ثقافة المَكْرَمة: يوميات “الدولة الريعية”

الكاتب:

6 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

يفيض الخطاب الإعلامي الرسمي بالمتناقضات، ويظهر هذا من خلال التغطية الإعلامية اليومية للأخبار والأحداث في البلاد. يمكن تقليب صحيفة يومية لرصد مجموعة من المتناقضات: إنجاز رسمي يتمثل في وضع حجر الأساس لمشروعٍ ما يُحتفى به في صفحة، وفي الصفحة المقابلة تحقيق يعبر في معناه عن فشل رسمي كبير فيما يخص أبسط مقومات البنية التحتية. تقليب الصفحات يوصل إلى مَكْرَمة يقدمها مسؤول كبير من جيبه الخاص لبناء ما لم تبنه أجهزة الدولة، لكن مقالاً لأحد الكتاب يتصدر الصفحة التي بعدها يقول إن الخدمات المقدمة من الدولة ممتازة وإن شابها بعض التقصير، وأننا أفضل بمراحل من غيرنا، فيما كاتب آخر في اليوم التالي يقول أن المشكلة في الشعب لا في الدولة.

توصل هذه المتناقضات إلى نتيجة مفادها غياب الدولة ومؤسساتها عن الفعل بشكل شبه كامل، وهذا الغياب تتم تغطيته بكرم المسؤول واحتفاء الإعلام به. لا تظهر الدولة في الصورة إلا من خلال شخص المسؤول، وفي أحيان كثيرة يقدم الإعلام صورة لإخفاق مؤسسات الدولة في أمر ما يعالجه تدخل المسؤول وإنقاذه للموقف، وفيما توجه كل الجهود الإعلامية للاحتفال بهذا التدخل واعتباره مسألة إيجابية على الصعيد الوطني، يظهر من بعيد تحطم صورة الدولة وتلاشيها أمام المسؤول الفرد الكريم في هذا الخطاب الإعلامي.

يقال أننا أمام دولة ريعية، وإذا سلمنا بهذا التعريف للدولة نكون أمام إخفاقها الأول، فكونها ريعية يعني بكل بساطة أنها ما تزال رهينة النفط وريعه في سياستها الاقتصادية بما يعني فشلها في تنويع المداخيل عبر أنشطة أخرى. الدولة هنا ريعية لا لكونها تعتمد على النفط في اقتصادها فقط، بل أيضاً –وهو الأهم- لكونها تدير عملية بيع هذه السلعة وتتحكم في عائداتها وتقوم بتوزيعها كما ترغب، وهكذا تصبح الدولة صاحبة رأس المال والمتحكمة في إنفاقه، لذلك لا يمكن تحميل الشعب تبعات سوء توزيع هذه الثروة أو ما يترتب عليها من إخفاق تنموي أو أي أمر آخر طالما هو غير مشارك في توزيع الريع.

لكن الخطاب الإعلامي الرسمي يطرح سؤالاً أكبر: هل هذه فعلاً دولة ريعية؟ كل هذه المَكارم والمنح تطرح تحدياً أمام تعريف الدولة الريعية، وبالتالي يبدو أن المسألة بحاجة إلى نقاش وفقاً لمعايير الخطاب الإعلامي الرسمي وكيفية توصيفه للأمور، فتحليل تناقضاته التي يستند إليها ضروري لإعادة تعريف الدولة ومؤسساتها بشكل يتناسب مع هذا الطرح.

هل المَكرمَة تتفق مع فكرة الريعية؟ قد يبدو للوهلة الأولى أنهما يتناسبان، لكن الأمر أشد تعقيداً مما يظهر، فالمَكرمة منحة فرد مهما كان موقعه في الدولة، بينما الريعية تقوم على توزيع مؤسسات الدولة لريع النفط على المواطنين، ومن هنا تختلف المَكرمة بكونها فعلاً متجاوزاً للدولة ومؤسساتها، كما أنها لا ترتبط بسياسات ثابتة بقدر ما ترتبط بتقديرات شخصية من صاحب المَكرمَة.

يقود هذا إلى سؤال جديد: هل هناك دولة وفقاً للخطاب الإعلامي الرسمي؟ من الواضح أنه لا دولة، فالإشارة الدائمة هي للأشخاص الفاعلين في هياكل الدولة، لكن لا شيء يذكر عن “المؤسسات”. لا يعني هذا المبالغة في القول أن مؤسسات الدولة غائبة تماماً، لكن الفاعل الرئيس شخص المسؤول لا المؤسسة التي بالأساس لا تمثل أحداً في تركيبتها ولا تظهر إلا كخلفية في صورة المسؤول التي تملأ الصحف والقنوات الفضائية.

ليست دولة ريعية إذاً، فوفقاً لخطاب المَكرمَة نحن أمام مشيخة. الخيمة بديلٌ عن الدولة، وكبار المشايخ يمنحون أفراد القبيلة الهِبَات فيهللون ويكبرون، ولأن “الشيوخ أبخص” (أي أدرى وأفهم) فلا داعي لصداع المشاركة في صناعة القرار، فثقافة الخيمة هذه كفيلة بوضع الأمور في نصابها، والناس لا يعون من أمرهم شيئاً، وهكذا يلغي الخطاب الإعلامي الرسمي فكرة المؤسسات والدولة ناصباً خيمته في قلبها.

يُلاحظ في تعليقات الكثيرين على هذه الحالة تعبيرهم الدائم عن رفض الانتقاص من عقولهم وازدراء اللغة التي تتعاطى مع أبسط حقوقهم كمِنَح وهِبَات، خصوصاً مع زيادة الوعي الحقوقي من خلال التعبير الحر في مواقع التواصل الاجتماعي التي تنتج اليوم خطابها المناقض للخطاب الإعلامي الرسمي، لكن هذا لا يلغي قدرة الإعلام الرسمي عبر يومياته في تكريس صورة دولة المَكرمَة والمِنَّة مستنداً للإرث القبلي بلغته وأدواته في عقول شرائح واسعة من الناس.

غير أن مشكلة الإعلام الرسمي وثقافة الخيمة التي يروج لها أنها تأتي في ظل ثورة الاتصالات والعولمة التي تظهر صوراً أخرى أكثر إغراءً من الخيمة، وفي ظل التحولات الكبرى التي تعصف بالمنطقة والعالم فتجعل شعوباً تتوجه لبناء دول حديثة يكون المواطن عمادها وتقوم على خدمة الدولة للمواطن وطلب رضاه لا العكس المروج له في إعلامنا الرسمي.

ثقافة الخيمة ودولة المَكرمَة القائمة على شحذ الناس لأبسط حقوقها التي لا توفرها أجهزة الدولة من المسؤولين والمتنفذين تتناقض بشكل أساسي مع فكرة الدولة الحديثة ومع المواطنة كمبدأ أساسي في قيام تلك الدولة، لذلك يصبح الحديث عن قيام مؤسسات حقيقية وسيادة القانون وإشراك الناس في تحمل المسؤولية وتوزيع الثروة والرقابة على المال العام ضرورة لا ترفاً، فبهذا يمكن معالجة الفشل التنموي المتراكم ومكافحة الفساد والتحول إلى نمط اقتصادي منتج عبر تنويع مصادر الدخل. الإصلاح السياسي مدخل للإصلاح الاقتصادي، لأنه المدخل إلى الدولة الحديثة بقيمها ومبادئها، وهو الذي ينقل الناس إلى رخاءٍ اقتصادي حقيقي قائم على أسس ثابتة يضمنها العمل المؤسساتي بدلاً من رخاء الهِبَات السطحي، ويمكن أيضاً من خلاله تحميل المسؤولية للناس في كل النتائج المترتبة على ما تقوم به الدولة.

تفرض ثقافة الخيمة بطبيعتها تعزيز ولاءات ما قبل الدولة وسيادة الانتماءات الفرعية، وأكثر ما يثير العجب أن يتساءل أهل الخطاب الإعلامي الرسمي عن الانتماء الوطني في ظل ترويجهم لثقافة تتناقض مع المواطنة، لذلك لا يمكن تعزيز الولاء للوطن والدولة بالأغاني والشعارات الممجوجة التي يرددها الإعلام، فما لم تكن هناك دولة حقيقية تستوعب الجميع ليكونوا جزءًا منها سيظل الإعلام الرسمي يتساءل بعد كل مَكْرَمة: لماذا يغيب الانتماء الوطني؟

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

مقالات ذات صلة:

  1. الربيع السعودي في 2011

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق