حمزة مذبوحًا

الكاتب:

21 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

أعترف أني تفحصت مآقي الشيخ، أني كبرت الصورة ولم أرَ رطوبة، لقد انتحب الشيخ مباشرة، ابتدأ بما ينتهي البكاء به، انتحب قبل مراحل البكاء، قبل أخذ الأنفاس والحشرجة ومدافعة البكاء وأدمعه. الشيخ الباكي، مكسور القلب، بعد لحظات يصبح مرعدا، ويطلب الدم والثأر، الشيخ الباكي، عتيد المشيخة وصنوف العلم، كثرها خلف رأسه، أخطأ الاستشهاد، أراد أن يستدرجنا لما يريد هو. إن الفتى حمزة ليس هو مترف القرية، التي إذا أفسد فيها سيدمرها الرب تدميرا، إن فساد حمزة وتخرصاته وتهويماته وفلسفاته، إن تغريدة حمزة بليْل، الغامضة والركيكة قليلا، لا تدمر قرى ولا تجلب كسوفا، حمزة الذي يرتدي “شورتا” في محفل مثقفين (أشهرَ صورته لمتابعيه شيخٌ آخر، ولم يكن ذلك الحد من القصر “شورتا” كما أطلق الشيخ) لا يملك ولا يحوز كمية فسق يحق بها قول الدمار على البلاد. 

“يرسل الله تعالى الرسل لعبادته وحده، ونشر شرائع رفع الظلم والتجبر وإسقاط الطواغيت”. هذه معلومة من كتاب التوحيد المدرسي، وفرك إذن كل من نسي، وانقلب سيفا ولسانا قذرا، يعمل بعقيدة لفّقه وحده، أو لقنها إياه شيخه، وحصر وجوده في مطاردة زلة ونبوَة، في إضبارة مغبرّة، أو تغريدةٍ غارقة، متعهدا أخطاء الآخرين، متمنّيا سحقهم، متخيلا سحلهم، باسم الرب ورسوله. الله في عليائه، والرسول في قدسيته وعظمته، لا يضرهما هزء هازئ، وشتم شاتم، هذا الرسول العظيم، ألفت الكتب في قدحه وامتهانه، عقدت المشاريع والخطط، جاء لمحو سيرته المبشرون والجيوش، على مر الأزمان، ومختلف الأجناس والأديان، ذهبت كلها، لم يبق منه، غير ما جاء به كله: “رحمة للعالمين”. طيّب وجليل أن تغضب لمحمد بكل هذا القدر، لكن محمدا الكريم عفا عن تهم جنونه وكذبه وسحره، لم تبدُ له مهمة إزاء الرسالة الجليلة التي جاء من أجلها، وليقيم قيمها، من محكمات مثبتات، لا يعرف الناس مهجيّة كعب بن زهير الأولى، لكنهم يذكرون بحبّ خريدة “بانت سعادُ” التالية. لكن لا أحد يلتفت للأشياء الأخرى من المحكمات بجدية، التي حدثت في أيام حمزة:

جوزاء، هل تعرفون جوزاء؟ جوزاء التي حزنتم لأجلها ذات مرة، تموت اليوم لأنها لم تجد سريرا، لقد وعدها أمير ونسي، لقد ظل والد جوزاء أسبوعين ينتظر الوعد، ولأن الوعد من ملحقات الكلام فإنه تبخر، فكان مصير جوزاء أن تموت، الوطن لا يتسع لسرير وأمل.

غازي الحربي، هل تعرفون غازي الحربي؟ أنا لا أعرف غازي الحربي، غازي الحربي يخرج اليوم من سجنه، بعد مكث دام سبع سنوات، في الأخير قال له القاضي: أوه يا غازي، أنت من المفترض ألا تسجن أكثر من سنة ونصف.

هادي آل مطيف، هل تعرفون هادي آل مطيف؟ ربما لا، لكن أنا أعرف هادي آل مطيف، هادي آل مطيف يخرج اليوم من سجنه، بعد سجن دام ثمانية عشر عاما، لأجل مزحة، ليس من الصدف التي تجلب ابتساما ودهشة أن يكون هادي سُجن قدر سنوات عمره قبل السجن. لقد نام القاضي على ملفه هذه المرة. وجاءت الجريدة بخبر خروجه كحفلة امتنان كبيرة.

لا أحد يعرف سرّ خرافة هذا المجتمع النائم، الذي يستيقظ فجأة، ويشحن بعضه ضد بعضه، كما لو كان معركة، الأدهى أن يتم ذلك كله باسم الله وأدلته، كل منهم خلفه شيخه المُوقّع عن الربّ ليثبت أن الذبح أولى بالأضحية.

 في الوسوم العديدة التي تناولت هذه القضية، دعوة لعلماء اللاهوت، وخبراء الاجتماع، ومحللي علم النفس البشرية، تفسير ما حدث ويحدث، توضيح كمية البربرية التي سادت وتسود، مَن أطرافها، مَن أربابها، مَن حدّ ويحدّ السكاكين من خلف الجميع؟، أن ينقبوا، أن يبحثوا، ما السبب الذي يجعل شابا عاطلا من غرفته، لا يزاول العالم كما يزاوله مثيل له في جغرافية قريبة، ولا يأخذ أحدٌ رأيه، أن يكتب، وهو ربما يرشف حمضيات: “نحن لا نرضى بغير قصّه”. أن فتاة ربما انتهت قبل قليل من محادثة مع قرينتها حول المسلسل التركي تصرّ: “لا تكثروا كلام، طيّروا رقبته وانتهينا”. أن دكتورا بشهادة رفيعة يحرض الجميع: “هيا ننبش القديم، هذا وقت القصاص” فيأتيه أتباعه بأطباق من الكلام المنحرف، لم يقرؤه ولم ينتبه إليه أحد.

حمزة لم يسبّ ولم يشتم، كاذب من يقول أنه فور قراءة التغريدات، اشتمّ روائح الحقد والكره والكفر بالنبي الكريم، كان الأسلوب أدبيّا، وهو الأكثر مظنة خيانة للتعبير والتأويل، ستأنف من بعض التعبيرات، ولن تعجبك، ستستغرب صدور هذا منه، ستقول أنها غير محترمة مع جنابه الكريم، لكنك لن تقول من هذه الأوجه أنه كافر، طالما أن هناك تسعة وتسعين وجها للإيمان. ليَكنْ، الفتى تاب وتراجع، وانقلب متدينا صادقا في بيانه. ولم يضر أحدا وينهبه، لم يشوه دينه ويحرفه، ولم يؤلب ضده، ليس هناك إثباتٌ مرئيٌّ بأذى وظلم لحق بشيء جراء قوله، كان حديثه فردانيا متخيلا، لما يمكن أن يقوله إذا التقى نبيه. ليَكنْ مرة أخرى. ماذا يريد من ما زال يتحرق للدم، ماذا عن الأوجه واللحى التي لم نرها سوى في هذه القضية وتشحن قلوب الناس، وتجيّش العواطف، وتذكر بزلات السابقين الأولين. ماذا عن الذي لم يتعلم قواعد الإملاء بعد، والكلام البشري المفهوم، ويقول للناس هبوا ولو مرة واحدة من أجل دينكم، إن عقاب السماء حالّ بكم، لو لم تتحركوا. ويخاف علينا منه. ليكنْ حمزة زنديقا في رأيه – وهو غير مهم على كل حال ولا يؤخذ به إلا تندرا – لكن بدت اللقطة “الشوارعية” الأجمل للعنصرية والفجاجة: “حمزة ليس من أهل هذه البلاد”. قد تغفر العنصرية السابقة لأنها جاءت من متهتك أموال، لكن ماذا إذا جاءت من شيخ مستشيخ، ومريده المستعلي، سليلو أدلة الأخلاق الحسنة ونبذ الجوانب الفظة الغليظة، في باقعة لم تؤخذ كدويّ الباقعة، قال: اشتموا حمزة بما تحبون، عيروه بأصله المنحط عنكم، ذكروه ببلدته البعيدة، وأي شيء يطرأ في أذهانكم، فأنتم تنصرون محمد. هاتوا أوساخ العرقية وأدران نفوسكم، واخلطوها مع غضبتكم الإسلامية، فلا بأس بذلك، كما رأى الشيخ. النبي محمد الذي قرّب الرومي، واستمع للفارسي، وأثنى على الحبشي، وتبنى مجهول النسب، يظهر الآن أن نصرته بضرب تعاليمه على حائط التعصب. في تمثيل آخر، أحبّ آخر أن يفضح آخر، قبل أن يشرع في سرد شبهة ثقافته وانحرافها، بدأ بأنه أصلا من اليمن، ليذكر بأن هذا الآخّر آخَر فعلا. لعل درس بلاغة “التقديم والتأخير” يقول في هذا الكثير.

حمزة ليس طريدتكم، وحين تتحقق أمنيتكم ويموت، لن تشعروا بالراحة، وتناموا بسلام، بؤسكم سيبقى، وأمراضكم ماثلة، مشاكلكم لن تنتهي، لن تتقدموا شبرا، ولن تصلّوا بخشوع وتصِلوا إلى قلوبكم، ليس عملا جليلا أن تتكئوا بعد كدحكم هذا، وتتمتوا: “الحمد لله الذي يسر لنا ذبحنا هذا، وما كنا له غافرين”. وتنظروا إلى صنيعكم بإعجاب زاهد. لفوضاكم، تبقى عبارة أخيرة: حمزة النحيل، قوامه وجيوبه، مقبوض عليه الآن، أسرع بكثير من الذين أغرقوا بشرًا وحيوانات وسيارات وطرقات جدة – مثلا، أجزم لكم أن صدور أولئك كانت تطفو فيها تعاليم محمد بكل وضوح. 

بعد حرب الشوارع هذه: اكشفْ عني فضيحة، وسأطلق عليك فضيحتين، سطّر عني مبالغة، وسأفجر عليك كذبات. هذه الحرب التي تتمّ باسم الثقافة، تياراتها ورموزها، والوقت المستقطع لها في حياتنا، نحتاج بعدها، بعيدا عنها إلى تفحّصنا، إلى قراءتنا أكثر، إلى تعليمنا وتعلّمنا، هذا الذي يدور، يحكي الكثير عن خرافات وأساطير نعتقدها، العلم الذي تعلمناه ووهميّة منشآته، والدين الذي نزعمنا أفضل معتنقيه. مصباحُ الثقافة المكسور، رشقهُ الصبية، ولم يتولّ الكبار إنارته. إننا نحتاج بشدة إلى اصطفاف إنساني حضاري، من أجل القضايا العادلة. 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق