نقد الدولة الحديثة.. تعليق على حوار “سيادة الأمة”

الكاتب:

24 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

أحدث مقال الأستاذ عبدالله المالكي، و الذي تحدث فيه عن “سيادة الأمة” كمتطلب لتطبيق الشريعة ضجة كبيرة، وتبعت نشره ردود فعل متباينة ما بين مؤيد (كنواف القديمي) ومعارض (كسلطان االعميري وفهد العجلان). لم أقرأ خلال تصفحي للأطروحات المختلفة عرضاً للمشكلة الأساسية التي يتمحور حولها النقاش، فمحور الحديث ليس “السيادة” ومن يتمتع بها، بل هو مفهوم “الدولة الحديثة”.

يبدو لي أن جلّ الآراء تنطلق من نفس الرغبة: محاولة إيجاد الطريقة “الصحيحة” لبناء “الدولة الإسلامية” وفي هذا السياق فلا يختلف المالكي مع معارضيه إلا من ناحية مقدار القوة أو السلطة (agency) التي يريدون “إعطاءها” للأمم. فالمالكي يريد بناء “الدولة الإسلامية” عن طريق سيادة الأمة بينما يرى االعجلان بأن المالكي أخطأ في “إعطاء” كل هذه السلطة للشعب الذي لا يملك أن يرفض “الحكم بما أنزل الله” ولو كان بالإلزام. وأنا هنا أختلف اختلافا جذريا مع باقي الأخوة من ناحية الهدف، فهم يحاولون في النهاية الوصول إلى “بناء” هذه “الدولة الإسلامية”، أما أنا فأرى تناقضاً –لعله كامناً– في مفهوم “الدولة الإسلامية” الذي يُتقاذف بكل يسر وأريحية، حيث تبدو لي العبارة نفسها متناقضة، مثل عبارة “العملاق القصير” وبهذا فليس لي أدنى رغبة في “البناء” وإنما أسعى إلى “هدم” هذه الفكرة من أساسها.

حين نقول “الدولة الإسلامية” فإننا بطبيعة الحال نقصد “الدولة الحديثة” (nation-state)، وهي التي ظهرت في أعقاب معاهدة ويستفاليا عام ١٦٤٨. وحين نعطي هذه النقطة الجذرية قدرها الذي تستحقه، يتضح لنا أن تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأحكام –على سبيل المثال– لا يمكن أن نقيسه على دولة “حديثة” لأمرين مهمين:

أولا؛ الدولة الحديثة لا بد أن تقوم على شكل من أشكال القومية، ومحاولة إيجاد “قومية إسلامية” سيوقعنا في نفس الإشكالية التي نواجهها في محاولة إيجاد “دولة حديثة إسلامية”، ذلك أن القومية في الغالب عنصرية، و هي أيضا تقوم — بلا استثناء — على الإقصاء. فلو رجعنا إلى منتصف القرن الماضي مثلا، لرأينا ولادة “دولة إسلامية حديثة” هي دولة الباكستان. إلا أنها– كأي دولة حديثة– يتم بناءها على أساس من القتل والاغتصاب والتشريد، أي باختصار على العنف بشتى أصنافه. وهذا العنف ليس بين فئتين متحاربتين، بل هو موجه باتجاه السكان من نساء وأطفال ومسنين ورجال. فقد لقي مئات الآلاف من الأبرياء حتفهم نتيجة استحداث دولتي الهند و الباكستان، وتم تشريد 5.12 مليون نسمة، ليس لشيء أكثر من أن هؤلاء الناس تم إقصاؤهم من “القوم” الذي تمثله هذه الدولة الحديثة. و من أراد أن يقرأ عن أهوال “بناء” دولتي الهند والباكستان وانعكاس هذا القتل والاغتصاب والتشريد على منتجات شبه القارة الهندية الثقافية فليقرأ كتاب “الانتماءات العنيفة” لكافيتا دايا.

أو لعلنا نأخذ بعين الاعتبار بناء دولة تركيا الحديثة على أساس القومية التركية، حيث كان من نتائج معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ إتمام عملية “تبادل السكان” ما بين دولتي تركيا واليونان الحديثة. فكرة “تبادل السكان” مبنية على أن سكان مناطق معينة في “دولة” تركيا الحديثة ليسوا “أتراكا حقيقيين” من أمثال النصارى الأرثودكس. حيث تم تشريد قرابة المليون من هؤلاء وطردهم من الأناضول ونقلهم إلى اليونان، وفي المقابل تم تشريد أعداد ضخمة من المسلمين من منطقة سالونيك اليونانية ونقلهم إلى تركيا. كل هذا تم باتفاق بين دولتي تركيا واليونان الحديثتين، دون استشارة الآلاف الذين تم تشريدهم، والمنطق من وراء هذا التشريد أن هؤلاء الناس الذين كانوا ضحايا هذا التفكير الإقصائي ليسوا “خالصين” أي أن “الاختلاط” بين الأجناس المختلفة يسبب “تلويثاً” للجنس القومي النقي ويهدد نقاء وصفاء الأمة ولذا وجب الطرد والتشريد.

هذا وقد استعرضنا الأساس العنصري الإقصائي للدولة الحديثة، فلننتقل للوجه الآخر من نقدي للدولة الحديثة، وهو أن الدولة الحديثة — وهذا الكلام صحيح عبر التاريخ– عبارة عن مركز للقوة. الدولة الحديثة ككيان سياسي ليست إلا آلية للتحكم بالناس، أو لو أردنا استخدام مصطلحات الدولة الحديثة لقلنا “المواطنين” بدل “الناس”. و بحكم أن الأستاذ فهد العجلان– مثلنا كلنا– نشأ في عالم مكوّن من دول حديثة، فهو يحاول أن يصيغ هذا التحكم بصياغة إسلامية. فمثلا يتطرق العجلان في استعراضه لمسألة “الإلزام” إلى الحدود الشرعية فيقول: “هذه ليست إلزامات فقط، بل عقوبات على هذه الجرائم، وعقوبات صريحة وصحيحة وواضحة، تعني تجريم الفعل وتحديد عقوبة معينة عليه، فهو إلزام بترك الفعل، وإلزام بعقاب معين.

فهل نتعامل مع هذه الحدود على مبدأ (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)؟” والعجيب أن العجلان يذكر من ضمن الحدود حد الزنا، وتبدو عليه الحماسة لاستعمال آلية الدولة الحديثة من أجل “تطبيق” هذا الحد، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب يوما للتفتيش عن “المواطنين” الذين يمارسون هذه “الجريمة” والتأكد من “تطبيق” الحد عليهم. بل إنه كان عليه السلام يصد عمن يأتيه و يطالبه بتطبيق الحد عليه. أي أن “تطبيق” الحد في أغلب الحالات كان يأتي بإيعاز من مرتكب “الجريمة” نفسه، وهذا يعارض مفهوما مهما في الدولة الحديثة التي لديها أجهزة تراقب وتعاقب “المواطنين.” والأعجب استشهاد العجلان بأن النبي عليه الصلاة والسلام “همّ” بحرق بيوت المتخلفين عن أداء الصلاة، فجعل هذا من الأمور التي يجب أن “تطبقها” الدولة الحديثة مع أن النبي لم “يطبق” شيئاً من ذلك.

و لعلي هنا أوضح أمرا حول النقطة الثانية التي طرحتها بخصوص الدولة الحديثة، و هي أنها كيان سياسي يخدم النخبة كونها مركز للقوة. حيث يظل هذا صحيحاً سواء كانت الدولة الحديثة ديموقراطية أو ديكتاتورية أو غير ذلك. و لعلنا نرى في المظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية في الشهور الأخيرة ما يؤيد هذا. فسكان أي دولة حديثة تجدهم من ضمن الـ ٪٩٩ الذين يعانون من درجات متفاوتة ومتباينة من القمع، سواء كان قمعاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك، بينما يستفيد الـ ٪١ ، و هم أهل الحل والعقد، من آليات الدولة الحديثة للتحكم والتسلط والهيمنة. وبما أننا رأينا أن الدولة الحديثة مبنية على أساسين: الإقصاء والظلم، فإني أرى كمسلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه و سلم بأن ما بُني على الإقصاء والظلم لا يمكن أن يكون “إسلامياً” لأن الدولة الحديثة ليست كياناً سياسياً يمكن أن تتحقق من خلاله العدالة الاجتماعية وهو المطلب الاجتماعي الرئيسي للرسالة، ومما يعكس ذلك كون الأغلبية الساحقة من المسلمين الأوائل من النساء والعبيد لا من “أهل الحل و العقد”. فصحيح أننا نستطيع أن نضع قوانين وحدوداً تحكم بها الدولة الحديثة، مثل أن نمنع الربا على سبيل المثال، و بذلك تكون الدولة الحديثة قد “طبقت” حدوداً معينة مستمدة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يجعلها “إسلامية” في نظري. و لذلك فإني أعتزل مشروع الإخوة الأفاضل في بناء الدولة الإسلامية الحديثة، وأعتذر عن مشاركتهم في هذا الأمر السامي.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق