الهيئة ومشروع مؤسسة المجتمع المدني المجهض

الكاتب:

19 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

– مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجردا:

ليس من المستغرب أن يكتب المفكر الأمريكي “مايكل كوك” كتابا ضخما ومترفا بعديد من المصادر والمراجع؛ متحدثًا فيه عن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أتى به الإسلام، فالعالم الغربي حينما ينظر إلى هذا المفهوم ويضعه في سياق حضارته سيحفل به كثيرا، ولذلك كان الكاتب يستنجد بهذا المفهوم؛ ليسد خللا يراه في بنية الثقافة الغربية متمثلا في عدم مساعدة الآخرين والانكفاء على الذات.
هذه النظرة تختلف بشكل كبير عن النظرة التي يراها العالم الإسلامي، وشاهده قبل مدة قصيرة أعلنت جماعة مصرية عن إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضج المجتمع المصري باعتبارها دلالة خطيرة تهدد المكتسبات المصرية بل إن “حزب النور” الحزب السلفي الذي كانت تلك “الهيئة” تنسب نفسها ابنة شرعية له، معربة عن كونها سترحب بانضمامها للحزب ورعايته لها، ذلك الحزب سارع قادته لنفي أي صلة بينهم وبين تلك “الهيئة” بل أكثر من ذلك رأوا أن ربطهم بها محاولة لتشويه صورة الحزب لأغراض انتخابية.
ولعل أسئلة تُدار نحو: متى اكتسب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هذه الدلالة السلبية، ولماذا لم يكن -كما تمنى أن يكونه “مايكل كوك”- سلوكًا يقوم بدور حضاري لبناء المجتمع؟ ومتى تحول إلى تهمة تحاول حتى الأحزاب الإسلامية بل السلفية التخلص منها؟.

إن مشروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزرع في الفرد بذور حتمية وجوده، وتأثيره في الحياة العامة، وبذلك يتقاطع مع مؤسسات المجتمع المدني التي تدعو المواطنين إلى الخروج من الحيز الخاص -العائلة، العمل، الأصدقاء …إلخ- إلى الحيز العام -المطالبة بالمسائلة، الدفاع عن المكتسبات الوطنية، الدعوة إلى مزيد من الحقوق أو سن قوانين …إلخ، فمفهوم مؤسسة المجتمع المدني هو مفهوم المواطنة وكون الإنسان شريكًا في صنع الحياة على هذا الوطن، وله ثقله في التأثير في السياسة ورفع الجور، إن هذا المفهوم هو بعينه مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بشكله الأوسع، وبهذا المعنى السامي فهمه الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو أيضا الدعوة “لحلف الفضول” الذي قال عنه النبي صلى الله عليه (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما).

– حوكمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

من الأشياء اللافتة أن تأسيس “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كان يحقق هدفين للدولة السعودية، أولهما: إضفاء اللمسة الدينية السحرية على النظام السعودي، والآخر: هو محاصرة مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ” بمفهومه الأوسع، فيشير ديفيد كوك إلى ملاحظة مثيرة للاهتمام، مفادها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان في الدولة السعودية الثانية ظاهرا بوضوح أكثر من الدولة السعودية الأولى بل فُرض بصفة رسمية؛ وليفسر ذلك قال: “إن التفسير الأقرب للعقل وهو تغير الظرف التاريخي، فقد باتت الفرص في التوسع محدودة بالنسبة إلى قادة الدولة السعودية الثانية، ولم تعد لفكرة الجهاد ضد الكفار تلك الجاذبية نفسها باعتبارها مبررا لوجود النظام الوهابي، وكيلا تفقد الدولة طابعها الديني كان عليها أن توجه “غيرتها” على الدين إلى الداخل… حلَّ النهي عن المنكر داخل المجتمع الوهابي محل الجهاد على حدوده”.
وفي الدولة السعودية الثالثة كان ذلك الهاجس هو سبب نشوء “الهيئة”، فكان الحفاظ على شكل الدولة الديني مهمًّا جدا، كيف لا وهو مصدر الشرعية لتأسيس الدولة، ولا يغيب عن أذهاننا أن”أخوان من طاع الله” طلبوا من الملك عبدالعزيز أن يستمروا بالجهاد إلى جهة العراق ومقاتلة الإنجليز، فالطابع الديني الذي تضفيه الهيئة إلى مؤسسة الحكم كان هو البديل الضمني لفكرة الجهاد، وتحطيم الأوثان، ومحاربة الشرك التي كانت هي الراية التي رفعتها الدولة السعودية الأولى، وقد نجحت الدولة السعودية الثانية والثالثة في تحقيق هذا الهدف، وأما الهدف الثاني -كما سبق- كان يروم إلى إنشاء جهاز حكومي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمحاصرة المفهوم واختزاله.
فبعد توحيد المملكة العربية السعودية وضم الحجاز تحديدا أدى ذلك إلى وجود كثير من المشادات بين “أتباع دعوة محمد بن عبدالوهاب” وبين أهالي مكة، وحادثة الهجوم على المحمل المصري شهيرة، هذا النوع من المشادات ومع إحراج الحكومة السعودية مع الحكومات الأخرى جعل “حوكمة” -جعلها جهاز حكومي- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلبا ضروريا لكي تكون الدعوة للمعروف تحت مظلة النظام وتتلقى أوامر مباشرة منه، والأهم من ذلك محاصرة نفوذ الأخوان الذين سببوا توترا كبيرا بين أهالي الحجاز والحكومة السعودية، وأيضا لعدم نشوء قوة فاعلة ومؤثرة خارج إطار الحكومة.

عندما تمت “حوكمة” مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبعه بشكل تلقائي إعادة تعريف المنكر الذي يجب نهي الناس عنه، وإعادة صياغة المعروف الذي يجب الدعوة إليه، فـ “المنكر” الذي سينهى عنه قطعا لن يكون ذلك المنكر الموجود في الحكومة التي ينتمي إليها هذا الجهاز، و”المعروف” الذي سيدعى إليه لن يكون بدوره ذلك المعروف الغائب عن الحكومة التي ينتمي إليها هذا الجهاز، فبهذه الخطوة قُصقِص مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأُزيحت أنظاره عن أروقة السلطة كونها هي من تملك الهيئة التي تمثل هذا المفهوم، وأضف إليه إطلاق هذا الجهاز على المجتمع على الرغم من كل الاعتراضات التي صدرت من بعض أبنائه، وكان ذلك ثمنا قليلا، والحكومة مستعدة لدفعه لإبعاد مفهوم “المعروف والمنكر” عن حياضها، فبدل أن يكون المعروف هو المطالبة بالعدل وبتطبيق القوانين وملاحقة الفاسدين اُختزل في ملاحقة فتى عمره 19 سنة أو عامل أجنبي لكي يقوموا للصلاة، وبدل أن يكون المنكر هو المطالبة برفع الظلم ومحاكمة المعتقلين ومراقبة الفساد صار مجرد تتبع شاب خرج مع فتاة، وأمر المرأة بتغطية وجهها!، فالهيئة لم تكتفِ بمنع نفسها من العمل في الحيز العام كما يقتضي ذلك مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ضيقت أيضا على الحيز الخاص، وبعبارة أدق نقول إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -خارج إطار الحكومة- ومؤسسات المجتمع المدني التي تدعو أفرادها للخروج من الحيز الخاص إلى الحيز العام والمشاركة في صنعه أو تغييره، هذا المفهوم عندما تمت حوكمته صار يقتضي العكس تماما، إذ أضحى تسلط الحيز العام على الحيز الخاص .

لقد كان يمكن لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنجب لنا مؤسساتٍ -وليس مؤسسة واحدة- للمجتمع المدني لو شًرِح “المعروف” و”المنكر” بمفهومه الأوسع في المجتمع، ولو أُفهِم أول من قام بهذه المهمة أن ليس كل منكر يجب منعه، ولا كل معروف يتعين وجوده في المجتمع، كما لا يمكن وجوده في “النظام الحاكم”، ولو كان النظام ترك هذا المفهوم يمارس حقه الطبيعي بالتطور التدريجي خارج أسواره، لكان خيرا.
إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أرض خصبة بالإمكان أن تَنبت لنا مؤسسة مستقلة تنسجم مع المجتمع الحديث والدولة الحديثة، ولا تكون مع جهاز تنفيذي آخر بيد السلطة، وبهذا المعنى يجب أن نرد الاعتبار لهذا المفهوم، ولا يسلبه طرفٌ واحد، وبحسب تعريفه القاصر والمشوه.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق