عام 2011، عام تحرير العقول

الكاتب:

5 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

بعد هروب بن علي من تونس اجتمعت مع بعض الأصدقاء. كان النقاش مثيرًا ويتمحور حول الحقوق التي يجب على الدولة توفيرها للشعب، ثم تطور النقاش وسأل أحدهم: متى ينبغي للشعب أن يسقط النظام؟ ما الحد من الانتهاكات والظلم الذي إذا وصل إليه النظام صار من حقنا إزاحته؟ لأول مرة بدأ شباب عادي في كافة دولنا يسأل أسئلة مشابهة.

لقد كان هذا هو الإنجاز الأكبر للربيع العربي: ثورة العقول. فقبل 2011 كان المتحدثون عن تغيير الأنظمة وإسقاطها وعن عدم شرعيتها قلة قليلة، وعاش دعاة تغيير الأنظمة غربة استمرت لسنوات طويلة قبل هذا العام الثوري العجيب، فجأة وفي غمضة عين صار المنادون بإسقاط النظام ملايين من البشر تدفقوا على شوارع تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا واليمن وهي الدول التي كانت مركز الزلزال، ولم تسلم باقي الدولة العربية من تبعات هذا الزلزال. في عام واحد تحقق ما كان يدعو له قلة قليلة من البشر لأعوام طويلة مضت منهم من سجن ومنهم من نفي ومنهم من قتل ومنهم من التزم الصمت. وحين كتب د.حاكم المطيري قبل سنوات قليلة كتابه “الحرية أو الطوفان” مُنِع الكتاب من بعض الدول العربية، وها نحن الآن بعد منعنا من “الحرية” نعيش “الطوفان” الذي لا يستطيعون منعه! وها هو د.حاكم ينزل مع شباب الكويت إلى ساحات الحرية التي أسقطوا فيها رئيس الوزراء الكويتي.

سنوات طويلة كان فيها السجن والمنفى نصيب راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي، ها هو الآن حزب راشد الغنوشي يفوز بأغلبية أصوات التونسيين وها هو منصف المرزوقي رئيسًا للجمهورية التونسية الجديدة. وفي أواخر يناير 2011 اعتقلت قوات مبارك د.محمد الكتاتني، وها هو الكتاتني في أواخر يناير 2012 انتخب رئيسًا لأول برلمان مصري بعد الثورة.

سنوات طويلة كان أغلب الناس يتحدثون عن “إصلاحات” معينة “يكرمهم” النظام السياسي بها، ولم يكن أحد يستمع لمن يقول: أصلا ما شرعية هذا النظام!؟ وسنة واحدة فقط أدت لأن يسأل المواطن العربي نفسه هذا السؤال “من هؤلاء أصلا كي يحكموني؟ متى اخترناهم؟ ولماذا نحن الكثرة تستعبدنا هذه القلة؟” سنة واحدة خرج فيها زين العابدين بن علي بوعود إصلاحية فيزداد هيجان الشارع ضد شرعيته الزائفة، ويخطب حسني مبارك خطبًا إصلاحية فترتفع الأحذية بوجهه في ميدان التحرير، ويكرر علي عبد الله صالح وعوده فيواجه مزيدًا من الحشود في ساحات اليمن تهتف كلها قائلة “ارحل”، وكذلك فعل سيف الاسلام القذافي وأبوه فما كان من الثورة إلا أن ازدادت زخمًا ضدهما. فجأة وفي سنة واحدة تحولت كثير من الجماهير من مطالبة بالإصلاح إلى رافضة له، ليس فقط لغياب الثقة في حكوماتهم وليس فقط لإدراكهم بأن هذه الإصلاحات تستعمل وسيلةً لكسب مزيد من الشرعية لهذه الأنظمة، وإنما أيضا لإدراكهم أن أحلامهم أكبر وأنهم يستحقون ما هو أفضل!

أذكر أني أثناء الثورة المصرية قابلت شابًا تونسيًّا لم يكن مهتمًا بالسياسة قبل الثورة في بلاده، تناقشت معه حول الثورة وحول أوضاع الدول العربية ففاجئني بقوله “أليس في الأمة رجال إلا هؤلاء كي يحكمونا؟” ! السؤال الذي كان لا يطرحه عادة إلا النخب صار يدق باب عقول الشباب العادي. ذكر أ.أشرف إحسان فقيه أنه حين كان أصغر “أصابه الذهول وطار صوابه” حين قرأ للدكتور عبد الله النفيسي هذه الجملة التي “وبعد عبد الملك بن مروان ولي الخلافة ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك.. هكذا وكأن الأمة قد عقمت أن تنجب الزعماء والخلفاء إلا من نسل عبد الملك” وها أنا أسمع ما يوزايها من شاب عادي من شباب تونس بعد أيام بسيطة على خلع بن علي.

وصديقي المصري الذي كان ضد الثورة لأنها مؤامرة بارك لي سقوط حسني مبارك بعد أيام قليلة وأكد لي أن يد الله كانت مع الثائرين، وصديقي السوري الذي كان ضد الثورة في أولها تواصل معي لاحقا لمظاهرات مؤيدة للثورة وأخبرني أن أخاه يعمل مع تنسيقيات الثورة.

هكذا وفي أيام معدودة دخلت عقول الناس الأفكار التي كانت منبوذة وغريبة حتى وقت قريب، وصارت الجماهير لأول مرة تشكك في شرعية الأنظمة وتتساءل لماذا أصلا هم هؤلاء من يحكمنا؟ من أتى بهم للحكم؟ من فوضهم تدبير أمورنا ومن أعطاهم الحق في احتكار البلد تحت عائلاتهم ومن سمح لهم بأن يتوارثوا ويورثوا ثروات بلادنا وممتلكاتها ومقدراتها؟

سقطت هذه الأنظمة حين سقطت شرعيتها الهشة، ما أن سقطت شرعيتها في القلوب حتى بدأت تتهاوى على أرض الواقع، لاحظ أن تاريخ هرب بن علي هو 14 يناير وتاريخ قيام الثورة السورية هو 15 مارس. ستون يومًا فقط كانت كفيلة بإحداث تغيير لم تحدثه الـ 60 عاما الماضية.

رئيس تونس منذ ربع قرن تقريبا هرب، ورئيس مصر منذ ثلاثة عقود سقط ويعرض أمام المحكمة، ورئيس ليبيا منذ أكثر من أربعين عامًا قتل، ورئيس اليمن الشمالي منذ 1978 واليمن الموحد منذ 1990 سقط وانتهى حكمه، نظام الأسد القابع على كاهل سوريا منذ 1971 يترنح. عرش آل خليفة اهتز أول مرة بهذا العنف، عمر البشير يعلن أنه لن يترشح لولاية أخرى وكذلك فعل نوري المالكي، سلطان عمان يدخل تعديلات وزارية ويعطي البرلمان سلطة استجواب بعض هؤلاء الوزراء أول مرة، بعض المتظاهرين في أحداث عمان (وأحدهم اعتقل كذلك) صاروا أعضاء في البرلمان، ملك المغرب يجري تعديلات دستورية والمعارضة تنجح في الانتخابات البرلمانية، ملك الأردن يجري إصلاحات ما تزال مستمرة وقام بحل الحكومة مرتين، حكومة الكويت سقطت وسقط رئيس الوزراء وها هو مطلوب للمساءلة الآن بشأن الفساد المالي، الجزائر تلغي قانون الطوارئ وهي على وشك عقد الانتخابات المثيرة للجدل، مظاهرات جيبوتي تجبر الرئيس على طرح انتخابات رئاسية جديدة، مظاهرات في موريتانيا والصحراء الغربية، الإمارات تعتقل مواطنين طالبوا بالإصلاح وتسحب جنسيات آخرين وفي نفس الوقت ترفع من نسبة المشاركة السياسية بشكل طفيف، قطر تعلن أنها ستفتتح ولأول مرة برلمانا منتخبًا، مظاهرات في لبنان تنادي بـ”إسقاط النظام الطائفي”، وأحداث مشابهة انطلقت في ماليزيا وأندونيسيا وانطلقت حركات في أميركا والعالم الغربي تحت شعار “احتلوا”، مظاهرات عارمة في روسيا ومحدودة ولكن شجاعة في الصين، سقوط الحكومة الرومانية على وقع الاحتجاجات قبل أسابيع قليلة وكذلك حكومة جزر المالديف. إن الأنظمة العربية التي لم تتعظ مما أحداث 2011 وما تلاها لن تتعظ بعدها أبدًا إلا في نفسها.

إلا أننا يجب ألا ننجرف بالعاطفة في النظر لعام 2011، لم تكن الثورات العربية ملائكية ولم تخل من أخطاء وجرائم ارتكبت باسم الحرية (خصوصا في ليبيا)، ولا يجب علينا تقديس التجربة بل التعلم منها ونقدها وتطويرها لأنه من الوارد أن نشهد قريبا موجة ثانية من هذه الثورات.

وقد كانت الخسارة الكبرى في الربيع العربي هي الخسارة في الأرواح، آلاف الشهداء الذين سقطوا وأضعافهم من الجرحى والأسرى، وهي الخسارة التي لابد أن يتعلم منها الشباب العربي وأن يحاول إيجاد حلول وطرق مبتكرة لحقن مزيد من الدماء، رغم أنها ليست مسؤوليته بقدر ما هي مسؤولية هذه الأنظمة الجائرة.

وكان الدرس الثاني يقول بأنه كلما تطور الحراك المجتمعي السياسي السابق للثورة كانت الثورة أنجح، فالثورة التونسية والمصرية كانتا الأنضج والسبب على الأغلب هو وجود إرث لا بأس به من أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني وإعلام أكثر حرية من غيره وحراك ثقافي متنوع ووجود مثقفين مستقلين غير مرتبطين بالقوى التقليدية أو بالنظام ولا يقومون بالاستقواء به ضد خصومهم الفكريين.

وكان الدرس الثالث يقول بأن معارضة النظام السياسي يجب أن تكون وطنية عابرة للتقسيمات الموجودة في المجتمع، فالمعارضة البحرينية واجهت مشكلة التقسيم الطائفي للمجتمع رغم مطالبها العادلة، ففشلت في اجتذاب الشارع السني الذي يمثل تقريبا نصف سكان البحرين وصارت الثورة الوحيدة التي بعد عام كامل لم تخترق التقسيمات المجتمعية، على حين المعارضة اليمنية واجهت أشكالا من التقسيم الطائفي والجهوي (شمال/جنوب) والمعارضة الليبيبة أيضا تواجه أشكالا من التقسيم المناطقي والقبلي، وتواجه الثورة السورية حاليا أشكال من التقسيم الطائفي، وعلى هذه الثورات مهمة اختراق هذه التقسيمات ومحاولة خلق الإجماع الوطني وبناء الثقة المتبادلة بين التقسيمات المجتمعية المختلفة، رغم إيماننا الكامل بأن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق النظام، ولكننا مدركون مسبقا أن هذه الأنظمة لا تسعى لحل المشاكل المجتمعية هذه بل ربما تشعلها وتستثمرها كي ينشغل الشعب عن مقاومة الظلم والاستبداد بمقاومة بعضه بعضا.

لقد كان عام 2011 هو عام تحرر العقول قبل أن يكون عام تحرير الأوطان، ومعركة تحرير العقول من خرافات الاستبداد هي معركة في غاية الأهمية، لكننا لن ننسى أنها أيضا لا تعدو عن كونها المعركة الأولى في سلسلة طويلة من النضال القادم.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق