أهم حِراك سعودي في 2011 م: الإضراب

الكاتب:

14 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

بانتهاء العام 2011م، يمكن القول قطعًا أنهُ لم يمرّ برتابة، حتى على “السعودية” على الرغم من كل شيء، ويمكن تجاوز هذا التقرير إلى التساؤل عن أهم حِراكٍ اجتماعي أفرزته أجواءُ العام، وإذا كانت البيانات الإصلاحية وقضية المعتقلين أخذت القدر الأكبر من الاهتمام المُمتد، وقد تطرح نفسها بوصفها أهمّ أحداثه؛ فإن هذه المقالة تجادل حول كون حركة إضراب الموظفين في عدد من المؤسسات الخاصة والحكومية؛ هو الحِراك الاجتماعي الأهم على الإطلاق للعام الماضي في السعودية.

لم تخلُ الأعوام السابقة من مقدّمات ذات طابعِ “عُمّالي”، أبرزها تحركات موظفي وزارة التربية والتعليم ضد الوزارة تبعًا لقضايا متنوعة، لكن العام الماضي يتميز بانتشار رقعة المطالب العُمّالية والإضرابات إلى شركات القطاع الخاص التي لا يُمثل المضربون والمعتصمون بنظرتها مجرد مجموعة من المواطنين الساخطين؛ بل مسألة خسائر مالية تُحتسب لكل ساعة إضراب. أحد مؤشرات أهمية هذا الحدث، أن هذه الكلمة السحرية “الإضراب”، بكل ما تحمله من نكهة الحركات العُمّالية والنقابات؛ عادت إلى التردد مجددا في السعودية بعد أن اختفت منذ العام 1956م، عندما أُدِّبتِ الطبقة العُمّالية الناشئة حديثًا، وخلق هذه السوق السعودية ذات الطبيعة الغريبة والخاصة، من ناحية تتنامى فيها أعداد العاملين في القطاعين الخاص والحكومي بصورة ضخمة، لكنها في نفس الوقت تخلو من أي قياداتٍ أو هيئات تمثل مصالح العمّال في السوق وفي مقدّمة ذلك النقابات، بالطبع.

كان ظهور الحركات العُمّالية في المنطقة الشرقية من المملكة خلال الخمسينيات الميلادية منطقيًّا تمامًا. إذ كانت الطبيعة الاقتصادية القديمة للمجتمع تنحلّ وتتآكل، ويتعلم المجتمع عوضًا عنها لغة اقتصادية جديدة: الشركة، الأنظمة، العقد، الراتب الشهري، الدوام الرسمي، وكانت أعداد العمّال تتزايد، وكانوا يشهدون حالة التمييز بينهم وكبار الموظفين الأجانب في أرامكو، مع سوء ظروف العمل والسكن والغذاء، ووجود بعض الموظفين العرب بما يحملونه من نزوعات أيديولوجية وخبراتٍ عُمّالية قدّمتْ لهم الاقتراح العملي للتعبير عن العواطف والأفكار المجرّدة. تتفق المراجع المختلفة (العوّامي، فاسلييف، كيششيان، الرشيد) على حدوث تحرّكين عماليين رئيسين في العامين 1953م و1956م على التوالي. كان التحرّك العُمّالي الأول عام 53م هو الأكثر تنظيمًا و”عُمّالية”إن جاز التعبير، بحسب وصف سيد علي العوامي. فقد شكّل العمال الساخطون لجنة عُمّالية دخلت في مفاوضات مع الشركة، ووزعوا على باقي العمال منشورات توضح مطالب اللجنة وأخبار المفاوضات، وهددوا بالإضراب العام في حال اعتُقِل أعضاء اللجنة، وهو ما كان، واستمرّ الإضراب قرابة أسبوعين، انتهت برضوخ الشركة لمطالب العمال وإطلاق سراح أعضاء اللجنة (ونفي بعضهم إلى الخارج). وبعد هدنة لثلاثة أعوام عاد العمّال إلى الحركة مجددا، مُتجنّبين هذه المرة تكوين لجنة أو إبراز قيادة عُمالية أو توزيع المنشورات؛ في محاولة لتفادي أخطاء التجربة الأولى، لكن مقتَل الحركة كان في أمرٍ مختلف وهو تحوّلها –غير الـمُخطط !– إلى تحرّك سياسي. من المفهوم أنه كان على درجة من الصعوبة أن يحافظ التحرّك على عُمّالية صرفة في أجواء عام 56م الثملة بالقومية والاشتراكية، لا سيّما أن التكوين الثقافي لبعض العمّال كان يجعل إقناعهم بالانضمام إلى التحرك صعبا، إلا عبر البُعد السياسي. تورد “مضاوي الرشيد” في كتابها “تاريخ العربية السعودية بين القديم والحديث” شهادة لأحد المضربين في العام 53م يقول فيها: “عندما أخبرتنا اللجنة العمالية أن نطلب أجورًا أعلى وطعاما أفضل، لم نستجب لها. فالناس لم يكونوا شحاذين. ولكن عندما قالوا أن نطلب حقوقًا سياسية استجبنا جميعًا”. وهكذا بعد أن قدّم العمال عريضة بمطالبهم، عادوا مجددا إلى إرسال برقية إلى الملك سعود تعبّر عن رفضهم وجود القوات الجوية الأمريكية في الظهران، ثم تظاهروا أمام الملك عند زيارته أرامكو في 9 يونيو 56م. وفي 11 يونيو عقد مجلس الوزراء جلسة طارئة، واتّخذ قراره إنهاء الحركة العمّالية، فاعتُقل من يُظن أنهم القيادات المحرّضة، وتدخّل الأمن لمنع العمال من الاعتداء على أملاك الشركة وإنهاء الإضراب، وصدر المرسوم الملكي الذي ما يزال حتى اليوم يمثل سندا تشريعيًّا لمنع الإضرابات العمّالية ومعاقبة المضربين والتدخل الأمني لإنهاء التجمعات والتحركات العمّالية.

“مرسوم ملكي”

رقم 17/2/23/2639 تاريخ 2 ذو القعدة سنة 1375هـ

المادة الأولى: يحظر على مستخدمي وعمال الشركات ذوات الامتياز، وكذلك مستخدمي وعمال مؤسسات الخاصة التي تباشر نشاطا ذا منفعة عامة أو تقوم بتنفيذ مشروع عام لصالح الحكومة أن يتركوا العمل أو يتوقفوا عنه إذا كان ذلك نتيجة اتفاق بين ثلاثة منهم أو أكثر. ويجازى المخالف بالسجن لمدة لا تقل عن أسبوع

ويجازى بالسجن لمدة لا تقل عن سنة كل من حرض المستخدمين أو العمال المشار إليهم على ترك عملهم أو بالتوقف عنه (….)

المادة الثانية: لا يجوز لمستخدمي وعمال الشركات والمؤسسات المشار إليها في المادة الأولى أن يشتركوا في تظاهر أو اعتصام بقصد تقديم أية مطالب أو  تأييد مطالب مقسمة من قبل، وإن لم يكن الاشتراك المذكور نتيجة اتفاق سابق. ويجازى المخالف بالسجن لمدة لا تقل عن سنة (…..)

المادة الرابعة : يجوز للآجر أن يفصل المستخدم أو العامل الذي جوزي على ارتكاب إحدى الجرائم المشار إليها في المواد الثلاث السابقة.

المادة الخامسة : لأمير المنطقة المختصة أن يقرر عند اللزوم إلزام الآجر بفصل أي مستخدم أو عامل جوزي على ارتكاب إحدى الجرائم المشار إليها في المواد 1-2″ ا.ه

وبفضل العقوبات القاسية ومحاصرة الآيديولوجيات التي تُغذي الحركات العمالية خلال الستينيات؛ بدا أن مطالب العمّال والنقابات والإضرابات قد خمدت، وهو أمرٌ مفهوم في ظل تحسّن شروط العمل في أرامكو، وتحوّل الدولة إلى أكبر مشغّل عبر وزاراتها الضخمة، عندما كانت الأجور مُجزية والتضخّم محدودًا والجميع سعداء، فمن الذي سيُفكّر في إضراب؟! لكن، وبنفس الطريقة، فإنه من المفهوم أن تعود المشاكل العمّالية إلى الواجهة مع توسّع الدولة في الخصخصة خلال العقد الأخير، وتدنّي الأجور حتى في القطاع الحكومي، وتزايد التضّخم والبطالة. وهكذا حلّت اللحظة الراهنة التي استردّ فيها العاملون الشعور القديم بالغبن، واستشعروا وطأة الحظر الرسمي للتشكلات العمّالية، الذي يُبقيهم أفرادًا وكياناتٍ ذريةً مشتتة، عاجزة عن الدفاع عن حقوقها مهما انتُهكت. وليست صدفة عشوائية أن تكون أبرز الإضرابات والاعتصامات قد وقعت في إحدى كبرى الشركات التي خُصخصَت، الاتصالات السعودية، وفي أبرز قطاعين حكوميين مشغلين: الصحة والتعليم. مثلت تحركات كتحرّك المعلمين المحتجين على الأجور وعلى حركة التعيين والنقل خلال الأعوام الماضية؛ مقدّماتٍ مناسبة للتحرّكات المختلفة التي وقعت خلال 2011م في عدة مؤسسات: الكهرباء، المياه، مجمع طباعة المصحف الشريف، إضراب عمال نظافة الحرم المكي، إضراب موظفي الاتصالات السعودية، واعتصام موظفي مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض. ويمكن تناول هذين الأخيرين تحديدًا لفهم طبيعة تحركات العاملين في السعودية ومصيرها، في القطاعين الخاص والحكومي.

بدأ إضراب موظفي مركز الاتصالات في شركة الاتصالات السعودية عفويًا في 12 مارس 2011م عندما تلقى موظفو الشركة خطابًا يشير إلى حجب المكافأة السنوية وقصرها على الربع الأكثر تميزًا من العاملين. خرج موظفو مركز الاتصالات في إحدى المدن، رافضين مواصلة العمل، ومعتصمين أمام المركز، وانتشر الخبر عبر الشبكات الاجتماعية. ومع حلول المساء كان الإضراب قد امتدّ إلى مراكز الاتصالات في كل من الرياض، جدة، الدمام، القصيم، أبها، وتواصل إلى اليوم التالي. في حين التقط الموظفون صورًا وتسجيلات تُظهر تدخّل قوى الأمن للسيطرة على المشهد؛ كان رئيس الشركة بحسب ما تردد يلتقي مجموعة من الموظفين، ويطلب إنهاء الإضراب، ويعدهم بإعادة صرف المكافأة (وهو ما تمّ لاحقا إن صدقت الأخبار)، وفي اليوم التالي عاد العمل إلى طبيعته. تمثلت قوة هذا التحرك في عفويته التي فوّتت على الشركة ووزارة الداخلية إمكانية محاصرته ووأده قبل أن يحدث، جماعيته التي فرضت على الشركة التعامل معه بصفته واقعًا، وحدوثه ضمن إحدى شركات القطاع الخاص التي تحتسب الإضراب كخسائر بالدرجة الأولى. على الجانب الآخر كان اعتصام الممارسين الصحيين في بهو المستشفى التخصصي بعد إبلاغهم بقرار وزارة الصحة تجميد أجورهم عند مستواها الحاليّ. فبعد إعلان إدارة المشفى، انتشر في تويتر دعوة لاعتصام الممارسين الصحيين في بهو المشفى لمدة ساعتين فقط. في 19 أكتوبر الماضي نفذ العاملون الاعتصام، وكان معظم المشاركين من العاملين من غير الأطباء. بعد ساعتين أُنهيَ الاعتصام، وظهر مُقترح اللجوء إلى كتابة عريضة يتولى كبار الأطباء تقديمها إلى وليّ العهد، وهو ما كان، أي أن التحرّك غير التقليدي -في بيئة العمل الحكومي السعودية- انتهى إلى سلوك الطريق السعودي التقليدي، التوجه نحو القيادات السياسية والوساطات والعرائض…إلخ، وإذا عُدَّ هذا فشلا في خلق أسلوب جديد لمطالبة العاملين بحقوقهم؛ فمن الممكن عزوه بالدرجة الأولى إلى كون الجهة الـمُشغلة هي الحكومة، ما يعني أن عامل الخسائر المادية لن يكون في صفّ العاملين، مع إمكانية انزلاق التحرّك إلى عمل ذي طابع احتجاجي سياسي واضح ضد مؤسسات وسياسات حكومية؛ مما يشجّع على سرعة التّدخل الأمني (التقط موظفو المشفى صورة لوجود سيارات الأمن عند البوابة). وبالدرجة الثانية إلى افتقار التحرك إلى الجماعية واقتصاره على صغار العاملين، فكبار الأطباء والموظفين لا يجدون دوافع كافية للتحرك في ظل رضاهم عن أجورهم حتى بعد التجميد.

ما الذي يجعل التحركات العمالية حدثًا سعوديًّا مهمًا إلى هذه الدرجة؟

ثمة سببان رئيسان، مفادهما التالي:
-السبب الأول يتعلق بإعادة ترتيب مناخ العمل، وإعادة كتابة قوانين اللعبة. والغياب التامّ للنقابات العمالية في السعودية الشيء الذي يحوّل هذه الكتلة الضخمة من العاملين السعوديين وغير السعوديين إلى كتلة عديمة الوزن، عاجزة عن إسماع صوتها والتفاوض وإلزام المشغّلين بحدٍ أدنى من الأجور وساعات العمل وبتقديم الرعاية الصحية، هذه البيئة التي يأخذ العمل فيها صيغة “العرض والطلب” على إطلاقها دون إلزام المشغّل بحدٍ أدنى من الحقوق؛ هي ما يُفرز حالاتٍ لا يتصوّرها عقل، كحالة العمّال الآسيوين في أكبر شركة مقاولات سعودية (بن لادن)، الذين تظاهروا في فبراير 2011م من أجل رفع أجورهم لتبلغ 500 ريال (133 دولار)! مشهد العاملين المتجمهرين تحت شمس الرياض من أجل 500 ريال، كان أفضل إيجاز  للخلل الذي يحوّل العامل إلى عنصر عديم القيمة والوزن، حرفيًّا لا مجازيًّا. يُمكن تفهّم الانطباع الرسمي التاريخي الذي لا يرى في النقابات والحركات العمّالية سوى “تنظيمٍ شيوعي”! لكن الأشياء تغيّرت كثيرًا منذ عام 1956م، بما في ذلك دور النقابات التي أصبحت ضرورية وموجودة حتى داخل الاقتصاد الرأسمالي الأكثر ليبرالية، لأن النقابات العمّالية، وليس “أنظمة العمل والعمال”، وليس “الحكومة”؛ هي الجهة القادرة على منع المشغلين من تحديد أجر العامل بـ500 ريال في الشهر، أو حرمانه فجأة من مكافأته السنوية في شركة خرافية الأرباح. لكن الرأسمالية السعودية ذات خصوصية، أو هي “رأسمالية محاسيب” كما تصفها تيري لين كارل، لا تكتفي فيه الحكومة بالبقاء على الحياد أمام العرض والطلب في سوق العمل، ولكنها تنحاز إلى المحاسيب، أصحاب رؤوس الأموال، وتتدخل بأشكال مختلفة -قانونية وأمنية- لتحول دون تحوّل العاملين إلى كتلة وازنة مؤثرة. ووعي العاملين بكلّ هذه الأبعاد بالإضافة إلى الشروط الضرورية للتحرّك الآمن والمؤثر، كفيل بتصحيح الخلل بما في ذلك فرض درجة أعلى من العدالة الاجتماعية.

-والسبب الآخر، من منظور أوسع، يمكن النظر إلى تحرّكاتٍ كهذه بصفتها أحد أجوبة الإصلاح في السعودية. فقد يكمن جواب ما هو سياسيّ تحديدًا فيما هو غير سياسيّ، وقد تكون الطريقة الأكثر عملية لتجاوز الانسداد الإصلاحي هي عبر التوجه نحو المفاصل الاجتماعية المهمة التي تغيب عن الذهن الإصلاحي في ظل تركيزه على الديموقراطية وحقوق الإنسان. يشطح بعض الإصلاحيين في الدعوة إلى التظاهر دون تقديم أجوبة عملية عن الاستعداد الاجتماعي والنتائج المُتوقعة، ويؤيّد بعضهم الآخر تحركات كاعتصام أهالي المعتقلين تأييدًا نظريًّا فقط دون مشاركة شخصية؛ فثمة شعورٌ عامٌ باللا جدوى من المواجهة المباشرة مع السياسي والأمني مع عجز عن ابتكار تحرّكاتٍ من نمط مختلف، وهذا التناقض يضع الإصلاح في حالة انتحارية بطيئة. ولهذا تكمن أهمّية التركيز على مفاصل اجتماعية كحقوق العمّال والحراك العمّالي، أو تكوين التشكلات الطلابية في الجامعات، في كونه قد يقدّم إجابة مقترحة للخروج من تلك الحالة، إذ يمثل العمال وطلاب الجامعات كياناتٍ عملاقة نائمة في السعودية، مع كونها مفاتيحَ كبرى للتغيير عالميًّا. الدعم والتغذية الإصلاحية لتكوّن تحركات عمالية صرفة وطلابية غير مُسيّسة، سيُغذي مَدَنيّة المجتمع مباشرة وسيُساهم في بدء تخلّق العمود الفقري للجسم المدنيّ للمجتمع، ومدنية المجتمع كفيلة بتجاوز انسداد الحالة النضالية المحدودة، والتوقف عن انتظار الإصلاح السياسي القادم من أعلى.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق