الثورة الإلكترونية.. ثورة الذائقة

الكاتب:

22 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

الثورة الشعبية التي استفادت من التقنية الحديثة هي في المقام الأول ثورة ذائقة، فهي ليست ثورة أُناس معدمين وجائعين بل ثورة معرفة، وثورة أفراد عرفوا وقارنوا وأدركوا أن وضعهم ليس صحيحا ويحتاج إلى تغيير.

وبلا رؤية ولا معرفة لم يكن لأحد أن يدرك حاجته إلى التغير. إن ذائقة الناس التي تتطور بمرور الزمن، وترسم رؤاهم وتطلعاتهم وأهدافهم، هي التي تدفعهم للصبر والتضحية وعدم القبول أبداً بأقل مما هو مستحق.

أهمية الذائقة
عبر كتابه الأهم “تمييز” (Distinction)، يبين عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن “الذائقة” من أخطر الأمور في المجتمع، فعبرها تتحدد ملامح المجتمعات، موضحا أن نمط “الهيمنة” والتمايز الاجتماعي إنما يتم عبر سيادة ورواج ذائقة معينة على حساب أخرى.

فالنخب المسيطرة تمارس نشر “ذائقتها” وطريقتها “في النظر” لكي يتبناها المجتمع، وتصبح بذلك طريقة “طبيعية” لديه، يُفترض أن يعود ويحتكم إليها دوما.

إن ذائقة المجتمعات قد تفسد عبر استغلال النخب وغيرها من الأمور. وحين تفسد الذائقة في مجتمع، فكل المعاني والمفاهيم اللاحقة تفسد وتتعطل بسهولة، فلا يوجد أي مفهوم يظل متماسكا حين تلامسه ذائقة “رديئة”، فالحرية قد تصبح دمارا، والفن خطيئة، والتغير نكسة… إلخ.

هكذا تنحدر أي قيمة إنسانية أو دينية بانحدار الذائقة، وذلك لأن التعاطي مع المعاني والمفاهيم يكون محكوما بدرجة ومستوى ذوق المجتمع ووعيه.. ولا يمكن للمفاهيم أن تبتعد عن هذا المستوى.

وباختصار، الذائقة الرفيعة للمجتمع تساعده على استخلاص الجانب الأجمل والمضيء من “المفاهيم”، واستخدامها بفعالية داخل المجتمع، والعكس يكون صحيحاً أيضا.


الثورة الإلكترونية، ولحسن الحظ، مارست تهذيبا وتطويرا للذائقة الإنسانية، فلم يعد طريق المعرفة محصورا على نهل المعرفة من طريق “نخب” معينة

الذائقة والإنترنت
الذائقة في المجتمعات العربية أُفسدت وأفسَدت. في الحقبة الماضية انحدر مستوى الذائقة العربية لدرجة رواج اعتقادات رديئة مفادها أنّنا لسنا أهلا للتغيير والتحسن، وأن بعض المفاهيم الإنسانية الراقية والمهمة لا تصلح لدينا!.. وبرأيي، لا يوجد إفساد للمجتمعات أكبر من هذا.. فهو أمر مشابه للقول إننا مجتمعات لا تصلح للحياة!.

الثورة الإلكترونية، ولحسن الحظ، مارست تهذيبا وتطويرا للذائقة الإنسانية، فلم يعد طريق المعرفة محصورا على نهل المعرفة من طريق “نخب” معينة، أو “مناهج” تتبع لهم.. لم يعد الشباب ملزما بخط وطريقة نخبة “سياسية” يعرف من سلوكها أنها في غير حاجة إلى الشعب، ولا نخب “اقتصادية” يؤمن أنها تهدف لاستغلاله، أو نخب دينية يصدق فيها قول غيلان بن مسلم “دَع عنك علماء زمن الهرج.. إن وعَظوا عنّفوا، وإن وُعِظوا أنِفوا”، أو نخب ثقافية لا تعرف ما تفعل سوى اتباع غيرها من النخب..

فاليوم هناك موارد معرفية جديدة مثل “الإنترنت” مكّنت من نهل المعرفة وتطويرها، وملاحظة أداء هذه النخب وتقييمها، بل ورفضها إذا لزم الأمر.

لقد أصبح الإنترنت الوسيلة الكبرى للمعرفة، يلتقي فيه جميع الناس وتتحاور جميع الأطراف. والمعرفة هنا تمارس تعديل نفسها بنفسها عبر هذا الوسط الطبيعي الذي يتمازج فيه البشر مع معارفهم. والذائقة في هذا “التمازج” تلعب دوراً كبيراً في إسقاط ما يسقط وإبقاء ما يبقى.

إن الذائقة والمناخ العام يتجلّيان بوضوح عبر الإنترنت. فالإنترنت ديمقراطي أكثر من الديمقراطية نفسها. وكما يلاحظ عبد الحميد بسيوني في كتابه “الديمقراطية الإلكترونية.. ص232″، فإن الإنترنت “تكون حقاً ديمقراطية شعبية، بما أن لكل فرد فيها الحق الكافي في قدر من الجمهور مثل أي فرد آخر بمجرد طرح وجهات نظرهم على الخط. وهذا ما يتناقض مع وسائط الإعلام الجماهيري حيث الوصول إلى الجمهور مازال محكوماً بالسلطة التقديرية للتحرير.. كما يمكن ملاحظة أن ما يحدث على شبكة الإنترنت من مناقشات تنساب إلى تيار وسائل الإعلام”.

إذن، حتى شبكات الإعلام الجماهيري (التي قدمت ثورة لدينا في العالم العربي قبل ما يزيد عن العقد) أصبحت محكومة بالمسارات التي يقدمها الإعلام التفاعلي.

الآن أقضي وقتا أطول على الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر أكثر من أي مواقع أخرى.. وذلك لأني أثق بذائقة أصدقائي، أو المجموعات التي اشترك معها في هذه المواقع. وأنا متأكد عن تجربة أنهم يغنونني بالمادة التي أريد، والتي تناسبني بالفعل. فتماثل الذائقة في النهاية هو ما يخلق المسارات المتشابهة.

وموقع مثل تويتر اليوم هو بمثابة “التشات المطوّر”.. لقد كان الناس مع بدايات الإنترنت، قبل أكثر من عقد، يتحدثون عبر الإنترنت ويستخدمونه كيفما اتفق، لكن بمرور الوقت وعبر تطور الذائقة تغيرت طرق هذا الاستخدام.

فعلى سبيل المثال، أصبح أسلوب تويتر الذي يعتبر أحد أقوى المواقع في العالم، يتمثل في انتقاء عبارات قصيرة تحوي أقوى الأفكار أو أهمها أو أجملها.. وما دون ذلك غير مرحب به.


الذائقة التي حاولت جلب دعم شعبي لنظام مبارك كانت ضعيفة ذهبت تحت الأقدام، كما هو حال الذائقة “الرديئة” التي تعاني الآن في وسائل الإعلام وهي تحاول أن تدافع عن بشار الأسد ونظامه

الإنترنت والاحتجاجات
في كلمة له بمناسبة الألفية الثالثة، ذكر الأمين السابق للأمم المتحدة كوفي أنان أن “التكنولوجيا الجديدة توفّر فرصة غير مسبوقة للبلدان النامية تمكنها من “القفز” على المراحل الأولى للتنمية”.

وليس هذا الأمر متعلقا بالتنمية فقط، بل هناك كثير من المراحل والخطوات التي تم القفز عليها نتيجة مُنجز التقنية الجديدة، ومن ذلك العلاقة بين “المجتمع” و”السلطة”، فقد تحققت قفزات كبيرة بين هذين البعدين بسبب دخول التقنية على الخط، فهي علاقة اكتظت بالكثير من التجاذب والتأثير المتبادل.

وحكاية استفادة الاحتجاج والممانعة من التقنية الحديثة قديمة، لقد ركّز لينين على أهمية “الفيلم” في نشر الأيديولوجيا الشيوعية. وتحدث المناضل فرانز فانون (1967) عن الدور الواسع الذي لعبه “الراديو” في الثورة الجزائرية.

وكتب طالب أميركي بحثاً يُخبر فيه أن نجاح حركة “الحقوق المدنية” للسود في أميركا خلال الستينات كان يقف وراءه جهاز “التلفاز” الذي انتشر في البلاد خلال تلك الفترة، لأنه مكّن المواطنين من أن يكونوا على دراية بحجم الاضطهاد العنصري الواقع في بلادهم.

كما كان لشريط “الكاسيت” دور مهم في إنجاح الثورة الإيرانية. والقرويون والثوار من حركة “زاباتيستا” في تشياباس في المكسيك كانوا يستخدمون قواعد بيانات الحاسوب والراديو عام 1994 وما تلاه من أجل الترويج لقضيتهم وجلب الانتباه لها.

وأتت مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية لتلعب الدور الأكبر في الاستقطاب والتحشيد الشعبي. فقد بدأ الدور الفاعل للإنترنت واضحاً مع الاحتجاجات الكبيرة ضد جلسة “منظمة التجارة العالمية” في مدينة سياتل الأميركية في عام 1999.

فقد استخدمت الإنترنت لحشد الحركة المعارضة حول العالم، وتوافد لهذا الاحتجاج جموع ومجموعات ناشطين من مختلف أنحاء أميركا والعالم تجاوزت أعدادهم أربعين ألفاً. وكان لجهودهم نتائج فورية فقد تعطلت إمكانية التوصل إلى اتفاق في جلسات سياتل.

ومنذ تلك الفترة أصبح للإنترنت اليد الطولى في الفعل الاحتجاجي، علماً أن استخدام الإنترنت لا يعني “الكسب” الأكيد لطرف ضد آخر، فأنصار البيئة استفادوا من نشر رسالتهم عبر الإنترنت كما أن أندادهم من مروجي الاستهلاك الرأسماليين استفادوا منه أيضاً، فكل طرف لديه ذائقة تدعمه.. ولكن الذي لا يكسب مع الإنترنت هو من تستهجنه الذائقة، ويخلو موقفه من دعم الحسّ العام وذائقته.

إن ما يفعله الإنترنت هو إظهار سوء السيئ للعلن، ويمارس تكبير ذلك وتضخيمه حتى يكون بارزا لا يمكن تجاهله.

فمن استخدموا القمع ضد شعوبهم كما حدث في تايلند أو تونس أو غيرهما يخسرون مع الإنترنت بالتأكيد.

والذائقة التي حاولت جلب دعم شعبي لنظام مبارك كانت ضعيفة ذهبت تحت الأقدام، كما هو حال الذائقة “الرديئة” التي تعاني الآن في وسائل الإعلام وهي تحاول أن تدافع عن بشار الأسد ونظامه.


عالم الإنترنت اليوم يقوم بجمع التضافر الاحتجاجي ويمارس تكديسه في مسارات معينة، وهي مسارات أثبتت مع الأيام أهميتها وأهليتها للبقاء

الذائقة وبناء الكتلة التاريخية
لا شيء يقف أمام الرأي العام إن تجلى ووضح!. هذا الرأي العام ليس بالضرورة أن يكون صحيحا، لكنه بالضرورة يكتسح.. وهو رأي يولد ويتجمع ويقوى عبر انتشار ذائقة معينة.

هناك تشابه في الاضطراب الذي يحدث من قبل الحكومات العربية وفي ردود أفعالهم على الهجمة الشبابية الاحتجاجية الجديدة، والمغريات أو التهديدات التي تقدمها هذه الحكومات لا تُغني شيئاً أمام مطالب شرعية ثابتة القدم، ولذا يبدو أن بن علي ليس الوحيد الذي لم يفهم إلا متأخرا.

لقد صحا الحكام العرب متأخرين ووجدوا أن ذائقة شعوبهم وصلت إلى الحد الذي لم يحسب له حساب!

إن القوة لدى هؤلاء الشباب والفئات المحتجة تكمن في قوة المفاهيم والمطالب التي احتجّوا لأجلها!. لقد تربت الذائقة الشبابية في ظل انفتاح إلكتروني وتعليمي واسع، ولذا فهي لن ترضى بالقليل ولا الحلول المؤقتة والمصطنعة.

وتماثل الذائقة -في النهاية- هو ما يخلق المسارات المتشابهة، ويجعل العقول المتقاربة في مقاصدها تستقطب بعضها البعض.

عالم الإنترنت اليوم يقوم بجمع التضافر الاحتجاجي ويمارس تكديسه في مسارات معينة، وهي مسارات أثبتت مع الأيام أهميتها وأهليتها للبقاء. وهذا التضافر يسرّع من ولادة “الكتلة التاريخية” التي يحتاجها أي مجتمع لإنجاز عملية “التحول”.

وبحسب الجابري فإن الكتلة التاريخية تجمع فئات عريضة من المجتمع تتمركز حول أهداف محددة مثل “التحرر من التبعية وإقرار ديمقراطية حقيقية، سياسية واجتماعية، وتحقيق تنمية مستقلة، وجعل تلبية حاجة الجماهير الشعبية على رأس أولوياتها”. وتعتبر هذه الكتلة إن توفرت هي “المركب” الذي نراهن عليه من أجل اختراق العقبات الصلدة التي تقف أمام التحول المطلوب.

تاريخياً، ولدت الكتلة التاريخية لدى العرب بعد أول يوم من انتهاء الحرب العالمية الأولى، وولدت مرة أخرى في فترة استقلال الدول العربية، وكلتا المحاولتين لم تفلحا في تقديم تجربة ناجحة ومستمرة. فهل يا ترى يفعلها العرب اليوم عبر “ذائقتهم” الجديدة التي تمتطي صهوة الإنترنت، وتكتحل بإثمد المعرفة؟

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

التعليقات مغلقة.