مأزق المصطلحات السياسية الدائرة في الأوساط الثقافية

الكاتب:

30 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

إن قضية ضبط المصطلح من أخطر القضايا المعرفية، كونها حجر أساس لانطلاق بناء المعرفة الجدلية، والنقاشات العلمية، في مختلف العلوم النظرية والعملية.
فهي بمنزلة أرض ذات قرار ينبت فيها الحوار بين الرأي والرأي المناقض إلى فضاء التلاحم الثقافي، وشجرة التواصل المنهجي المتعافي من الشوائب، وسوء الفهم، واختلاط الحابل بالنابل.
وسنسلط الضوء في مقالنا هذا على واقع المصطلح السياسي الثقافي القلق غير مدعين تحريره بل في محاولة لتوجيه الوعي إلى مظنة المشكلة الكبرى، وقد ننعتها بأم الباب في الحقل السياسي المتأزم في بلدنا.

بداءة نشير إلى كون الميدان السياسي في البلاد العربية عامة وفي بلدنا خاصة يضج بهذه الفوضى غير الخلاقة بين أطياف المجتمع؛ الشيء الذي يفضي إلى حرب بسوس فكرية لا تنقضي، ومعارك جدلية تُدار رحاها خبط عشواء.
ولعل ذلك يُعزا إلى أس المشكل في استيراد المصطلحات السياسة مغلفة بما تحمله من مرجعية من المجتمعات الغربية المختلفة ديناميتها البنيوية والأيدلوجية والثقافية عن تركيبة المجتمع العربي، مما يضعها في موقف حرج ومحاولة لَيِّ عنقها، كلٌّ حسب أهوائه الفردية ومعاييره غير القاعدية.

وفي ذلك يقول الدكتور عمارة في كتابه معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام: “إذا نظرنا إلى المصطلحات من زاوية “المضامين” التي توضع في أوعيتها ومن حيث الرسائل الفكرية التي حملتها “الأدوات: المصطلحات” فسنكون بحاجة ماسة وشديدة إلى ضبط المصطلح؛ لأننا سوف نجد أنفسنا أمام “أوعية” عامة وأدوات مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية، وفى ذات الوقت أمام “مضامين” خاصة ورسائل متميزة تختلف فيها وتتميز بها هذه الأوعية العامة والأدوات المشتركة لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة”.

ويتحدث د.مسفر القحطاني في مقالة بعنوان: “أزمة تحرير المصطلحات” قائلا: (والمشهد الثقافي اليوم يكاد يعشى عن إدراك الحاجة لتحرير المصطلحات وضبط مفاهيمها على وجه التحديد؛ مما أدّى إلى صراعات فكرية، وردود شخصية ملأت ميادين الصحافة والإعلام الفضائي، زاد من سعارها أنها أخذت الطابع المقدس في السجال، كما هي في أزمة الدولة الإسلامية هل هي دينية أم مدنية؟!) .

فمصطلحات نحو ليبرالية، وسلفية، ويسارية، ويمينية، وإصلاح، وديمقراطية، وحرية، وحداثة… وغيرها تُساس بصفتها أدواتٍ لتحريك اللغة السياسية لدينا، في شكلها غير المنضبط ألبتة، بل أزعم أننا لن نقف على حد نتصافح فيه متفقين على دلالة كل منها علاوة على ممارستنا السلوك الجدلي لا الإصلاحي في معطياتها.

وكأني ببعض الشخوص التي تدعي احتكار الرؤية الإصلاحية تركن نفسها إلى زئبقية المصطلح، وعمومية دلالته، لئلا تُحاكم بواسطة ميزان مستو يكشف عن ضآلة معاولها، وبضاعتها المزجاة.
فيتشدق باليسارية مثلا وهو لا يفقه في تشريعاتها من شيء غير مسمى هرع إليه، ليتخذ له موقعا من المشهد السياسي كيفما اتفق، وهؤلاء المتطفلون على المصطلح يحدثون جعجعة دون أن نرى طحينا نصلح به الواقع السياسي، فيتشاغلون بالصورة عن السلوك الفعلي الذي يروم كل واع إلى تحقيقه، فانتقلت الحال لدينا من فضاء الإصلاح إلى زنزانة المصطلح.

وكان للدكتور عبدالله الغذامي بادرةٌ محمودة في تحرير أحد المصطلحات التي أشبعت مداولة بين رد وقبول في الساحة الثقافية بمحاضرته المعنونة بـ (الليبرالية الموشومة) خلص فيها إلى نفي الليبرالية السعودية برمتها، وتعرية ما يدار باسمها على كونه مشروعا مشتركا بين أطياف المجتمع جمعاء.
وقد كفانا مؤونة الوقوف عليه، فليُرجَع إلى محاضرته الآنف ذكرها للاستزادة، ولو عرجنا إلى مصطلحي اليسارية واليمينية فالأمر ليس بأفضل، كون ولادتهما بادئ ذي بدء انبجست إبان البرلمان الفرنسي، حيث تواضع المتواطئون مع الحكومة المؤيدون للسلطة بتبوء المقاعد على الجهة اليمنى، في حين يقبع المعارضون الداعون إلى التغيير في اليسرى، ثم انسحب المصطلحان بدلالتي التيار المحافظ اليميني والتيار الداعي للتغيير اليساري، هذا بشكل مختزل وإلا فثمة انشقاقات في المصطلح حار في تقنينها من له يد طولى في الممارسة السياسية.

فكيف بها تُستعمل في خضم المجتمع السعودي النامي الذي لم يبلغ مرحلة الفطام السياسي عن هيمنة الدولة وأجهزتها فضلا عن استقلاليته السياسية التي تسنح له بضبط مفاتيح الحوار الإصلاحي بين أطيافه المتعددة.
فبدأ السجال السياسي قصته في بلدنا بداية تراجيدية بتراشق مصطلحي عوضا عن أن يكون محاولة إلى التخلص من مجتمع القبيلة البدائي وتشكيل مجتمع مستقل يدعو إلى دولة الحقوق والمؤسسات ينضوي تحت لوائه أشربة فكرية واضحة أهدافها، لا تتستر بمراهقة سياسية بالانتساب إلى تيارات يروق لهم وهج مسماها؛ دون أن تقدم أجندات جديرة بالقراءة والتطبيق والنقد المنهجي.
فإلى متى التيارات تتعارك في زنزانة المصطلح، والشعب يبحث عن سفينة الإصلاح!

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق