السعودية: صورة العهد القديم.. والعهد الجديد!

الكاتب:

28 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

عندما تظهر متغيرات ومعطيات جديدة في أي مجتمع، تبدأ النماذج والصور القديمة بالسقوط والاختفاء، وعدم قدرتها على البقاء والمقاومة. فتبدو الأجيال الجديدة غير قادرة على إدراك التفاصيل التاريخية لنشأة هذه الصور والظروف التي صنعتها. في مثل هذه المرحلة تولد تحديات سياسية واجتماعية ودينية من نوع آخر. الجيل القديم يفقد القدرة على تحديث الصورة التي يؤمن بها، أو إزالة آثار الزمن التي تراكمت عليها، بعد أن أصبحت لا تثير إعجاب الجيل الجديد. هنا يبدأ الجيل الجديد في التمرد على الصورة القديمة إلى درجة إنكار وجودها، لأنه افتقد التصور للسياق التاريخي الذي نشأت فيه.

في زمن الإنفتاح الإعلامي وتعدد خياراته لم يعد هذا الجيل يلقن هذه الصورة إلا في الأجواء الرسمية التعليمية. أما في الأجواء الأخرى فهو يستقبل النكات والسخرية والتذمر من شكل الصورة القديمة. هذا الجيل بدأ وعيه في مرحلة أخذت تظهر بعض التشوهات على هذه الصورة  دون استيعاب للصعوبات التاريخية التي صنعتها. ما يحدث من صراعات وتوترات فكرية وسياسية في هذه المرحلة، وما نشاهده من جدل واختلافات وتخوين متبادل أحيانا، هو في حقيقته صراع على الصورة المتخيلة للمجتمع السعودي في الحاضر والمستقبل.

ما يميز التجربة السعودية الحديثة تاريخيا، أن الصورة المتخيلة لفكر الدولة أو مشروعها كان حاضرا منذ بدايات الـتأسيس. كان لسيطرة الجانب السياسي والديني على مختلف المجالات دورا في صناعة الصورة، قبل أن تظهر مؤثرات جديدة. ومن يطالع لغة وأفكار العقود الأولى من تأسيس الدولة في الإعلام، وأدبيات تلك المرحلة في أذهان النخب الرسمية والدينية والثقافية، سيجد أن الدولة التي نعرف سلوكها وخطابها وطريقة إدارتها، وتصوراتنا الذهنية التي تشكلت في وعي الأجيال التالية منذ الستينات والسبعينات، وما بعدها بنجاحاتها وإخفاقاتها صممت قبل ظهور المجتمع السعودي الجديد. صورة هذه الدولة في الذهن الشعبي تم إنتاجها  مركزيا من قبل نخب سياسية وخبراء ومستشاري تلك المرحلة، فظهرت خطابات نمطية في رؤية الواقع، ونوعية القيم السياسية والاجتماعية الجديدة وعلاقة الدولة بالمجتمع. وأخذت اللغة السياسية والإعلامية والدينية أشكالا محددة.

لقد كان إنجاز هذه الصورة قبل نمو وظهور المجتمع الجديد من أنجح الأعمال السياسية والإعلامية التي سهلت الإنتقال إلى مراحل تالية من خلال وضع خطاب عام، يتم تدويره في مختلف الوسائل الإعلامية والكتابات واللقاءات،  ليتحول جزء كبير منه إلى لغة شعبية نمطية، شكلت شخصية ووعي الفرد السعودي في تلك المراحل المبكرة. لقد كانت صناعة هذه الصورة الذهنية للمجتمع قبل أكثر من نصف قرن عمل ذكي، بغض النظر عن الأخطاء والتحفظات التي يمكن أن تقال عن أي تجربة. لأنه في مجال الفكر السياسي العملي كان لا بد من صورة تحدد معالمها عبر الإعلام والتعليم والخطاب السياسي والديني والثقافي. لقد نجحت النخب من الأجيال الأولى في ترسيخ هذه الصورة وتنميطها شعبيا، لأنهم انخرطوا بمسؤولية مع مشروع الدولة، لكن هذه القدرات بدأت تضعف مع النخب الرسمية والإعلامية والثقافية المتأخرة، لغلبة النفعية والنفاق السياسي والفكري والظهور بعدة أوجه، فضعف تأثيرهم كثيرا بعد مرحلة الثمانينات، وبدأت تظهر معالم الشيخوخة في الخطاب التقليدي.

مع نهاية التسعينات وتطورات تقنية الإتصال والإنفتاح الإعلامي، كانت منظومة من الأفكار والتعبيرات قد استنفذت صلاحياتها إعلاميا، وتحولت في حالات كثيرة إلى مادة للسخرية والتعليقات الشعبية. وأصبح اتصال الجيل الجديد بالخطاب الإعلامي الرسمي وصحافته في أدنى حالاته التاريخية. في هذه المرحلة بدأ ظهور بعض المثقفين والكتاب الجدد مع موجة النقد في السنوات الأخيرة، ومع حالات الاستقطاب تحول البعض منهم  إلى تابع رديء يفقد روح وأخلاق  المسؤولية في تقديم الرأي وفي الأزمات التي تواجه المجتمع أخذ يبذل ذكاءه فقط في كيفية إرضاء ذهنيات رسمية محددة.

منذ أن واجهت الصورة القديمة تحديات جاذبيتها، كان يجب التفكير رسميا بهذا التحدي، وضرورة تطوير الصورة عن الوطن بمنهجية ورؤية استراتيجية واستحضار لطبيعة وعي المجتمع الحديث ومعطيات العصر. من الخطأ استعادة وعي قديم يناسب مراحل سابقة بمحاولات إعلامية عقيمة. ليس المطلوب إلغاء الصورة القديمة أو تغييرها، وإنما تحديثها برؤى عقلانية تحترم المجتمع. لم يكن تصميم صورة العهد القديم أمرا سهلا، في عالم الحرب الباردة وما قبلها. كانت عملية فكرية وسياسية معقدة تواجه دولة ناشئة، ومجتمع في بداية تشكله الحديث، وفي أجواء عالمية مليئة بالمتغيرات الكبرى والثورات الشمولية والانقلابات العسكرية، والصراعات الأيدلوجية.

مما ساعد على مواجهة تلك التحديات خلال أكثر من نصف قرن إمكانية عزل المجتمع عن أي متغيرات والحد من انتشار خطابات أخرى، تنافس الخطاب الذي يحدده الرقيب ويسمح به. لقد كان هناك تأثر بخطابات وأيدلوجيات أخرى لكنه كان محصورا في نخب محدودة جدا بسبب اطلاعها الذاتي. ومع تحولات هذه النخب أصبحت جزءا من خطاب الممانعة وتحصين المجتمع لمواجهة تلك التحديات الفكرية والسياسية.

لهذا تعاني صورة العهد الجديد المفترض تحديثها  تحديات من نوع مختلف. هذا التحدي ليس فقط لجهات رسمية تتحرك ببيروقراطية معقدة، وإنما لكل فرد في المجتمع وخاصة النخب العلمية والثقافية مهما كان الاتجاه الذي تؤمن به وطبيعة تصوراتها السياسية والإجتماعية. فلن تنجح  أي أفكار نقدية ومثالية للواقع لا تستحضر الصورة التي تريدها للمجتمع وفق ظروفه التاريخية  وإمكانياته. تفقد الكتابات النقدية عن المشكلات الفكرية والسياسية والدينية روح التخيل الممكن والمعقول عن الصورة التي نريدها للمجتمع السعودي وللدولة وفقا لتوزانات ومعطيات عديدة  تكون متسقة مع روح العصر وتحدياته الجديدة! ما الذي يعيق الصورة الجديدة من التشكل  لتكون أكثر جاذبية للجيل ومحترمة لتطوره المعرفي، ولتهذب الكثير من الصراعات الفكرية والسجالات العقيمة حول جوانب  هامشية في أحيان كثيرة؟!

في السنوات الأخيرة مع تعثر الصورة القديمة في جذب الجيل الجديد، نشهد حالات تيه وفقد للرؤية الاستراتيجية في الخطاب الإعلامي للمجتمع الذي نريد. فحتى الأقلام والأصوات الرسمية وشبه الرسمية فقدت القدرة على صياغة تعابير تناسب المرحلة في مخاطبة المجتمع وترضي المسؤول الذي وضعه في هذا المكان أو ذاك، وفقدت هذه الأصوات مصداقيتها مع كل ظهور إعلامي أو كتابة صحافية للتأثير على الرأي العام، وحتى من يملك بعض المهارات الخطابية في اللعب بالأفكار وصناعة المغالطات يعاني من أزمة الصورة التي نريدها فعلا لمجتمعنا. إنها مجرد تعبيرات دفاعية مؤقتة لا تستطيع الصمود أمام حجم المتغيرات التي يواجهها المجتمع.

حتى إن التيار المحافظ بمختلف أطيافه، والذي كان لعدة عقود يتملك بعض الإستقلالية والوضوح في رؤيته الخطابية أخذ يعاني هو الآخر من التفتت والتفكك، وأصبحت الأوليات لديه مرتبكة جدا حتى في مشروعه الدفاعي عن القيم والأخلاقيات التي يرى أن مسؤوليته الأخلاقية تفرض عليه الإهتمام في هذا المجال.

إن الخطاب الصحافي لم ينجز حتى الآن ما يستحق في صناعة الصورة التي نريدها، ولأنه في بعض ممارسته يفتقد لروح وأخلاق المسؤولية فإنه ساهم في صناعة واقع غير حقيقي لأولويات المجتمع ومشكلاته بعد أن أتيح للصحافة هامشا مؤقتا للتركيز على نقد جزئيات اجتماعية ودينية لصناعة فرقعات إعلامية إضطرارية!، حتى إن الحوار الوطني الذي كان من المفترض أن ينجز بعض معالم هذه الصورة تحول هو الآخر إلى مسار بيروقراطي عقيم فاقدا جاذبيته الإعلامية.

الجميع مهما كان اتجاهه ومركزه أمام مسؤولية تاريخية لصناعة صورة المجتمع الذي يتكيف مع تحديات العصر الثقافية والسياسية مع الإحتفاظ بالهوية التاريخية. إن أحداث الربيع العربي هي في جوهرها لحظة إنهيار كبرى للصورة، نتيجة لعدم الرضا الشعبي عن أنظمة أرادت تجميد الصورة التي تشكلت لتلك الدول في أزمنة الحرب الباردة، ومرحلة ما بعد الاستعمار!

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق