الحراك الشعبي لا منتمٍ

الكاتب:

6 أبريل, 2012 لاتوجد تعليقات

يقال بأن رجلا بسيطًا تاجرًا في الماضي كان يجوب البلاد إما بحثا عن سوق رائجة أو عن مشترٍ باسط اليد، فمرَّ على منطقة مشتعلة بالخلاف المذهبي بين الشافعية والأحناف في حالة استقطاب سياسي حاد كما يمكن تسميته، وفي نقطة تفتيش مذهبية أوقفته مجموعة أمنية لتمتحنه في مذهبه، فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، وفي أيديهم السلاح والعتاد، فسألوه “على أي مذهبٍ أنت يارجل؟” فلم يدر ما يقول، إذ خاف إن قال أنه “حنفي” أن يقتلوه لأنهم شوافع، أو قال “شافعي” قتلوه لأنهم أحناف، فقال “أنا شافعي متحينف”!

هذا التاجر لم يكن لتلك المجموعة الأمنية في نقطة التفتيش هذه أن تفهمه إلا وفق ذلك التقسيم المذهبي، ولذا فرضت عليه ذلك المنطق، وحاكمته إليه، وصنفته واتهمته، فعلت ذلك كله ليس لحماية مذهب ولا دين ولا مجتمع بل لممارسة استبداد سياسي من نوع ما.
هذا المستبد الذي يمارس امتحان الناس في رأيهم ومذهبهم واتجاههم  لا يستطيع أن يستوعب التنوع الطبييعي في كل مجتمع ابتداءً، كما أنه لا يستطيع فهم وجود حراك شعبي عام تشترك فيه كل فئات المجتمع ضد المظالم والفساد والبغي، فهذا المستبد ما زال يفكر بمنطق “الاتجاه/التيار/المذهب/الحركة/..إلخ” فهذا المنطق أنموذج تفسيري بسيط وواضح يخفف عن المستبد الرعب من وجود تذمر شعبي عام، فيلجأ إلى تقسيم هذا الشعب عبر نماذج تفسيرية لمحاولة رمي أصبع الحراك إلى مجموعة أو جماعة أو تيار أو مذهب أو عدو خارجي.
المستبد تمامًا مثل الإنسان الفاشل في الحياة الذي لا يريد أن يدرك أسباب فشله الكامنة في سلوكه وطريقة تعامله واحتقار الآخرين ورفض التواصل الاجتماعي والشعبي، فيلجأ إلى حكاية “السحر والعين والحسد”، فهو بهذه الطريقة يقلب المسألة من كونه “مريضًا/ فاشلا/ مترهلا/ ظالما/مستبداً..إلخ” إلى كونه “محسودا/ مبدعا /مرصودًا.. إلخ”. وهكذا فهذه النماذج التفسيرية ليست فقط مريحة للضمير بسبب وضوحها وبساطتها بل هي مسلية ومدغدغة للضمير الكاذب لأنها لاتخبرك بأنك ظالم مكروه مستبد، ولكن تكذب عليك فتخبرك بأنك متميز محسود مبدع، وحين يصل المرض لهذا المستوى فهو يسمح بنمو المرض حيث لا يشعر المريض، ويجعل الأوبئة والأدواء تتكاثف بشكل مهول، والأخطر من كل هذا تنتشر بطريقة ما يزال هذا المريض/المستبد يفسرها بنفس الطريقة البدائية، فيجهل عمقها ويوحي له هذا التفسير الكاذب بأنه محسود حتى يتضخم الكره ويتضاعف الأذى، ولن يحاول المستبد أن يدرك تفسير “التذمر الشعبي” فهو منطق معقد متعب مؤذٍ فلذلك لن يفهمه.

هذا المستبد لم يعرف تفسير التحركات الشعبية إلا من خلال الدوافع الحزبية أو المذهبية أو الإيدلوجية أو المصلحية… وأشباهها؛ لذلك هو كل مرة يقرأ الحراك الشعبي العام شبابا وشيوخا من خلال الدوافع الحركية وأشباهها؛ ولذلك ليس غريباً أن المستبد لا يفهم أو ربما لا يريد أن يفهم أن التذمر الشعبي والتحركات المدنية الأهلية هي “شعبية” بامتياز، لا يربطها إلا إرادة الإصلاح والسعي نحو مكافحة الفساد وتطبيع مفهوم المشاركة الشعبية والمؤسسات الأهلية التي تقوم بدور الرقابة.

إن أي شعب ومجتمع سيحوي بالضرورة تعددية طبيعية صحية من الاتجاهات الفكرية والتيارات والمذاهب والحركات والتنظيمات الاجتماعية والمؤسسات… وكل هذا حالة طبيعية بل ضرورية من الاجتماع المدني الأهلي الذي يسهم بطريقته الخاصة في التعددية وفي التعبير عن المجتمع بأشكال أهلية مستقلة، وأي أخطاء إيدلوجية أو حزبية كالوصاية واحتراف الحكم على الآخرين وغيرها فهي مشاكل توجد في كل المجتمعات والاجتماعات الأهلية، وينبغي مكافحتها من الجميع، لكن كل تلك الاجتماعات والتجمعات الأهلية لاينفرد أحدٌ منها في صياغة ضمير الناس ولا التعبير عنهم، بل هي أهم من كل هذا وقبله: حراكا شعبيًّا تنضوي تحته وجوهٌ مختلفة وخلفيات فكرية ودينية وحركات متعددة وجمعيات وجماعات… كلها تشكل ألوانا واسعة من الطيف الاجتماعي، ولكل أحدٍ الحق في ممارسة العمل المدني وتشكيل الاجتماع الحر ما دام لا ينتهك حدود الآخرين ولا يعتدي على أشياء الناس.

كل ألوان الطيف المختلفة تلك تؤكد عمليًّا أن الحراك الشعبي لا منتمٍ ليس بمعنى أنه ضد الانتماء فالانتماء حق مشروع لا يحق لأحد الوقوف ضده أو المشاغبة عليه، ولكن الحراك الشعبي هو المظلة الكبرى التي تفسر العمل المدني العام من أجل الإصلاح.

الحراك الشعبي هو الذي يتحدث للناس وعنهم، عن أولوياتهم وقضاياهم المعيشية والحياتية، وعن اهتمامتهم عن مطالب الناس جميعاً في العيش الحر الكريم، فهو الحراك الذي يشرق على كل الانتماءات والتيارات والتجمعات؛ من أجل الأهداف الشعبية العامة، ولأجل كل هذا فإن تلك المطالب الشعبية في المشاركة ومكافحة الفساد ومشاكل الإسكان والبطالة والاعتقال التعسفي… لايجد السياسي المستبد سبيلا لفهمها ضمن النموذج التفسيري الذي يعهده في التفسير الحركي/المذهبي/التياري… إلخ، لسبب بسيط هو أنه حراكٌ أبعد من كل التيارات والمذاهب والحركات، وأكثر عمقا، فهو حراك شعبي عام يتعالى عن كل الانتماءات المشروعة إذا كان الشعب بكل اختلافاته وتعدديته الطبيعية هو المقصود فالحقوق والحريات ومشاكل البطالة والإسكان والعيش الكريم والمشاركة السياسية وإدانة الاعتقالات السياسية وسجناء الرأي أشياء لا مذهب لها ولا تيار ولا حركة ولا تجمع، بل هي لكل هؤلاء وأولئك، وفوق كل هذا للناس جميعا، وللشعب والوطن بكافة شرائحه، فهذا الحراك رغم وجود كل الانتماءات المختلفة تجمعه الهوية الشعبية في إرادة الإصلاح والنهضة والخير والكرامة لهذا البلد الكريم؛ ولهذا هو حراكٌ في النهاية لا منتم.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن عبدالله العودة

كاتب حاصل على ماجستير قانون
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق