التعاطي الإعلامي مع الهيئة وتزييف الوعي

الكاتب:

8 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

ما إن أوشكنا على تنفس الصعداء ونحن نلمح معركة “ذات الملتقى” تكاد تلملم أطرافها وغبارها  لتغادر مشهدنا الثقافي – بخصوصيته العجائبية المتفردة- حتى دخل المشهد بقضه وقضيضه ومقالاته وبرامجه الحوارية في معترك جدلية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بعيد تعيين الشيخ “عبد اللطيف آل الشيخ” على سدة رئاستها. فمِن مهلل ومستبشر بالرئيس الجديد ومتفائل بأطروحاته المعتدلة، ومؤمل فيما يمكن أن يجترحه من إصلاحات في إدارة الجهاز وآليات تعامله مع أفراد المجتمع ! إلى مغازل للوعي الجمعي الذي اُستلِب واُختطِف ليوحد بين وجود جهاز الهيئة – بشكله القمعي الحالي، والمحصور في دوائر الشكلانية الصرفة وتفاصيل اللباس والعلاقات بين الجنسين- وبين الدين نفسه وتعاليم الشريعة ذاتها !.. رابطا وقارنا بين الفضيلة نفسها كقيمة وسلوك فاعل في الممارسات المجتمعية بوجود جهاز الهيئة ! فلولاه لدكت قلاع الفضيلة وانهارت القيم وتهاوت منظومة الأخلاق ! ومنهم مَن يتجاوز متأليًّا على ضمائر العباد، شاهرا اتهامات النفاق ومرض القلوب والرغبة في إفساد المجتمع على المحاربين للهيئة كما يزعم الكاتب، وذلك بعناوين فاقعة على شاكلة ” لماذا هم خائفون من الهيئة ؟!”؛ ليقوم الكاتب بتحليل نفسي “جهبذي” لسيكولوجية أولئك الممانعين الرافضين لوجود الهيئة، مؤكدًا أن كل أخطاء الهيئة اجتهادات فردية فلكل جهاز حكومي أخطاؤه، والأخطاء لا تستدعي الإلغاء بل الإصلاح، فلا يعني وجود الأخطاء الطبية القاتلة في القطاع الطبي إلغاءه، وذلك في ربط سقيم وتدليل عار من المنطق! فيما تدفقت الرسائل على رئيس الهيئة الجديد من كل حدب وصوب  تسأله الإصلاح والتطوير والحدّ من أخطاء المحتسبين وحسن التعامل تارة، أو تدلل على نياته الإصلاحية بكف أيدي المتعاونين مع جهاز الهيئة طامحةً في المزيد تارة أخرى، وصولا إلى مطالب تقنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحرير عمل الهيئة من السلطوية ومراقبة الناس ومحاكمتهم والتعامل معهم بالعنف والترهيب، وقد يرتفع سقف المطالب تارة أخرى ليصل إلى منع منسوبي الهيئة من الدخول للأماكن العامة!

 أما الأقلام الأكثر صراحة التي تحاول نقض وتفنيد فكرة “جبرية” الفضيلة وفرضها، واختزالها في جسد المرأة والعلاقات بين الجنسين، وطوباوية واستحالة الفكرة الأخرى الموازية لها بإمكانية “حراسة الفضيلة “، لا تستطيع التحرك إلا في حدود الأطر”الرقابية” الضيقة جدًّا والمسيجة داخل قضبان المنع والحظر والمسلط عليها أبدا سيف المنع من النشر؛ التي يعلمها جيدا كل من يتعاطى الكتابة اليوم في صحفنا! فتمارس تلك الأقلام النقد على استحياء تارة، أوالمواربة والتحايل وتضمين المعاني بين السطور تارة أخرى، في قطيعة “إجبارية ” مع البعد السياسي للقضية، رغم الدعم المالي السخي الذي تدفق على جهاز الهيئة بعيد ثورة “حنين” المزعومة! في حين تحاول قليل من الأقلام الجريئة الحفر عميقا وتفكيك أبعاد مفهوم الحسبة ومضامينها بشكله الحالي، ومفارقة تلك المضامين لجوهر الحسبة الحقيقي في الإسلام، مضمنة نقدها للسياسي ما بين متن الكلام وثناياه، ولكنها لا تستطيع الإيغال بعيدا لتصل إلى رفض “حوكمة” و”عسكرة”  الهيئة، وقد تلمح ولكنها لا تستطيع التصريح بقيام السياسي بتفريغ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مضامينه المدنية، وثَمَّ الالتفاف عليه ومحاصرته داخل أطر الشكلانيات بعيدا عن الحيز العام، واستلابه من بعده الحقوقي السياسي، وإبعاده عن المطالبة بالمساءلة ورفع الجور وسن القوانين، كما كتب الأستاذ “أحمد الجنيدل” في مقالته الوافية في منبر” المقال” الحر بعنوان “الهيئة ومشروع مؤسسة المجتمع المدني المجهض”.

والإشكالية الحقيقية أن جل الكتابات النقدية عن الهيئة تسهم -سواء بوعي أو دون وعي– بالتأصيل للهيئة بصفتها مؤسسة “حكومية” ومباركتها من حيث تريد النقد أو النقض! فالمطالبة بالتطوير والحدّ من فجاجة  بعض منسوبي الهيئة وشراستهم وتعداد أخطائهم المتكررة والمطالبة بمحاسبتهم، وبتقنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضمن الإقرار والقبول، وثَمَّ المباركة مع شرطية التطوير والإصلاح! فيما تنحرف بعض الكتابات النقدية لتمارس التملق والمداهنة فتصف جهاز الهيئة: بالجهاز الحكومي المؤثر بشدة في رسم خارطة الطريق الاجتماعية لهذه الأمة! وتقدم لنقدها ممارسات رجال الهيئة وأخطائهم بعبارات لا تخلو من المجاملة والتزييف الممجوج : ”إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمسك بأطراف ومفاصل النمو والتطور الاجتماعي الشعبي في المملكة العربية السعودية، تقوده إلى الأمام إن أحسنت أداء رسالتها وتعتقل نموه إن جانبت الصواب..!”

فيما يُقدم تحقيق صحفي عن الهيئة بجريدة “الرياض” يتحدث عن التطوير والإصلاح المرتقب مع قدوم الرئيس الجديد بعبارة: “لا أحد ينكر أهمية جهاز الحسبة ودوره في المجتمع والنجاحات التي حققها في حفظ الضرورات الخمس”، ليُرسَّخ ويُؤكَّد دور الهيئة بوصفه مؤسسة “حكومية” تراقب باقي المؤسسات وتتدخل في صلاحياتها وأعمالها، وتمارس قمعها للحريات الفردية والتدخل في خصوصيات العباد! وهكذا تهدر قيمة الفرد بصفته إنسانا فاعلا؛ حمله الله تعالى الأمانة وزينه بالعقل وشرفه بالحرية والقدرة على الاختيار بين الخير والشر، ليصبح مرتهنًا للوصاية التي تهمين بقبضتها على كافة مناحي حياته، وهكذا أيضا تُلغى وتهمش قيمة المسؤولية الفردية للإنسان ورقابته الذاتية على أفعاله رغم أهميتها ومحوريتها في الإسلام!

والإشكالية الأبعد والأخطر تأثيرا تتجسد في أن جلّ تلك الكتابات تسهم في تزييف الوعي وشرذمة المجتمع وتقسيمه لفسطاطي مع وضد، وتدخله في جدليات عقيمة؛ وذلك بتسطيح القضية واقتطاعها من السياق السياسي وزرعها في سياق اجتماعي منفصل بذاته، مما يكرس لتحويل القضية إلى صراع مجتمعي بين حزب المعارضين وحزب المشجعين، ونظرة واحدة على التعليقات التفاعلية لمقالة عن الهيئة تأتيك بالخبر اليقين.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق