القومية ليست عنصرية

الكاتب:

7 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

من أشنع الكذبات وأقبح التهم التي ألصقت بفكرة “القومية” التي ما فتئ يرددها بعض النيوليبراليين وبعض الإسلاميين وبعض الاشتراكيين أنها في جوهرها تنطوي على العنصرية وهي مروج لها بل قد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويحملها مسؤولية وزر العنصرية في القرن التاسع عشر والعشرين وأنها المفجرة للعنصرية, ولاشك أن هذا اتهام باطل وبهتان آثم لأربعة أمور:

الأمر الأول :أن ربط العنصرية بالقومية لا يصح من الناحية التاريخية فالعنصرية أقدم -بوصفها مفهوما- من القومية, فإن كانت القومية نشأت مفهوما في نهايات القرن الثامن عشر فإن البشر كانوا يعانون من العنصرية منذ بداية التاريخ المعروف؛ فأولا كانت هنالك العنصرية القائمة على أن الملك يلتقي دمه ونسبه بدم الآلهة كما كان في الحضارة الفرعونية حيث كان الملك أرفع “عرقا” من بقية مواطني الدولة، وهؤلاء بدورهم أرفع “عرقا” من بقية الأعراق بحكم أنهم ينتمون لـ “قبيلة – دولة” الملك, وثانيا كل الأديان التوحيدية الثلاثة وهي قبل القومية مارست –وما زالت تمارس- نوعا من العنصرية ضد أتباع غير دينهما فالمسيحيون هم أهل محاكم التفتيش والمسلمون حينما عرَّفوا الرق اصطلاحا قالوا هو: “عجز حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر بالله تعالى” فاتباع غير الدين كان مبررا لاستعباد الإنسان بل استعباد ذريته -التي هي مسلمة بالولادة- واليهود في كتبهم يُصوَّرون غير اليهود “الأغيار” باعتبارهم خدما لليهود وعبيدا لهم, وأما من ناحية تاريخية فلفظ عنصرية “Race” كما يقول هارفورد فهو لم ينشأ مع القومية بل كان موجودا منذ القرن الثالث عشر ولم يكن يحمل مدلولات “إثنية” لكن توسع في استعماله في القرن السابع عشر ليشمل العائلة والعشيرة ومن هنا بدأ يحمل مدلولا عنصريا فهو بدأ يأخذ هذا المنحنى في عصر الأنوار إذن, وأما عصر القوميات لم يبزغ إلا في نهايات القرن الثامن عشر . (1)

الأمر الثاني: أن العنصرية “العرقية” لو تأملنا تفجرها الحادث في نهايات القرن التاسع عشر لوجدنا أنها تنتمي إلى “العلم” وهو الذي حرض انتشارها وأطرها بإطاره, فكما يقول هارنفورد الذي أعطى الشرعية للعنصرية هي النظرية “الداروينية وليست “الإيدولوجيا القومية” هي من فعلت ذلك (2), و نظرية “دارويين” في أصل الأنواع والارتقاء التي كانت تقول ضمنا أن هنالك إنسانا أعلى من إنسان وكان العلماء يبحثون عن “العرق الدنيء” الذي يصل بين الإنسان والقرد و “العرق الرفيع” الذي يصل بين الإنسان و “السوبرمان” الذي نادى به نيتشه, وربما كان داروين نفسه بريئا من التصرفات الشنيعة التي حصلت بسبب نظريته لكن أتباعه لم يكونوا بريئين أبدا.

الأمر الثالث: أن القومية ضد العنصرية فكما يقول أندركسون(3) أن القومية تفكر بلغة “المصير” والعنصرية تفكر بلغة “الطبيعة الأبدية” فالزنوج في اللغة العنصرية “سود” سيبقون خارج التاريخ وخارج التطور التاريخي وهذه طبيعتهم الفاسدة غير المتغيرة عبر التاريخ, العنصرية عكس القومية تنفي القومية عن “الآخر” ولا تكتفي بذلك بل تنفيه خارج التاريخ وتختصره في قسماته البيولوجية والملامح الطبيعية وفصيلة الدم ونحوها “مائل العينين – أسود – هندي” في حين الأيدولوجيا “القومية” لا تفعل ذلك حتى وإن كانت مستعمرة من قبل “عرق آخر” ونرى في دستور دولة جمهورية ماكاريو ساكاي قصيرة الأجل ذلك الإصرار على المساواة بين كافة الأعراق حتى وإن كان بعض آباء هؤلاء “غزاة” فهو يقول ((لن يرفع أي تاغالوغي أي شخص فوق البقية بسبب عرقه أو لو بشرته فالأشقر والأسمر والغني والفقير والمتعلم والجاهل متساوون تماما جميعهم, وينبغي أن يكونوا قلبا واحدا, وقد تكون هنالك فروق في التعليم أو الثروة أو المظهر غير أنه ما من فروق قط في الطبيعة الجوهرية والقدرة على العمل من أجل قضية ما )) (4)

الأمر الرابع: كما يقول عزمي بشارة(5) أن أصل الأحلام العنصرية هو في أيديولوجيات الطبقة وليس في أيديولوجيا القومية وقبل كل شيء في مزاعم الألوهية بين الحكام ومزاعم “النسل والدم الأزرقيين” بين الأرستقراطيات وعامة الشعب, لقد بدأت العنصرية من التسويغ الطبيعي أو العلمي للسلالات الحاكمة والعائلات الأرستقراطية وانتقلت إلى تبرير طبيعي وعلمي لتفوق السلالات العرقية والأثنية واللغوية, ومن الملاحظ أن العنصرية لا تتجلى عبر الحدود القومية بداية ً بل ضمن هذه الحدود وفي إطارها, فالعنصرية قبل أن تتجلى في العلاقة بين القوميات الأخرى تتجلى قبل ذلك في تجيير العنصرية للاستبداد الداخلي وتبرير السلالة الحاكمة واضطهاد فئات من المجتمع وتأسيس التفوق الطبيعي الداخلي فالعنصرية لا تبرر الحروب الخارجية بل القمع والسيطرة الداخليين، فاليهودي الألماني والأسود الجنوب أفريقي هم أول من يعاني من العنصرية وليست القوميات خارج الدولة، وليست مصادفة أن تكون القومية الرسمية التي قامت بعد أن تبنتها سلالات أرستقراطية هي القومية العنصرية كالنازيين في ألمانيا الذين بنوا قوميتهم وتفوقهم العرقي على دعائم نظرية الأرستقراطي الكونت دي غوبينو, ولكن تلك القوميات التي قامت بعد أن تبنتها الطبقة البرجوازية والانتجلنسيا لم تكن عنصرية بل كانت تدعو إلى إشراك الطبقات السفلى من المجتمع كالقومية الفرنسية التي نشأت بعد ثورة 1789 قبل أن ينقلب نابليون على الدولة الجمهورية.

الخلاصة: أن ربط العنصرية بالقومية خطأ فاضح فالأيديولوجيا “القومية” لا تدعو للعنصرية بل الأيديولوجيا “الطبقية” هي من تفعل ذلك, ثم إن تحميل أيدولوجيا القومية وزر العنصرية التي كانت في أوروبا في القرن التاسع والعشرين لا يصح إذ أن “العلم” و”نظرية دارويين” هي من روّجت للعنصرية وتصادف انتشارها بوجود الأيديولوجيا “القومية” بصفتها مسيطرة على المجال السياسي ولو كانت هناك أيديولوجيا أخرى هي التي تسيطر على المجال السياسي لفعلت مثلما فعلت أيديولوجيا القومية في ذلك الوقت, و كما أن المتدينين مارسوا العنصرية وكانت ممارستهم أبشع بمراحل شاسعة من ممارسات من اعتنق أيديولوجيا القومية فمع ذلك تصالح الناس مع الأديان, والمتدينون أنفسهم طوروا أفكارهم ونقدوا ممارسة من سبقوهم فكذلك يجب أن يُفعل مع الأيديولوجيا القومية, وأخيرا إن القومية ليست هي من تنفي “القومية” عن الآخرين، بل هي التي تفكر بمصيرها التاريخي وتحقق سيادتها وتأبى الرضوخ للقوى الخارجية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-     Nationalism and Racism: Their Relationship and Development p:5

2-     Nationalism and Racism: Their Relationship and Development p:5

3-     الجماعات المتخيلة ص :148

4-     الجماعات المتخيلة ص :152

5-     الجماعات المتخيلة ص :

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق