أفراح الموت

الكاتب:

10 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

لماذا تبتهج شعوب عندما يموت حكامها أو يقتلون أو يطردون؟

قال نجيب محفوظ لجلال أمين: “لا تنس أن السادات فعل حاجة جيدة؟ قلت: وماهي؟ قال: مات.” [1]

استمع العالم لخطاب أحدهم  في شارع تونس يخطب خطبة احتفال الشعب بهرب الرئيس، كان يصرخ فرحا ويشكر الشعب، فأبكى ملايين المقهورين، بقوله: “بن على هرب بن علي هرب! يا توانسة راكم أحرار”

وتعالت زغرودة نوارة نجم من ميدان التحرير، وبعد الزغاريد قالت: “شكرا تونس شكرا الجزيرة، ما فيش خوف تاني”

استقبل اغتيال السادات استقبالا حافلا وخر الشيخ حافظ سلامة فور سماع النبأ ساجدا. [2]

واعتقلوا مع زعماء ومثقفي وسياسيي مصر صاحب مقهى لأنه أخذ يوزع مشروب على الناس فرحا بهلاك السادات.[3]

“في االوقت الذي كان يخيم فيه الحزن على جزء من القصر ويتشح الجميع باللون الأبيض لون الحداد [في المغرب] ويسجى محمد الخامس في نعش في إحدى غرف القصر، كانت تتعالى في غرفة مجاورة أهازيج الابتهاج التي رافقت انتقال السلطة إلى الحسن الثاني الذي أصبح بوفاة أبيه الملك الجديد.” [4] وفي بلد آخر لما تأكد الأخ من تقدم سرطان أخيه وقرب وفاته أعد قصره وبهرجه للحفلة القادمة، ولكن تغيرت الأقدار فكان الأسعد بالموت ابن الميت واحتفل قصره.

عندما تكون الأمة أشبه بمحنطة لأن قيادتها محنطة فإنها تنتظر الموت منقذا لها من حياة الزعيم المحنط الذي يوقفها بين الحياة والموت، وستفرح الأمة المحنطة لأنها بهلاك فراعنتها تحيا، أو على الأقل تعيش فرحة الموت بضعة أيام وتسلي نفسها بالأماني في الأعوام الأولى من دهور ممتدة جديدة لا تنفرج إلا بفرحة الموت، قبل أن يتمكن الجديد ممن تحنيطها عشرات السنين القادمة. فلا مفرج عنها إلا الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات، ومبيد الطغاة، أو أن يجعل الله للغزاة طريقا إليها فيقتله الغزاة وتموت الملايين من الصامتين مع صنمها العتيق.

فهنئيا لهذا الشرق الحزين بأفراح موته، التي قد تمر عشرات السنين ولا يفرح بموت ينفع أو يشفع للأمة، ورب شعب تمر عليه عشرات السنين ولا يفرح في حياته بالموت ولا يحتفل به، إن بهجة الموت يوم تهز أمة عربية مقهورة تحتفل احتفال الدهر، لأنها قد تكون الفرحة الوحيدة في العمر البشري للأغلبية العظمى من سكانها، احتاج الليبيون حوالي نصف قرن ليحتفلوا بالموت، وكذا العراقيون، والمصريون ثلث قرن واليمنيون أيضا ثلث قرن أيضا، وقد يمر العمر ولا تتذوق هذه الفرحة العظمى، هكذا يخبرنا تاريخ الفراعنة، فأحدهم امتد حكمه لأكثر من سبعين عاما، ولهذا استحقت فرحة الموت أن تبنى لها أعظم قبور بنيت على وجه الأرض، في شرقنا الذي قد يغيب عنه الموت زمنا طويلا يندثر جيل كامل أو جيلان من العمال وهم يبنون قبر الفرعون وأحيانا ثلاثين عاما ويقضي عشرات الآلاف وهم يبنون سخرة في قبر الفرعون، حيث تسخر لقبره قدرات الأمة، وقد يموت قبل إنجاز القبر، فيبدأ العمال في بناء قبر الفرعون الجديد، ، وكان من الطريف أن الصحفي محمد حسنين هيكل اعترض على أحد زوار مصر لما قال له سأزور الأهرامات، وكان هيكل يخاف من شبح الموت، فذكره بأنها لا تستحق الزيارة لأنها نصبٌ للاحتفال بالموت!

غاب وعي هيكل ولم يدرك شوق الأمم المحنطة لأفراح الموت، فكم يتمنى المقهورون لو بنوا كل عقد هرما أو قبرا، حتى يتحقق للفرد رؤية بضعة احتفالات في حياته قبل أن يموت ولم ير حفلة موت.

يا لعالمنا الشرقي ونبوغه في إخفاء فلسفته وطرائق تعبيره، فليس الشرق فنانا فقط -على رأي زكي نجيب- بل فيلسوفا، ويعبر بذكاء عن قهره.

هذا العالم الحزين قد يتأخر الموت ولا يزوره ثلاثة أرباع قرن! يا له من زمن طويل رهيب، تستحق نهايته كل فرحة عظيمة. يعمل الشعب سخرة أكثر من ثلاثين عاما في بناء قبر الفرعون، وقد يشقون بحكمه سبعين عاما فوق الأرض، فتكون حياته ثم قبره رمزا لموتهم هم وهم أحياء على مدار القرون، وعندما كان يشقي الناس، ويبنون له في حياته قبره فكل ذلك أملا منه في أن يبعث بعد أن يرممّ فيعود سعيدا مصانا عنده طعامه وخزائنه وعبيده، بل وحتى أدوات الحلاقة بجانبه في أجداث الفراعنة.

الاستقرار المناخي والزراعي سمح بأن تتبعثر قبور الفراعنة من الأهرامات بالمئات على ظفاف الوادي المنكوب بالمستبدين. ويسجل المؤرخون أن المناطق المحيطة بالأهرامات كانت تزخر بآلاف من العشش للعمال البؤساء العاملين بالسخرة. ولم يبق من عبقرية خالدة للشعوب المحنطة إلا عبقرية هندسة القبور لتحنيط أصنامها.

 في شرقنا يبالغون في احتفالات الموت وإظهار غاية الحزن ومنهم كاذبون وممثلون متصنعون، وهم يعلمون أنهم في غاية الفرح بالموت فيستأجرون من يندب لهم حتى يقال حزنوا! ولذا سار في أمثالهم حقيقة بجانب الكذب “ليست الثكلى كالنائحة المستأجرة” فهناك صناعة كاملة للموت حتى في الخدور البسيطة، فهناك حزينة، وأخرى تستأجر من ينوح، ومن يشق الجيب، ويلطم ويندب ويثرثر الدموع الرخيصة نيابة عنها، في عالمنا تمثيل مقيت ومسرحيات أحزان كاذبة كثيرة، فمن الذي لا يفرح بالموت في العالم العربي المكلوم بطول العمر الرهيب!

يستأجرون من ينتج للجماهير مسرحية الحزن، ليقول في يوم أفراح الموت أننا لم نفرح بل حزنّا، ويستأجرون من يكذب لهم أحزانا، ومن يبكي ويدمع ويمجد، في بلاد الاستبداد يفرح الجميع بالموت ويستقدمون من يزورهم بمناسبة الموت، فيتظاهر المعزّون بالعزاء وهم يسرّون التهنئة.

لا يفرح الشرق دوما بالموت فهم بشر يحزنون حزنا حقيقيا أحيانا، عندما يقودهم “موهوب بفكرة” فيحزنون من قلوبهم، فهم أصحاب أكبر جنازتين عرفهما العالم أولا لعبد الناصر، ثم تلتها جنازة الخميني فالأخيرة إلى الآن أكبر جنازة في التاريخ، لربما صدقوا في الجنازتين لأن كلا الرجلين أعطى أمته روحا عالية دفنها من بعده الصغار، مستبدان بكى عليهما الناس، لأنهما أصحاب فكرة، واقتربوا من همّ أمة، أو لأنهما كانا ساحرين محترفين لك أن تجادل.

وقد يخرج أبرياء وطيبون في الجنازة لأن المظلومين كبقية البشر يشعرون بجلال الموت ومهابته، وربما كانوا من الأعماق سعداء بكشف الغمة عن الأمة.

ألم يكن خيار رجال مصر في السجن يوم مات ناصر، ومثقفو مصر في سجن السادات يوم قتل! ألا يحق للشعوب المسجونة أن تفرح بالموت ولو في صمت سعيد. إنه يخنقهم دهرا حتى إذا رحم الله بلاده وعباده بموت الفرعون اهتز الأحياء طربا وسعدوا وقد كتب الفراعنة كتابهم الخالد عن رحلة الموت ليغروا به من يغادر ولكنهم لا يفهمون ولا يغادرون إلا راغمين. قال كلنتن وددت لو لم أخرج من البيت الأبيض إلا في نعشي، ولكنه في أمة حرة راشدة، رأت سعادتها في خروجه حيا.

 كم نتمنى أن لا نفرح بالموت، وأن نرى تداول الأحياء للسلطة وحتى لا يكون الموت منقذا محبوبا.

(كتبت المقالة منذ زمن قديم)

[1] “الشروق/ الجمعة 24\6\2011م

[2] “عبد المنعم أو الفتوح، شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، تحرير حسام تمام، الشروق،2010،  ص 120”

[3]  أبو الفتوح، نفس الصفحة.

[4] السجينة، ص 43

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن محمد الأحمري

مدير منتدى العلاقات العربية والدولية
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق