ماذا عن الربيع الفقهي؟

الكاتب:

27 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

حينما وضعت الأصفاد في يدي شيخ الإسلام ابن تيمية وقيد إلى السجن عام 720 هـ، لم يكن الشيخ مجرما ولا خارجا على السلطان، كل ما في الأمر أنه أفتى بمسألة فقهية كانت مخالفة للرأي الشائع في ذلك العصر، هذه الحادثة تبدو بسيطة وغريبة حينما نقرأها بمعزل عن الصراعات الدائرة في ذلك المجتمع، إذ كيف يسجن عالم لأجل مسألة فقهية تتعلق بالطلاق؟ ألم يسع علماء ذلك العصر أن يردوا عليه ويبينوا خطأه وتنتهي الحكاية؟ ليست بتلك البساطة، حتى نفهم تفسير هذه الحكاية لابد أن نعود إلى ذلك المجتمع ونعيش تفاصيله، ونعرف الأفكار التي صاغت ذلك المجتمع حتى أصبح حادا في التعاطي مع الآراء المخالفة.

 إن ثمة مسائل فقهية ضُخمت في عصر شيخ الإسلام حتى أصبحت من المسلمات التي لا تقبل الخلاف، وحينما أفتى شيخ الإسلام خلافا للفتوى الدارجة، كانت فتواه في نظر الكثيرين شاذة وخارقة للإجماع، فكانت نهايته أن يقاد إلى السجن، لست مهتما بمناقشة تلك الفتوى وأدلتها، إذ إن كثيرا من الآراء تُقبل وترفض بتغير الزمان والمكان، حتى هذه الفتوى التي كانت تعد شاذة وخارقة للإجماع في عصر شيخ الإسلام، دارت رحى الأيام فأصبحت اختيار كثير من العلماء في زمننا المعاصر.

 لنتجاوز تلك الفتوى ونسأل السؤال الأهم: كيف صيغ المجتمع على رأي واحد حتى أصبح لا يقبل الآراء المخالفة؟ ماذا عن مشهدنا المعاصر هل لدينا قبول للآراء المخالفة المعتبرة؟ أم أننا نعيش في حقبة ليست بعيدة عن حقبة شيخ الإسلام في التعامل مع مسائل الخلاف؟ دعوني ألتقط مشاهد ثلاثة من واقعنا المعاصر، وأضرب لها أمثلة فقهية لبعض علماء هذا المجتمع.

 لعلها تجيب عن تلك التساؤلات :

 

المشهد الأول : صوتا التحريم والتحليل، أيهما أقوى ؟

في مجتمعنا ثمة معركة غير معتدلة في مسائل الخلافات الفقهية، إذ لو انقسم الفقهاء في مسألة ما إلى مجيز ومحرم، فإن فتوى التحريم ستنتشر في أوساط المجتمع أكثر من الطرف المقابل، لا لأن أدلة التحريم أقوى من غيرها بل لأن إنكار المنكر ارتبط ارتباطا وثيقا بفتاوى التحريم، فأصبح المناصرون لفتاوى التحريم  يسعون جاهدين لنشر فتواهم وتحذير الناس ونصحهم والإنكار عليهم، أما الطرف الأخر- الطرف المجيز- فسوف يؤمن بفتواه وكفى.

هذا الصراع غير المتكافئ مع طول الزمن يجعل أحد الطرفين هو الرأي الشائع والمعتبر، وما عداه لدى عامة الناس من الأقوال الضعيفة المطروحة.

لنأخذ مسألة “الإسبال” أنموذجا.

يفتح المجتمع عينيه في  الصباح على فتاوى التحريم في كل مكان، في المدرسة حين يدرس الطالب، ومع المصلي حين يذهب إلى المسجد، وفي نبرات أصوات المحتسبين ومريدي الأجر، وبين أسطر النشرات التي توزع هنا وهناك، وحين يغلق المجتمع عينيه في المساء، يكاد يوقن الجميع حينها أن الإسبال من المحرمات بل من الكبائر التي يجب الحذر والحيطة منها، حتى أصبح من الأمور المسلمة لدى معظم الناس، أن طول الثوب وقصره من أهم المعايير التي يحتكمون إليها للحكم على الآخرين بالصلاح من عدمه.

وحين نفتش أكثر، نفاجأ أن جملة من علماء المجتمع ذاته يفتون بأن الإسبال بلا كبرياء ليس محرما، فضلا أن يكون حدا فاصلا بين الانحراف والاستقامة، الشيخ البليهي مثلا والشيخان سليمان الماجد وخالد المصلح وغيرهم يفتون بعدم حرمة الإسبال بلا خيلاء، يقول الشيخ المصلح: ” فذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم إلى أن المحرم من الإسبال ما كان للخيلاء والبطر، وأما ما كان لغير ذلك فمنهم من قال بكراهته ومنهم من قال بإباحته… والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور أقرب للصواب، ويقول الشيخ الماجد: ” ولهذا فإن الأرجح دليلا وتعليلا أنه يحرم من الإسبال ما كان لخيلاء، ولا يحرم ما كان لغير ذلك وهو قول الجمهور”.

صوت المجيز إذن ليس صوتا ضعيفا أو شاذا، بل هو صوت معتبر عليه “جمهور العلماء”، لكن هذا الكم الهائل من العلماء لم يشفع لهذا الرأي أن ينتشر، ليس لضعفٍ فيه،  بل لأن الميزان لدى المجتمع غير معتدل، والجهد المبذول في نشر فتوى التحريم أقوى من جهد المجيز، إن كان للمجيز جهد.

 

ضغط العامة:

الحديث عن العامة وأثرهم في العلماء هو حديث قديم، واجه معه العلماء هجوما شرسا حين خرجوا على الرأي السائد والدارج عندهم، لأن التغيير لا تقواه نفوس البسطاء، يخشون التجديد، ويسعون جاهدين أن يبقى الأمر على ما ورثوه، وفي المشهد المعاصر نأخذ حادثة الشيخ عائض القرني أنموذجا حين سئل عن الحجاب وحكمه، أفتى حينها أن ثمة علماء معتبرين أجازوا كشف الوجه ولهم أدلتهم القوية. انتهى حديثه

 لكن العاصفة التي أعقبت كلامه لم تنته بعد، ثارت ثائرة الكثيرين، طاردوه وألبوا عليه، حتى ضعف الشيخ أمام تلك العاصفة فقدم استقالته من المشهد ومضى، وأعلن أنه سيلزم بيته إذ لا طاقة له بمواجهة ذلك الطوفان، وكتب حينها قصيدة يرثي فيها ما واجه، وكان مما قال :

قلنا لهم هذه الأشياءُ حلَّلَها ** أبو حنيفة بل سُقنا البراهينا

 قالوا: خرقتَ لنا الإجماعَ في شبه ** مِن رأيِك الفجِّ بالنكراءِ تأتينا

إن المشكلة لا تبدأ مع صدور الفتوى وثَمَّ ردة الفعل المعاكسة، بل لا بد أن نعود إلى الخلف، إلى سنين ماضية، لنجد حينها أن الفتاوى عندنا تتشابه، والتعددية تكاد تكون معدومة، حتى صيغ المجتمع على رأي أوحد، وأصبح الرأي الفقهي المتداول جزءا من الدين المسلَّم به، فلا يرضى العامة بديلا عنه، أو أن يمس طرفه رأي مخالف غريب.

 

التربية وطول العهد:

في هذا المشهد ليس هناك نصح ولا دعاية، أو تحذير وإنكار كما في قضية الإسبال، وإنما فتوى ينشأ عليها الصغير حتى تكاد تكون من المسلمات عنده في آخر عمره، الشيخ سلمان العودة مثلا أخذ بوجوب الوضوء بعد أكل لحم الإبل في صغره، وكان هذا من المقررات في كافة المستويات في مجتمعنا السعودي كما يقول، حتى إذا ما كبر وقرأ ودرس الأدلة، تبين له أمر مخالف للدارج في مجتمعنا، فأصبح بعدها يؤمن أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء، لكن ضمير الشيخ لم يساعده على ذلك كما يقول، حتى أصبح يشعر حينما يصلي بعد أكل لحم الإبل كما لو أنه صلى بلا وضوء.

مع أن المغيِّر هنا رجلُ علمٍ قرأ الأدلة فآمن بالتغيير، والقضية ليست من القضايا الشائكة المتعلقة بالعقيدة أو الأصول، إلا أن الشيخ يؤنبه ضميره، ويجد حرجا في أن يصلي بعد أكل لحم الإبل بلا وضوء، دعونا جميعا نتساءل هنا : هذه حالة شيخ، فكيف ستكون حالة العامي البسيط لو أرد أن يتغير بعد طول سنين، وترسخ أمر ما في دينه؟ إنها التربية وقلة الخيارات المطروحة المتاحة لدى المتلقي في مقتبل العمر، حتى إذا ما كبر ونشأ على ذلك الرأي، أصبح التغيير مؤنبا للضمير باعثا للقلق وعدم الارتياح.


ماذا بعد

لا بد أن نعترف أننا أمام شريحة ضخمة في المجتمع السعودي تسعى جاهدة أن يبقى الخطاب الفقهي على ما تعودوه، وتؤمن إيمانا جازما أن الاختيارات الفقهية التي نشأت عليها هي جزء من الدين الصالح لكل زمان ومكان، ولهذا فهي تشنع على المخالفين، وترى أن الإفتاء بغير المتداول خروج عن إجماع المجتمع، وبلبلة للرأي السائد.

لكننا في المقابل لا بد أن نعترف أيضا أن المجتمع السعودي لم يعد مغلقا كما كان، وأن الخطابات الشرعية لم تعد تصنع محليا فقط، وأن التغييرات التي كانت تحصل للمجتمعات في عقود طويلة أصبحت تحصل في سنوات معدودة، ولهذا فقد نشأت شريحة أخرى شابة ترى أن الخطاب الفقهي المحلي لم يواكب تلك التغيرات، وتؤمن أن رفع سقف التحريم والتشنيع على المخالفين ليس كافيا للتمسك بتعاليم الدين، بل هي تبحث عن خطاب إقناعي يلامس واقعها أكثر من خطاب يسرد أحكاما شرعية.

هذه الشريحة الناشئة هي التي ستنمو مع الزمن، لأن المجتمعات كلها وليس المجتمع السعودي وحده تتجه إلى الانفتاح أكثر، وإلى تعدد مصادر التلقي، ولهذا فهي في لحظة انتظار أكثر من أي وقت مضى إلى فقهاء من الداخل يقتربون منها أكثر، ويرفعون أصواتهم بآرائهم، حتى وإن كانت مقلقة للعامة أو مزعجة لعلماء آخرين، دام أنهم استندوا على معتضد شرعي، ولم يبتدعوا رأيا أو يخرقوا إجماعا، فالهروب من المشهد كما فعل الشيخ القرني لا يحل المشكلة، والهمس بالفتوى بعيدا عن أذن العامة ليس حلا كذلك، يقول الذهبي عن شيخ الإسلام :

“،لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرّ الذي أدّاه إليه اجتهاده”.

كان في استطاعة شيخ الإسلام ألا يذهب إلى السجن لو أنه تهيب وأحجم كما أحجم غيره، لكنه حتى في مسألة الطلاق، قال الحق الذي أدى إليه اجتهاده و “جسر هو عليها”.   

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق