هل يكون التعبير عن الرأي جريمة؟

الكاتب:

3 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

لطالما حفل الواقع والتاريخ بحالاتٍ جلس فيها الرأي وأصحابه على دكات المحاكمات من أجل أفكارٍ آمنوا بها أو آراءٍ نشروها  بين الآخرين. وكم من غُرف داكنةٍ احتضنت بين جدرانها الكالحة رجالاً أو نساءً لم تكن جريمتهم سوى كلمةٍ نطقوا بها أو حروفٍ كتبوها معبرين عن إيمانهم بأفكارٍ اعتقدوا صحتها وبشّروا بها. فهل من العدل أن يخضع الإنسان للمحاكمة أو يُدان بجريمة لرأي آمن به أو كلمة نطق بها؟

إن مقاربةً مقتضبة  للإجابة على هذا السؤال، تقتضي – بطبيعة الحال-  قدراً من التصور القانوني والفقهي لهذه المسألة وأصولها.

تُعرف الجريمة  في الشريعة – في مفهومها البسيط – بأنها ارتكاب فعل محرم معاقبٍ على فعله، أو ترك فعل محرم معاقب على تركه. وهذا المفهوم يكاد يكون متطابقاً عند علماء الشريعة والقانون، إلا أن مصدر التحريم عند الفقهاء هو الشريعة، وعند رجال القانون الوضعي هو القانون .وقد سار الفقهاء على تقسيم الجريمة باعتبار العقوبة المترتبة عليها إلى ثلاثة أنواع: جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعزير.

والتعبير عن الرأي قد يتخذ صفة النطق اللفظي، أو الكتابة، أو الإشارة، أو الرسم والتصوير، أو البث المرئي أو المسموع أو مجموع ذلك. وهو بهذا المعنى قد يكون محلاً لجريمة القذف، أو جريمة الردة – وكلاهما من الحدود- ، أو قد يكون محلاً لإحدى الجرائم التي تترب عليها عقوبات تعزيرية. ولأن القذف والردة جريمتان محددتان بأركان وشروط وأوصاف منضبطة فإن الجدل فيهما يكاد يكون منحصراً في تكييف الواقعة الجرمية ومدى تحقق الوصف الجرمي المتمثل في جريمتي (القذف أو الردة) على هذه الواقعة، ومدى توفر أركان وشروط الجريمة في هذه الواقعة. ولذا، فإن أغلب حالات الاتهام بارتكاب جرائم ناتجة عن التعبير عن الرأي تكون ضمن النوع الثالث المعاقب عليه بالتعزير. ومن أمثلة هذه التهم: الإضرار بمصلحة الجماعة، تفريق اللحمة الوطنية، تحريض الرأي العام ضد النظام العام وغير ذلك من التهم.

ولأن دائرة الأفعال القولية أو ما يسمى (بالتعبير عن الرأي) واسعة الحدود غير محددة المعالم، سأُضيّق دائرة التأمل وأحصرها  في حالات التعبير عن الرأي التي تستهدف إصلاح الشأن العام، مثل انتقاد أداء بعض سلطات الدولة، أو بيان أسباب انتشار مشكلات اجتماعية كبرى كالفساد أو الفقر أو البطالة، أو انتقاد بعض النّظم الإدارية كتمركز السلطات، وغياب المشاركة السياسية، أو ضعف استقلالية السلطة القضائية أو غير ذلك مما يعالج الشأن العام. فهل يجوز شرعاً أن يكون التعبير عن الرأي تجاه مثل هذه المسائل محلاً لجريمة؟

إن تحديد الوصف الجرمي في واقعة ما ليست مهمّة يسيرة، إذ الأصل هو براءة الإنسان من التهم. ولأجل إكساب الفرد تهمةً ما فلا بد من توافر توصيف فقهي وقانوني دقيق ومحكم، وهو ما يمكن التعبير عنه باجتماع الأركان والشروط العامة والخاصة في الواقعة الجرمية. وتحديد الوصف الجرمي لأفعال الناس وأقوالهم أمر يكاد أن يكون من أدق العلوم القانونية وأخطرها، نظراً لما يترتب عليه من انتقال الفرد من حالة البراءة إلى حالة الإجرام، وما يلحق ذلك من عقوبات وآثار مادية ومعنوية قد تستمر مدى الحياة ولا يمكن تعويضها بحال من الأحوال فيما لو كان التوصيف الجرمي والإدانة بالجريمة أمراً غير صحيح.

ومن المستقر عليه في الشريعة والمبادئ الحقوقية الدولية أن الحرية في التعبير عن الرأي والإيمان به حقّ إنساني أصيل، سواء أكان هذا الرأي يتعلق بشأن خاص أم عام. بل إنه في بعض الأحوال يرتقي إلى منزلة الواجب والمندوب كما هو الحال في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هنا فإن عملية تجريم الآراء التي تتعلق بإصلاح الشأن العام – باسم الشريعة- يجب أن تحاط بأعلى مراتب الحذر، لأن التجريم في هذه الأحوال ينتقل بالواقعة من منزلة الواجب والمندوب إلى المحرّم والمكروه، وينتقل بصاحب الفعل من منزلة الناصح المصلح إلى منزلة المجرم المفسد، وهو أمر بالغ الخطورة حين يتم اتخاذه بخاتم الشريعة والتوقيع عن رب العالمين.

لننظر إلى بعض الأمثلة في حياة أعدل البشر وإمام الأئمة – محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم وكيف تعامل مع بعض الآراء التي انتقدت بعض أفعاله التي تُصنّف ضمن الأعمال والممارسات الإدارية والسياسية.

فعندما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم غزوة حنين، وأعطى قوماً من قريش ومن سائر العرب ولم يعطِ الأنصار من الغنائم شيئاً، غضب الأنصار من رسول الله ووجدوا في أنفسهم، حتى قال قائلهم: والله لقد لقي رسول الله قومه فأعطاهم ونسينا. وهذا التعبير القولي الانتقادي الغاضب من بعض الصحابة الكرام قد يعدّ اتهاماً منهم على عدالة الإمام في توزيع الثروة، وفيه تأليب للرأي العام – لاسيما من الأنصار رضي الله عنهم- ضد عدالة المصطفى صلى الله عليه وسلم. إلا أننا نجد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الموقف كان خالياً من التعنيف والتأنيب فضلاً عن التجريم والعقاب. بل كان خطابه لهم غاية في اللطف واللين في القصة المشهورة المروية في البخاري ومسلم.

وفي موقف آخر عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً بعث به علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من اليمن بين أربعةٍ من الصحابة، جاء رجل وانتقد الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة فجّة قائلاً: اعدل يا محمد، فغضب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهمّ عمر بن الخطاب، وفي روايات خالد بن الوليد رضي الله عنهما بقتله، فنهاهما الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال للرجل: ويحك من يعدل إن لم أعدل. فخطاب هذا الرجل هو تشكيك في نزاهة الرسول صلى الله عليه وسلم ن وانتقاد لعدالته وهو حاكم المسلمين، وبالرغم من أنه اتهام باطل وأسلوب لا يليق مع مقام النبي الكريم، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُخضعه للمسائلة ولا العقاب. والقصة في الصحيحين.

وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المنافقين الذين طالما أشاعوا الفتنة، وحرضوا عليه بالباطل -حتى قال ربنا عز وجل على لسان قائلهم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- تُنبؤنا بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاقب من ينتقده في سياسته وعدله وأن الله عز وجلّ لم يأمره بذلك.

وأما الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأول خطاب ألقاه في الناس بعد مبايعته قال فيه: إني وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. فأثبت إمكانية وقوع الإساءة في سياسته، و مندوبية انتقاده وتقويمه. وكانت خطبة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- بعد توليه الخلافة “إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني, فقام رجل وقال لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا” فقال عمر “الحمد لله الذي جعل في أمة محمد ‏صلى الله عليه وسلم من يقوّم عمر بسيفه” فأثبت عمر رضي الله عنه إمكانية وقوع الخطأ منه، وحث على تقويمه وانتقاده، فضلاً أن يعد ذلك جريمة؟

إن تجريم الرأي المعارض الذي يحمل رؤىً نقدية في مواجهة مؤسسات الدولة أو رجالاتها ينبغي ألا يكون محلاً للتجريم والعقاب، امتثالاً لهدي إمام الأئمة والخلفاء الراشدين من بعده، بل يُفترض أن يحظى بالترحيب والتفاعل كما فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وفي العصر الحديث، يمكن ملاحظة أن الدول التي تنتهج نظام الحكم الفردي ولا تقوم على مبادئ منظومة الحقوق الإنسانية – ومنها حرية التعبير- هي التي تحاكم الأشخاص بسبب آرائهم المعارضة. والسبب في ذلك، أن الفكرة قد تحمل معها قوة الحق الذي يهدد سيادة السلطة المستبدة، والمستبد يعجز عن مقاومة الفكرة بأختها، فليس له حينها إلا أن يستخدم قوة المحاكمة وسلطة التجريم. والأنظمة المستبدة بطبيعتها تفتقد القنوات التي تسمح بتدافع الأفكار وتطورها من أجل الوصول للحقيقة التي قد لا تكون في جانبها، فهي مضطرة إذاً لقمع الأفكار قبل أن تنمو وتصبح خطراً يهدد وجودها وسيادتها.

وقد أشار السياسي والقاضي الإنجليزي توماس إميرسون (1813-1875) – أحد منظري حرية التعبير وعلاقتها بالديمقراطية- أن مبدأ حرية التعبير يخلق التوازن المطلوب بين الاستقرار والتغيير في المجتمعات، وهو يلعب دور “صمام الأمان” ومنفس البخار حين يغلي مرجل الشعب، وهو وسيلة الأمان حين يتجه الشعب للثورة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق