الكائن السعودي بين التجريد والتعيين

الكاتب:

4 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

ذكرت في مقالي السابق أن إنساننا “السعودي” غرق في بحور التجريد ومفاهيمه الكبرى والمعقدة؛ كمفهوم الوطن, ومفهوم الدين, والعروبة. وأن السعوديين في احتفالهم باليوم الوطني نسوا قضية “المواطن” وانشغلوا انشغالا تاماً بإثبات ولاءهم دون أن يتساءلوا عن حقوقهم بعد الولاء؟

وكتبت أن مثل هذه الألفاظ الرنانة والشعاراتية, هي ببساطة ألفاظ كبرى, ضخمة, تبث الهيبة والقوة في قلوب مستقبليها, ولكنها حال التدقيق في محتوياتها ومضامينها, خصوصاً وإن كانت مفاهيم لا تنتصر للإنسان, فسنجدها عبارة عن دعاية إعلامية.. إنها بروباقاندا شكلية, وفيض من الكلام المشوش الذي لا برهان واضح على صحته أو صدقه.

ومثل هذه الكلمات استخدمت كثيرا من قبل الزعماء الذي سقطوا مؤخرا في الدول العربية أو أولئك الذين سيسقطون قريبا, فهذه اللغة لا يُعنى بها أن تلتفت للواقع والحقيقة, وإنما هي لغة تضليلية وضبابية بعيدة عن أي تحقيق علمي أو أي مقاربة فكرية عميقة. لغة لا تكترث بالإنسان, وإنما همها أن تزيحه عن المعنى المنشود وتبقيه في غياهب العبث!

إنه لا يهم أن يكون ثمة دعاية مجانية ولا أن تتكاثر الألفاظ والمسميات والكلمات فكل هذه الأشياء محكها الحقيقي هو الواقع المرئي والممسوس, وطالما تم تجاهل هذا الواقع والإشارة أو الإحالة لعوالم وهمية فإن الإنسان سيبقى بائساً لا يبارح أمراضه وحالاته المزرية.

وقد كتبت في مقالي الماضي أن الوطن –مثلا- لا يعني أي شيء بمعزل عن مواطنيه وساكنيه, حيث لا تستقيم لمثل هذه الكلمة قائمة ونحن نشطب من حسباننا ووجداننا حقيقة أن المواطن هو جوهر الوطن. ولنقل مثل ذلك عن العدالة, فهي الأخرى لا قيمة لها مالم تبشر بحماية حقوق الإنسان, والحرية هي أيضا غير ذات معنى إذا ما انفصمت عن الإنسان وتحولت إلى فوضى مطبقة, والاقتصاد لا فائدة له إذا كان منحازا لفئة محددة من الأقليات دون الفئات الثانية, وهكذا. يمكن لنا أن نقول إن صلاحية أي مفهوم متعلق بحياتنا البشرية تنطلق مع مراعاة المصلحة العامة, وحقيقة أن الإنسان يتمركز فوق الأشياء وليس تحتها.

ونلاحظ أن المفهوم التجريدي, له صفة كلية وعمومية وضبابية, وعندما نطبق هذا المفهوم على أرض الواقع (وليس أن نكتفي بالجعجعة عنه لفظيا) هنا يحضر الإنسان ويبرز بقوة: فهل هذا المفهوم الشامل والكلي والمجرد هو مفهوم للإنسان نفسه من خلال التطبيق والمراس العملي والحقيقي؟ أم أنه مفهوم أريدَ به أن يضلل العقول ويلهيها بعيداً عما يجري في الواقع العياني والمباشر؟

ضمن التصور الوجودي البحت للإنسان, فإن الوجود نفسه للإنسان هو وجود حر, خالٍ من القيود الفكرية والتجريدية والاصطلاحية والأخلاقية, ثم يبدأ الإنسان نفسه بتشييد مفاهيمه, أفكاره ورؤاه, طبقا لواقع حريته وقدرته على بعث الحياة في نفسه وبمن هم حوله, وطبقا لخبراته المكتسبة والمتراكمة عبر التاريخ والزمن, من خلال هذا الانخراط الوجودي المستمر والمنبعث من إرادة حرة, يتكون الإنسان كماهية ومعنى, ويتحول إلى ذات واعية ومدركة لعواقب تصرفاتها وقراراتها, فالإنسان في السياق الوجودي الخالص هو حزمة من القرارات التي تسعى لوجودها مثلما تسعى لعدمها في المستقبل أيضًا بعد استنفاد خيارات الوجود.

ولكن في حالة الفرد السعودي, العكس هو ما يقع: فالمفاهيم والمبادئ وجملة السلوكيات المنتشرة تشي بخلاف ذلك. إن جل قدرة الفرد تكمن في الاستسلام لطريقة تشكيل المجتمع له, وتشكيل السلطات لعقله, بكافة تلويناتها الاجتماعية والسياسية والدينية, وبكافة ضغوطاتها المقيدة لمواهب هذا الإنسان وإبداعاته, مما يجعل الوجود بأسره مؤجلا, أي أنه وجود بغير الوجود, أو وجود في العدم إن جاز لنا مثل هذا التعبير.

والخروج من هذا العدم والخواء, يتطلب مجاهدة غير طبيعية, ومصابرة غير محدودة, في التصدي لهذه المفاهيم الجافة التي باتت تحاصر الإنسان (وهو في حالتنا العينية يتجسد بالكائن السعودي) وهذه المجاهدة تتطلب تركيزاً فكرياً واجتهادا عقلياً مكثفاً وإلا لانحرفت هذه المجاهدة بسهولة إلى عمل راديكالي أو متطرف كما كان عليه شأن تنظيم القاعدة أو حتى الادعاءات المناطقية والقبائلية التي تنتشر في وسائل الإعلام غير الرسمية وخصوصاً في الإنترنت, وهي كلها ممارسات تمثل نوعاً من التمرد على الرواية الرسمية, ولكنه أيضاً تمرد المشاغبين والمتهورين, وليس التمرد المبني على دلائل منطقية وعقلية صميمة.

والمنطق هنا لا يعنى به المنطق ضمن معناه الجاف والتجريدي الذي أتى مع أرسطو وفلاسفة اليونان, وإنما هو منطق الحوار والتنوير, منطق العقل وهو يتجلى في الحياة الإنسانية وليس العقل أثناء اشتغاله في العلوم الطبيعية حصراً.  إن العقل هنا وبمعناه النقدي والتحليلي يتصدى للنزعات المتهورة على الواقع (وليست النزعات التي تفهم الواقع لتغيره) وفوق هذا كله فإن الغاية المرسومة من قبل العقل تجد تطبيقاتها المتنوعة في الواقع, غير أن اختفاء هذه الغاية من الأساس سيؤدي حتما لوجود تطبيقات عشوائية وتمردات فوضوية واعتراضات تلقائية يغلب عليها جانب الارتجال وليس التخطيط والتفكير.. ومن هنا يكون للعقل نفسه كلمته ودوره التقويمي والنقدي في العملية الإصلاحية لتحرير هذا الكائن السعودي, فالعقل يحضر في هذا المساق بوصفه الحارس الأمين للعملية التحررية برمتها وليس مجرد مقولة يتم توظيفها مقابل البرهنة ضد الخصوم المخالفين (كما هو الحال مع العقل الأصولي الحجاجي أو العقل الكلامي البائس) وإنما هذا العقل التنويري المزمع – وفي الأساس – عقل يستمد من التنوير والحوار معناه وأساسه, وأي تحرير من غير استحضار العقل وآفاقه الواسعة, سيكون تحريرا ناقصاً, أو فلنقل هو تزوير باسم التحرير.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن طريف السليطي

كاتب في جريدة المدينة باحث في الفكر والفلسفة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق