض الواقع نادرا ما تسير في خطوط مستقيمة مرسومة، حيث تتفجر بطرق وأشكال مفاجئة غير معدة مسبقا.

احتمال كبير أن التغيير الجذري سيحل بالخليج عند انحسار أهمية النفط عالميا، وبناء على أن عمر النفط  في دول الخليج ما زال يمتد لنصف قرن على الأقل، “فالدرب لسه طويل”. قد يكون الأمر كذلك، ولكن التفاعلات المتراكمة على أرض الواقع تنذر بأن التغيير قد يأتي قبل ذلك بكثير، وغير معلوم أي منحنى سيأخذ لأن الكلام في هذه الامور يعد حاليا من الممنوعات والمحرمات السياسية أيضا. تبعات هذه الامور مصيرية لكل أبناء المنطقة، ولا يمكن تركها على بركة تقدير متخذي القرار فقط. لذلك أصبح من الملح والواجب على ابناء المنطقة مناقشة الواقع والنظر إلى المستقبل بتحليل منهجي صريح من دون أية مجاملات. وهذه السلسلة من المقالات هي محاولة لفتح النقاش في هذا الإطار.

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى.
Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق