الوطن في السجن يا خالد
27 يونيو, 2012 لاتوجد تعليقات“لمعتقلٍ لا أعرفه: صباح الخير سيّدي
زنزانتكَ الواسعة، أفسح من وطننا الضيق“
الفياض
“تأكد يا عجيري أننا سندعو عليكَ كل يوم، ستلاحقكَ دعواتُنا لقبرك. بعتَ دينك لدنيا غيرك”
مريم سعود الهاشمي
تود أن تمسح العرق عن تعب الكلمات، من فرط ما لكتها عن وطن مجهد، يجرجر كبهيمة، وفق أهواء الرعاة، لكنك لم تتشافَ بعد من ندوب المخازي، وتؤمن بفقه الأولويات. عميقا هذه المرة، وتدمن التذكر، إذا كان النسيان طاعونا وطنيا، يجب أن تحول نفسك سرداق عزاء، أن تقلب بيتك مقبرة، تقشر أصابعك مخالبَ وحروفك خناجرَ حتى تحكي هذا الوطن، هذا الذي يصدمك، هذا الذي يصيبك بالخرس الاختياري، إن لم فإجباري. الوطن الذي تحاول تجاهله كما يفعل، أن تقفل عليه في علبة سردين، أن تحشره في آخر الخزانة، دومًا يتفلّت منك، تجده خارجك، يركلك، تُلعن به أينما كنت، بعاره ومصائبه وفضائحه.
تودّ ألا تشتم الوطن، ألا تطلق عليه شتائمك المعتادة، أن تمدح نباهته، أن تغازل قامته، أن تعامله بوصفه شيئا محترما، أن توطد له جيبا داخلك، لا يُحشى به غير محبته. لكنه هو البادئ، أنوح، هو من يبدأ الشجار كل صباح، بأخباره بمآسيه بطرقه بصحفه، ولا صبر يعول عليه في لسان امرأة: لك الشتائم كلها أيها الوطن المهزلة، بقدر ما عاملتنا كرعايا، كسخرية يضحك عليها لا لها. مشتوم كل ما فوقك، كل ما خالطه فسادك، ونماه حرامك، إزاء الظلم الهائل التي تمثل أنك بريء منه في كل آن، بقدر حارة تنضح المجاري في طرقات أهلها، ولا تظهر لقطتها في أمجاد الأغنية الوطنية. أما بقية الأشياء الطاهرة، السابقة لألاعيبك، فأنحني يا الله لأقبل طهرها الذي تلوحه قيظ شمسه، وتباركه نبل أخلاقه، “وعلومه”. الوطن ليس هذا الممتد أخضر في الخريطة، “الوطن هذا المرقوع أسود في القلب” يردف صديقي.
من أنتَ يا خالد؟، ماذا كنت تفعل قبل تلك الجمعة؟ كيف انشهرتَ صارمًا هكذا؟ من أين انشققت، من أي فج أتيت؟ أي حقيقة هائلة جعلتك تقف هكذا، أي وعي غير زائف جعلك تهتف هكذا. ابتساماتك الأخيرة، ابتسامة أنبياء، لا يحدث في هذه البشرية مشهدك الأخير، مازحا نحو حتفك، وكلّكَ يقين إليه، إلى الهولوكست السعودي: “الحاير”، هذا الذي ينبغي أن تدعي به الأمهات الآن، جهنم؟، لا! ربّ جهنم؛ أرحم وأعدل من أرباب الحاير اللعين وفروعه.
نعم “الحكومة ما تملكنا”، لكن كل شيء هنا الحكومة يا خالد، أينما تول وجهك ويصفق قفاك، فثمّ وجه الحكومة، المجد والرفعة والثراء والأبهة والنجابة للحكومة، وطالبيها وعابديها وكاتبيها ومطربيها. أي متشردٍ وحيد ستكون إن نابذتَ الحكومة، أي حفرةٍ ستؤويك لو كرهتكَ الحكومة، ليست شعرة معاوية التي تمسكك بها، وتمسك بك، كلاب حديدي، قيد رصاصي ما يربطك بها، إن قعدت به، سحبوك، “سحبُووك!”
نعم “الإعلام مو حر”. يتحدثون عن هاماته، قفزاته، منجزاته، أنا لم يدرسوني شيئا عن الإعلام، كمعظم الأشياء، أعرف فحسب أنه موجه ولعبة، حيث السهم يركز على كل ما لا تمنعه الداخلية، فإذا فجأ بيانها، فلكِ الانحراف والتدليس أيتها الحقيقة، حيث قامة واحدة لم تصرخ: أين أنت أيها الاستقلال. أنا لم أقرا كتابا واحدا عنه، لكن جَدتي تفهم، إبرة ماذا التي يحقن بها خمسون كاتبا ليتحدثوا عن موضوع واحد بنفس التوجه والرؤية. أنا لا أفهم فيه، لكني يمكن أن أفهم في الحرية والذوق، حيث ما المرجو والمعول عليه، ما القمة المراد وصولها في جريدة يملكها أمير، ادّع ما تدّعي حول اتساعها، لكن أينما سرتَ وابتعدت، فسيصدمك شبك، جهم الملامح، ومن جميع الجهات. ومؤسسة إعلامية داخلها موظف اسمه: الرقيب الإعلامي، الرقيب! يعلم سادة الصحافة الطرق الصحيحة للنطق، وآداب الكلام المهذب، المقصّف.
“الراجل اللي ورا خالد الجهني”:
هذا المستزلم كثير، فرصة لا تعوض مشاهدة عنصر غير مندس، مسمار غير منغرز في ركنه، بيْض بصورة حقيقية، واضحا كشتيمة، واثقا كعار، ماذا كان يفكر حين كان يسمع ما يقول خالد، لماذا يتلمّظ بهذه الابتسامة السوداء، كيف يفكر الآن؟ ماذا يدور في فراغه الجهنمي: ضأن؟ فأرة؟ حشرة؟ تجرب أن تكون غير ما هي عليه، لماذا يتكّتف ولا يستحي ويبتعد عن الكاميرا، ماذا كتب في تقريره، من كانت صيدته بعد خالد، من قبله، الجوقة المنتشرة حول خالد، التي تحيط به أكثر فأكثر، كم في خيالهم الآن من رصاص نحوه.
هذا ويا للاسف لن يفهم يوما ما نقول، ما منطقا، مطالبنا، هول أهمية ما نرجو، ما نتمى ونحلم، شيء كالماء والهواء يا أنت، أعرف أنك لا تفكر بنا غير صِبية، يحتاجون لتأديب، لـ”حاير” عاجل، هل تفهم معنى تضحية بترك أبناء كخالد مثلا، أن تترك الطعام لأيام، لأمثل لك بالبجادي، لديه أطفال أيضا، مثلك غالبا، أن تترك وظيفة، أن تفصل في رزقك، لأجل كلمة، معنى لا وجود له، شيء لا تجده في جيبك، وتشهره في الوجوه، لا تفهم ما أعني، أعرف، لكن الراتب، الراتب الباذخ الذي يجيء إليك، العطايا، المنح التي تأتيك تخيل توقفها، لموقف، لبيان لن يعمل به، لعريضة لن يستمع إليها، لن أمثل لك، إنهم كثير، وأنت تعرف بمن وشيت وحرشت وفتنت وحصلت له دسائسك.
حين تخرج يا خالد، حين تتصفح أول مقطع نزل بك، كان اسمه: “أشجع رجل في السعودية”، حقا كنت أشجع رجلا، لا متسلقا إفرست، لا طائفا حول الفضاء، لا باحثا كيميائيا، لا ناشطا في محفل غربي، شيء غريب عنا، غير معهود كثيرا، طالب ديمقراطية وحرية فحسب. كان أول من انطلق بالقذراة فيه أولئك، العساكر، لكن الفرع العنكبوتي هذه المرة. ولأنهم غير متعلمين جيدا، ضحلين كثيرا، علموا بعضهم أن يعلقوا: “راكب موستانغ ويتظاهر”. أن تصرخ وحدك بكلمات غريبة، في لحظات مريعة، بعيدة عن قاموس العسكر، ووسطهم، حقيقين وأشباح، كم في هذه الشجاعة من شجاعة. مدهش وعظيم، بقدر الفتى الذي شاهدك خمسين مرة، ثم بكى.
هرمت ذاكرتنا وتشتت بمعتقلي هذه البلاد، أخبار الداخلين المفقودين تتداخل بالخارجين المولودين، والقابعين بالسنين ولا من خبر، شيء كاللعب يحدث، هذه اعتباطية الاعتقال يا دي سوسير، لقد مُتَّ ولم تنظّرها بعد. ليخرج فرد أو فوج، فلا فرح ولا بشرى طالما أن العبثية ماضية في طريقها. وجودنا الحقيقي يستحيل إلى زنزانة بعد زيارة كتيبة مسلحة تداهم الحي، لتخطف إنسانا في قلبه كلمة، نحتاج لدفتر لنذاكر جيدا مادة أحرار هذه البلاد، كيلا نرسب في اختبار الحرية في كل غد. (هل الشيخ العلوان حوكم أم لا؟، من صدر في حقه حكم الخروج ولم يخرج بعد؟، الشيخ الأحمد أم الجليل، هل مزحا أم جدا أن البجادي عليه أربع سنين؟، من هو السجين الذي سجن 18 عاما عندما كان عمره 18 عاما، أسرد بشكل مفصل ما لحق ويلحق بآل زعير، عدّد إصلاحي جدة، هاتَ مطالب الدستوريين الثلاثة، اذكر ما يحلق بضرر للخضر في عام واحد، احك بإسهاب عن أبطال جمعية حسم. من هم الخمسة الآخرون الذين خرجوا في يوم خالد ومعتقلون الآن؟) فهل تذاكر؟
وكثير لا نعرفهم، عن الأحرار حاملي الشموع في حلكة الظلم، بصمت، بإيمان، لا بضجيج رابض على عمود جريدة، حتى إذا جاء الفصل، تحسس ما لديه “ونخّ”. سيقولون أن شخوصا في الزنازن عاديون، وإذا خرجوا لن تجد ما يستحق عندهم، سيثبطونك أن هذا الحبس ما أشعل هالة حولهم، قل لهم، إننا لم ننتظر أنبياء، ولم نرجُ معجزات، إننا ندافع عن حقنا بالوجود، عن كل فرد يؤخذ بغير القانون، بالسلاح. عن الحبس الذي يؤرخ بالأعوام لا بالساعات. عن كل ما هو لا منطقي وغير عادل. سنحكي القصص العاطفية، سنجيء بقصص العجائز في انتظار الأبناء الغائبين، سنبكي لكل رسالة من “أم فهد”، سنريكم صور الأطفال وفي عيونهم شكاية السؤال والحنين. ما لم يعامل بالقانون، بالحق؛ سنقوله بغيره، بقوانين غياب القانون، وبروز الظلم والمزاجية. ابصق على كل المحترمين الذين يقولون لك كلهم إرهابيون، منحرفو الفكر، وهذا المكان الطبيعي لهم.
ها أنت الآن معتقل يا خالد، ولم يُنطق بالحكم بعد، إنه يتأجل، لربما لم يصل بعد إلى القاضي لينطقه، من بعد 441 يوما من الحبس، جزاء التحدث بضع دقائق عما تريد وتطالب، مسلحا بحنجرتك فحسب، وتقتاد في في المحكمة بالسلاسل، ويعلن عن محين وقت زيارتك لأخيك عن بعد ألف كيلو، في نفس اليوم. لقد كذب العسكري مرتين، مرة في اللقاء حين سكت، وغيّر سبيل المأزق الذي وقع فيه، وحين قال إنك ستعود إلى بيتك، كذّبته، لكنه استمر يكذب وكأنه لا يعرف أين يذهب من يتحدث في الهواء الطلق، والفضاء المفتوح، لا في العتمة وتوسلا عند الأبواب الشاهقة، بعد أن يرتّبكَ الحجّاب، ويهذّبكَ السدنة، لتصير عندئذٍ “مفتوحة”.
في كل مرة يجب أن نصور أننا لم نعتد المذلات، إنها مفاجأة، وتمر بنا صادمة، إننا بشرٌ مواطنون، لنا الإنسانية الكاملة، سنتفقد كل آن دواخلنا، وأن اختلاجاتنا هذه طبيعية، وتمرّ لإنسان تخدمه الحكومة النمساوية. سنتخفف من الألم بالحيلة، سنصفق جبيننا كأننا نتذكر لأول مرة أن الدكتور الهاشمي محكوم عليه بثلاثين عامًا، ونقول أن هذه القامة أكبر وأجلّ من أزمانهم، رغم الشوق، رغم الفقد يا محمد. وأن الدكتور القرني سليم، وبصحة جيدة، رجل نبيل ولا أسهل من علاجات لازمة له، وسيخرج مشرقا بصوته الذي يشابهه إمام مسجدكم يا رقية. سنرى عظَمة بعضنا، إن الأمر ليس شرا كله، كأن يكون محمد عبدالعزيز أخا شهما لكل المعتقلين، وستكتشف متأخرا أن له أخا معتقلا.
السلام عليك في الأحرار خالد، وعلى المعتقلين، من دخل، ومن خرج، من يقبع الآن، ومَن يعدون العدة لإدخاله، السلام عليك في المشهد المرعب، يوم لحقتك سيارة الأمن، رأيتها في المرآة، ورأيناها في المقطع. السلام على زوجك وأطفالك، يقضون الشهر تلو الشهر دونك. السلام علينا في الخائفين، بلا قعر، ولا نهاية.
خاص بموقع “المقال”.
لا توجد تعليقات... دع تعليقك