طبتما وطاب ممشاكما

الكاتب:

9 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

لا شيء في العالم أبدًا يملؤني افتخارا واعتزازًا بقدر تلك اللحظات التي احتوتني وأنا أستمع إلى مرافعتكما الوطنية يوم محاكمتكما، تالله لم تكن مرافعة للدفاع عن ذواتكم المنهكة المتعبة، وإنما مرافعة عن وطن بأسره، وطن كبير حرمنا فيه الحرية دهرًا طويلًا، وحملتما همه في قلبيكما فسرت كلماتكما بردًا وسلامًا وقوة ومكنة حتى أنني من فرط شموخي تمنيت أنها لم تنقضِ وأن العالم بأسره يشهدنا ونحن جلوس حولكما فيستمع إلى مناضلَين شرسَين لم يتقهقرا أبدًا في زمن عزّ فيه الصامدون!

والله لا شيء على الإطلاق حتى التعبيرات والكلمات بكل ما أجرى الله على لسان الخلق من لغات لا توفي حق المعاني المتحررة قدرها، لا سيما تلك الموغلة في الصمود والتحدي، إذ وحده الباري سبحانه جلّ في علاه يعلم دقّها وجلّها.

هناك وفي دواخل النفس الملتاعة تعتمل المكامن والمعاني، محدثة ضجيجًا عاليًا، يزداد تعاليًا، من حيث هي تبدأ في فورها جلبة صاخبة لا يسمعها أحد سوى ناحتها، كعامل المنجم تمامًا ينحت في الصخر ويفتته في باطن الأرض، أما من هو فوقها فليس يعلم بالتحديد ما الذي يجري من تحتها، وإن صدف وتناهى إلى سمعه أو حدسه شيء ما فإن أقصى تداعيات ذلكم الشيء تكون على هيئة هزة خفيفة أو صوت خفيض لا يكاد يُسمع، في حين الأثر من حيث المنشأ والمبتدأ جدّ كبير، كما أن أثره بُعيد الاكتشاف أكبر، يزيد على الأول أنه مترائي للجميع، ولا يقتصر على المكتشف دون غيره، إنه يشابه من جهة ترائيه للغير وفي دائرته الضيقة حالة من زامله الأرق طويلا حتى بدا على محياه، كما هو باد على محياكما أيها الفاضلان، أرق الحرية والتوق إلى العدالة.

تعانيان الليالي الطوال من ظلال التقلب والتعرق والوسن المضني، على أن تستيقظوا في الصباح الباكر وقد أريتمونا من أنفسكما كتلة من التيارات المتدفقة الممتلئة شموخا رغم الألم البادي، تسيران جنبا إلى جنب وقد خذلكما الكثيرون تعهدًا واعتذارًا للظالم، في حين تصرون باقتدار على تشكيل موجة قادمة من بعيد، تبدأ في تكونها رويدًا رويدًا إثر تحركها، وتتضام القطرات الشبابية مع رغوتها، مجتمعة ومكونة مدا متناميا بنفوس شابة جديدة، تتنامى بديناميكية ذاتية بحتة، أما الصوت ففريدٌ جدّ فريد، يستفتح بهدوء خاشع، ويتلازم ذلكم الهدوء مع الحركة إلى منتهاها، ولا نكاد نميزه إلا بعد أن تتعاظم الموجة إلى أبعد مدى ممكن، يكون على إثره شروع في حركة هبوط متدرج ومتصادم مبدد لكل عائق إلا مستقر الحرية اليابس، حركة الموج هذه لو كنا في ثناياها وهي تنثال على الشاطئ لأدركنا بشكل جيد معنى أن تكون الحركة عظيمة غير أن صوتها لا يدلّ عليها، وتلكم والله حركتكما ومرافعتكما أمام زبانية الظلم وموج الشباب من حولكما.

ألا إن من ذاق طعم هذا الحراك لا بد وأن تهون لديه تبعاته بالكلية، لاسيما تلكم الرهبة المصاحبة، تماما كما هانت من قبل على ربيب المنفى والضائق به البروفيسور إدوارد سعيد، القائل في خاتمة كتابه الممتع “خارج المكان”: “إن الأرق عندي حالة مباركة أرغب إليها بأي ثمن تقريبًا.. فحياتي مليئة بتنافر الأصوات”.

أن تسعى لأن تكون متأرقا على الدوام؟ لا معنى لهذا سوى استعذابك لعذاب الاصطراع الداخلي من أجل الحرية، واصطبارك عليه، بغية تحقق مساعيه ومعانيه، ضجيج السكون وصمت البدايات، وصفان متلاصقان لحالة من تأرق فأبدع فأنتج حراكا، وصفان لمن أرخى سمعه طويلًا لصوت نفسه، وأسدل الستار حينا لصوت الواجب الاجتماعي، حينها يمكن لذلكم الموصوف أن يغني سيمفونيته بكل تناغم وتماهٍ مع الواجب ذاك، ولقد أخبرنا المايسترو الأعظم “بيتهوفن” عن نفسه فقال: “أنا لم أبدأ بسماع الأشياء حتى أصبحت أطرشَ، .عندما يسيطر علينا الصمت يمكننا في حينها أن نغني، إنها هبة شغفت بها”  وهكذا كان للموسيقار الكبير أن يعزف بغربة وحضور في آنٍ معا، أن يغني الحب والألم والفراق والجوع بل تنافر الأصوات، والأخير قد تجلى بوضوح في نوتة ما ضمن سيمفونيته الرائقة “ضوء القمر”.

إنها أحدى اغترابات الإنسان، غربته عن ذاته ثم استرجاعها، وغربته عن وطنه ثم الحلول فيه، فأما الأولى فموجعة جدا، بما تورث في الإنسان شعورا بالضياع والانفصال وعدم الجدوى، ليتوجب عليه في حينها امتهان الصمت حتى تغدو مهنة مستديمة لحين حلول الموعد والتلاقي، وأما الثانية فيبعثرها الأمل واستشعار روعة اللقاء مع مناضلين أفذاذ، كالحامد والقحطاني

ألا ما أصعبها من غربة! يوم أن نشعر بها ونحن داخل أوطاننا، مصداقا لذلكم البيت من الشعر الذي ردده عقب صمت تشكيك محمد حسنين هيكل واصفًا حالة بلده مصر قبل الثورة فقال:

                       لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها            لكن أحلام الرجال تضيق

نعم قد تضيق أحلام الرجال رغم فسحة المكان، ورغما عن ذلك فإن الحياة في إطار هاتين الغربتين تعدّ تجربة غنية ثرية جديرة بأن تحكى وتروى على ما فيها من تبرم وتململ، إذ في صميمها وفي حقيقتها يمكن صمت التنوع وصمت التلوع، صمت التنوع بين معايشة القضايا الشخصية الخاصة وقضايا المجتمع والأمة عامة، وصمت التلوع بحساسية الذات وشفافيتها مع المحيط والكامن، فتكون بذلك قد تجاوزت حدود الإنسان العادي إلى روح الإنسان المفكر والمبدع، الذي عاين حياته فاستوعبها بروح الفنان المعبر عن الحاجة الأساسية لا عن ترف فكري يطرب له المستبد!

ومهما قيل في حقائق المعاينة من تعابير فإن عناصر معينة تظل الأكثر حضورا على الدوام، هي كما عبّر عنها الشاعر محمود التل بالترتيب: “الحياة ذاتها، المعاناة، الإدراك الواعي، الأصالة وصدق الانتماء” وهو نفسه القائل بعجز الإنسان كما عجز العالم بأسره عن تحقيق ذاته الإنسانية على النحو الذي يريد ويتمنى، فلهذا كانت الحياة غربة، لا شيء فيها إلا الاغتراب، مصداقا للوصية النبوية التي ألقيت على مسامع عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لتكون عبرة له ولمن بعده، تلك القائلة: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” إنها الغربة الواعية، تلك التي تعنى بحقيقة الإنسان وبجوهر الحياة، والأخيرة بما هي صورة من المعاناة والمكابدة، كذلك هي صورة من الصمت الطويل للتأمل والتفكير والإدراك لتقلبات الإنسان المغترب في هذه الحياة الغريبة، تأمل يلفه سكون الليل بهدوئه وروعته، لتجتاحه تارة لوعة طارئة، وتستقر به تارة أخرى هدأة طارئة أيضًا، طوارئ مشاعر لا يجمعها سوى النظر الطويل والبحث عن الصوت الداخلي بعد أن هدأت الأصوات، وجوم غائر قد يثير الرعب في النفس أحيانا، لكنه يحثها فيما بعد لتعزم وتمتلئ عزما نحو المسير يحدوها ذاك المثل الأسباني القائل: أيها السائر ليس ثمة طريق، خطاك هي التي تصنع طريقا.

فإذا بكما قد صنعتما طريق الحرية والكرامة لجيل لن ينساكما أبدا.

إنني أيها د.الحامد وأيها د.المحمد كلما تكلمت عنكما أشعر بقلة فهمي لنضالكما، لذا في أحايين كُثر أفضل تصفح صفحات مسيرتكما بصمت، ثم ترجمة هذا التصفح إلى بداية، تتلفع بصمت الكلام بيد أنها تتوشح بضجيج الحركة، حركة التيار الشبابي الجديد المتسامي عن الأنا والمتطلع للحرية.

إنه لما سئل مناضل الحرية “نيلسون منديلا” عن كيفية قضائه العشرين سنة داخل حبسه الانفرادي أجاب قائلا:” كنت صامتا أترنم مع ضجيج حركة خارجية، أعلم جيدا كيف بدأت” بالفعل لقد حقّ لمنديلا أن ينعم بصمت مطمئن بعد أن كابد طويلا ضجيج صمته المؤرق.

وأنتما أيها الحامد والمحمد لن يطول مسيركما إلا وجمع نقي من حولكما يكملون الدرب، فلن يخذلكما الله وأنتما من تنادون بتحرير عباده عن كل من سواه.

أيها الكريمان العزيزان إن وطناً أنتم مناضلوه لا يذل أهله طويلاً ..!

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق