في الاستعمار الأسمر!

الكاتب:

4 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

بعد قراءة عدة فصول من كتاب “المعذبون في الأرض/The Wretched of Earth” لفرانتز فانون/Frantz Fanon لبثت أرتجف حتى قلت دثروني دثروني!

لن أتحدث عن “فانون” نفسه فقد تحدثت عنه وعن خيبة أمله في أكثر من مقال فهو المناضل الفرنسي الأغرب ضد الاستعمار الفرنسي.. تقيأ فرنسيته ذات تجلٍ روحاني .. وخاض في ذاته التي فضّل فيها أن يكون حراً فقيراً من أن يكون غنياً مستعبداً فقال “جوعٌ وكرامة خيرٌ من خبز يؤكل في العبودية”.. حتى كتب كتابه هذا لينزع كل ورقة توت خفيفة عن جسد الاستعمار وسوءته.. وكانت كل كلماته توحي بخيبة أمله في مستقبل أفريقيا والعرب من “استعمار” آخر كما عبر أحدهم ذات يوم في ذهاب المستعمرين الحمر ومجيء المستعمرين السمر.. فهذا هو الاستعمار الذاتي الأسمر..

كل حرف يتحدث فيه “فانون” عن الاستعمار الأحمر تقفز لذهني ممارسات الاستعمار الآخر “الاستبداد”، بل كان يخشى مما يسميه “الاستقلال المزيف” حين يولّي الاستعمار ويبقي كل خصائصه وطرائقه.. وأساليبه في تحويل المجتمعات إلى مزابل استهلاكية لاتشارك في القرار ولا التأثير ولا تصنع الثقافة.. ولا تنافس..

الاستعمار الأسمر (الاستبداد) مثله مثل الاستعمار القديم .. في الغالب لايلغي التاريخ قبله فإلغاء التاريخ قد يصنع تحدياً حضارياً وثقافياً للناس والمجتمع وقد يدفعه للحياة بصخب وقوة.. لكنه يفعل أسوأ من ذلك.. إنه يشوه التاريخ.. أما لماذا يفعل ذلك  فببساطة شديدة: لكي يقول للناس وللأجيال التي لم تشهد ولم تقرأ إلا رواية واحدة للحدث.. بأن المجتمع والناس والأجداد.. كانوا في تخلف وجهل ومسغبة.. بل وشرك.. وأن هذا الاستبداد/الاستعمار كان هو الحل المنقذ والتاريخي!

التاريخ قبل الاستعمار/الاستبداد حسب روايته التي يريد: هو مجموعة من الحشاشين-سياسياً، أو قطاع الطرق-تجارياً، أومشركين-دينياً، أو متخلفين-ثقافياً وتقنياً.. وهو الذي جلب الوحدة والتوحيد والرخاء والأمن والشبع والتقدم.

لم ولن يحدثنا الاستعمار/الاستبداد عن مجالس المناطق الانتخابية ولا عن حضور الناس في صناعة القرار في تاريخنا ولا عن أن الناس كانوا مسلمين موحدين كمانحن .. ولا أن أجدادنا كانوا في وحدة فيدرالية أكبر تجمعهم بأكثر العالم الإسلامي.. وليس كل هذا لتمجيد ذلك التاريخ ولا لاستعادته فهو مليء بأزماته الحادة واستبداده أيضاً ولكن لمحاولة قراءته بتجرد وحياد.

حرص هذا المستعمر كما سيحرص المستبد لاحقاً على القول بأن الاستعمار لو رحل فسيخلف الجهل والفوضى والبهيمية والتدهور والتخلف.. وأظن أنه كان سيلوح بالحروب القبلية والطائفية الداخلية!

بل وأبعد من ذلك.. فالاستعمار كما سيفعل الاستبداد لاحقاً: يحمل المقولة القديمة نفسها؛ بأنه ليس فقط يحمي الناس من الجوع والحرمان والتخلف.. بل هو أيضاً يحميهم من أنفسهم ومن ذواتهم.. فهو باختصار شديد يأخذ بأيديهم عن أن ينتحروا أو يؤذوا أنفسهم كما يفعل الأطفال، فهذا الأب البالغ الراشد الوصي (الاستبداد/الاستعمار) يحمي المجتمع القاصر الأخرق من أن يعبث بنفسه.. ويمنعه من أن ينتحر!

الأكثر غرابة في الاستبداد هو تحليل “كارتير” الشهير أيام الاستعمار الفرنسي لكثير من البلدان المستعمَرة فرنسياً.. التحليل نفسه الذي سيستعمله الاستبداد حرفياً دون أي إضافة محلية.. حين يقول هذا التحليل بأن الاستعمار (والاستبداد دائماً) ليس أنانياً لكي يأخذ المنافع والأرباح والثروات من البلاد لنفسه وحسب ولكنه أيضاً يريد تطوير البلاد ونهضتها وإقالتها من عثرتها و”إعمارها” وتحديثها.. ولكن أكثر مايعيق ذلك التحديث والتطوير -حسب تحليل كارتير الاستعماري/الاستبدادي- هو أن الشعوب المتعثرة والمتخلفة تمانع النهضة والتقدم والتطوير فبالتالي حسب هذا التحليل فإن التخلف والظلم وانعدام التوازن.. ليس سببه الاستعمار/الاستبداد.. بل ممانعته.. وليس سببه الظلم الاجتماعي والسياسي الذي يمارسه الاستعمار والاستبداد.. ولكن النضال ضده وإعاقته.

الاستعمار كما الاستبداد، كما يحلل “كارتير” يصور المجتمع على أنه مناهض للتحديث والتطوير والنهضة.. وأن مناهضته هذه هي وحدها من يعيق التقدم والنجاح.. وبالطبع فهذا الاستعمار والاستبداد لن يفهم أبداً ولا يريد أن يفهم أن أساس التخلف وأهم سبب له والعنصر الأهم الباعث على التدهور والانحطاط ليس المجتمع ولا ممانعته ومناهضته المدعاة للنهضة والتفوق.. بل هو بالتحديد الاستبداد والاستعمار نفسه.

ومايزال ياللحسرة يتحدث المستبد بأنه متفوق على شعبه وبأنه أكثر وعياً وفهماً لكن مشكلته هي في هذا المجتمع المتخلف بزعمه، بيد أنه لم يفهم ولايريد أن يفهم أن الاستبداد ذاته هو التخلف والرجعية وهو نفسه الذي يعيق النهضة ويناهض التحديث ويقف ضد مشاريع الإصلاح..

ومتى ما ترهل الجسد الاستبدادي.. وبدأ يفقد إحساسه بالناس ومستوى وعيهم.. فهو يعد لاهتزاز مخيف. قد لايكون يجهز بشكل مباشر لذلك لكنه مع كل يوم يحرم فيه الناس من المشاركة والتاثير يصنع الشروط الممكنة لأي انتفاضة.. والثورة تحصل حينما يتجاوز وعيُ الشعب إداركَ الأنظمة..!

 خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن عبدالله العودة

كاتب حاصل على ماجستير قانون
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق