الربيع السعودي في 2011

الكاتب:

31 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

الربيع العربي الذي فاجأ صانعيه قبل غيرهم مطلع هذا العام أنتج سلسلة من التغيرات والتحولات في كل بقعة من العالم العربي، وطرح مجموعة من التحديات والأسئلة الصعبة على الأنظمة والنخب والجمهور العربي، والأهم أنه صنع حركة غير اعتيادية في بلدانٍ كان أمل التغيير فيها شبه معدوم، فقامت ثورات وانتفاضات شعبية مفاجئة ومذهلة، وامتد أثره لبلدان أخرى ليسهم في إنهاء حالة الركود التي استمرت طويلاً،وهنا تحديداً يتجلى أثر الربيع العربي في السعودية.

كما في بقية الأقطار العربية كذلك في السعودية، لم يكن الواقع الجديد وليد عامل واحد، ولم تصنع الصورة الجديدة هذا العام لكنها ظهرت فيه بشكل أوضح، فالطاقات الشبابية المعطلة بالكبت والمحظورات حاولت في السنوات الأخيرة التعبير عن ذاتها بكل الطرق المتاحة، وثورة الاتصالات والانفتاح الإعلامي الهائل في العقد الأخير أربك مفاهيم كثيرة أرادت القوى التقليدية السياسية والاجتماعية لها أن تسود، لكن ما حصل بداية هذا العام اختصر سنوات طويلة على مستوى الوعي الشعبي السعودي.

أَثَرُ الربيع العربي في إنتاج تحولاتٍ فكرية يبدو واضحاً في السعودية، فبعد أن كان الإعلام الرسمي يروّج لمفاهيم الاختلاط والسينما باعتبارها القضايا الفكرية التي تتصدر المشهد السعودي جاءت الثورات لتطيح بكل هذا، وبدأت مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات تزاحم مفاهيم الإعلام الرسمي وتتفوق عليها لتصبح حديث الناس ومحور نقاشاتهم، حدث هذا نتيجة التفاعل الشعبي الكبير مع الثورات العربية الذي أربك حسابات الإعلام الرسمي غير المتصالح مع هذه الثورات وأسقطه من حسابات الناس، وتكونت شريحة شعبية وجدت في الإعلام الجديد مكاناً مناسباً لطرح آراء مختلفة وتوجيه نقد قاسٍ للإعلام التقليدي ورموزه بسبب غياب الجرأة والمصداقية.

بدا بعد الربيع العربي أن ممانعة فئاتٍ محافظة للديمقراطية تتقلص كثيراً، وأن ما أنتجه الشباب في ميادين التحرير والتغيير من تكريس لمفهوم الدولة المدنية كمدخل ضروري لإقامة نظام عربي جديد وجد صداه عند شريحة مهمة من الشباب السعوديين، لكن الأهم أن كثيراً من السلفيين والتقليديين بصفة عامة في السعودية والعالم العربي يعون اليوم أنه لا مكان لمن لا يلتقي مع التطلع الشعبي للديمقراطية في الواقع العربي الجديد الذي يتشكل حالياً، ورغم وجود ممانعة من قبل بعض الرموز المحافظة وليبراليي الإعلام الرسمي لكل ما جاءت به الثورات إلا أن هذا لا يعني عدم وجود اختراقات حقيقية في صفوف من كانوا بالأمس معادين لفكرة الديمقراطية ورافضين لها.

المثقفون المهتمون بالتغيير والإصلاح عاد لهم الأمل وأحياهم الربيع العربي من جديد، فعادوا إلى التفاعل بقوة مع الأحداث المتلاحقة، وعادت المطالب الإصلاحية في بيانات أخذت هذه المرة طابعاً شعبياً أضاف زخماً كبيراً للموقعين الأساسيين الذين شكلوا طيفاً وطنياً متنوعاً شمل رموزاً من خلفيات فكرية مختلفة نادراً ما تجتمع بهذا الشكل، وإذا كان إصدار البيانات المطالبة بالإصلاح ليس جديداً في السعودية بعد تعدد البيانات في العقدين الماضيين فإن المشاركة الشعبية هذه المرة أعطت بعداً جديداً قد يُنشئ – إذا جرى استثماره – كتلة شعبية حقيقية تكون رافعة للإصلاح والتغيير في البلاد.

الأهم من البيانات الإصلاحية في هذه السنة هو تشكّل كتلة شبابية تتوسع مع الوقت وتقوم بـ”ثورة” على التيارات التقليدية، فهؤلاء الشباب الذين برزوا بشكل قوي ومؤثر مع الربيع العربي في الإعلام الجديد انتقلوا مثل أقرانهم في العالم العربي من ضيق الأيديولوجيا ومعاركها الصغيرة إلى سعة المطلب الوطني والإنساني العام. إنهم الشباب المنحازون بشكل واضح لمطالب الحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي، وهم جميعاً يشتركون في الرغبة في التعبير عن ذواتهم والتطلع لتغيير يتماشى مع متطلباتهم وحاجاتهم، وفي الإحباط من عدم الفهم الذي يقابل به خطابهم والناتج عن الفجوة الكبيرة بينهم وبين أجهزة الدولة التي أصابتها الشيخوخة. هؤلاء الشباب يكونون اليوم نخبة جديدة واعية لها تطلعاتها ومطالبها المشروعة، وهم ومن في عمرهم يشكلون أغلبية السكان، وقد حان وقت التفاهم معهم بلغة يفهمونها، لأن اللغة القديمة لم تعد تقنعهم.

ما حدث أن الطاقات الشبابية انتقلت إلى الفعل، واستثمرت فضاء الانترنت المفتوح لصناعة واقع بديل في العالم الافتراضي، فجاء النشاط الإعلامي عبر البرامج المستقلة في “يوتيوب” والكتابات النقدية الجريئة في “تويتر” لتعبر عن تغيير عملي أحدثه النشاط الشبابي أحرج الإعلام الرسمي كثيراً، واضطر رموزه في غير مرة إلى الهجوم بشكل مباشر وفج على “الحقوقيين” بما يعني اعترافاً بتأثيرهم المتنامي في تشكيل الرأي العام.

الوعي الحقوقي وثقافة المطالبة بالحقوق ظهرت بشكل مميز هذه السنة عبر إضرابات واعتصامات في الشركات والمستشفيات للمطالبة بتحسين الأوضاع المالية أو الاعتراض على قراراتٍ جائرة، وكذلك عبر الاهتمام الكبير بقضية المعتقلين والتفاعل معها، وتبدو هذه المسألة في غاية الأهمية لجهة ارتباطها بشكل مباشر بإرهاصات الربيع العربي وتوضيحها لحجم التغيير في السلوك الاجتماعي تجاه تغييب الحقوق والذي كان يقابل عادةً بالصمت المطبق.

يمكن رصد شواهد عديدة تؤكد وجود ربيع سعودي هذه السنة على المستوى الشعبي، مع الإقرار أنه في مراحله الأولى، وأن التعاطي الرسمي معه يشير إلى عدم استيعاب التحولات التي يمثلها، وهو في هذا الإطار بحاجة إلى مزيد من التجلي ليكون واقعاً معاشاً، وهنا تقع المسؤولية على الشباب الذين صنعوا هذا الربيع ليحافظوا على ما تحقق ويبنوا عليه.

كي يستمر هذا الربيع ويُزهر لابد من التوجه للناس ومخاطبتهم بلغة يفهمونها بتفكيك المصطلحات المستخدمة في الخطاب الشبابي الإصلاحي وتوضيح هذه النخبة من الشباب لمطالبهم بشكل سلس وواضح،وإيصال أفكارهم لأقرانهم عبر ربط مفاهيم المشاركة الشعبية في صناعة القرار وبناء المؤسسات وسيادة القانون بما يشتكي منه الناس من سوء الخدمات والتردي الاقتصادي والفساد والمحسوبيات.

وكي يُزهر هذا الربيع لابد من استمرار النشاط الشبابي في فضاءات الإنترنت كمحاولة لإيجاد بديل لمنظمات المجتمع المدني المغيّبة حتى الآن، وكتعويض عن التهميش وعدم استيعاب المؤسسات الرسمية لهم،وألا يكون هذا النشاط رد فعل بل صانعاً للفعل وقادراً على إيصال الرسائل المطلوبة بصراحة ووضوح.

وكي يُزهر الربيع السعودي لابد لهذه النخبة الشابة أن تحذر من محاولات إدخال الفئات الاجتماعية المختلفة في صراعات فئوية تحرف مسار هذا الربيع وتطعنه في الظهر، فالانشغال بصراعات فئوية ومعارك صغيرة يقضي على المطلب الوطني ويبعثر الجهود ويلغي كل ما يعمل الشباب المتحمس لأجله، لذلك يبدو التشديد على احترام الاختلافات وذوبان المطالب الصغيرة في المطلب الوطني العام ضرورة لاستمرار هذا الربيع، وعلى الشباب مسؤولية مواجهة المسرحيات الإلهائية بكافة أشكالها.

انطلق الربيع السعودي بالفعل، ولا يمكن التنبؤ بتطوراته، فقد علمتنا هذه السنة بالذات التقليل من التنبؤات والإكثار من المراقبة والاندهاش، لكن الأهم أنها علمتنا التقليل من التنظير والإكثار من الأفعال. الفعل الشبابي وحده يصنع التغيير لا التنظير والنبوءات.. هذه خلاصة 2011.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق