الصحافة السعودية في غرفة الإنعاش..!

الكاتب:

27 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

بينما يرتفع سقف حرية التعبير عاليًا في المنابر الإلكترونية الحرة ومواقع التواصل الاجتماعي، ليتيح للأقلام التنفس بصوت عالٍ وممارسة النقد بشفافية وشجاعة، ومقاربة قضايا إشكالية حساسة بجرأة وصراحة – نحن أحوج ما نكون لها اليوم – ، يكاد يجثم ذلك السقف على أنفاس الأقلام  في الصحافة الورقية مانعًا عنها الهواء والنور، ليجبر الكاتب على التحرك في مسارات محددة لا يحيد عنها ولا يميل؛ وإلا نبذته الصحافة ولفظت به بعيدا عن بلاطها.. ! وكل من كتب ويكتب  في صحافتنا الرسمية يعلم تمام العلم أنه يمشي في حقل من الألغام لا يعلم  متى تميد به الأرض، أو متى تخرج له أثقالها.. ؟! والمتأمل للمشهد الإعلامي الصحافي والراصد لحركته وسيرورته سيلاحظ أن العلاقة عكسية ما بين حرية التعبير الإلكترونية ونظيرتها الورقية، فذلك الانفتاح الذي يشق عنان الفضاءات الإلكترونية مشخصًا ومحللا وناقدًا ومفككًا للمقولات النمطية والأساطير الوهمية؛ يقابله على الورق تحفظا وانغلاقًا وتجاهلا وتغييبًا للكثير من القضايا الهامة التي تشغل الرأي العام السعودي.. رغم  أن زمان الصمت  قد ولى إلى غير رجعة في ظل سماوات تتمدد بوسع المدى الإلكتروني الشاسع  الذي لا تحده عوائق جغرافية ولا تسيّجه حدود رقابية..! وفي مجتمع شاب رضع استخدام وسائل الاتصالات الحديثة مع أول لثغاته وخطواته يبدو مستقبل لصحافة الورقية مهددًا بالانقراض المبكر جداً، والسابق حتى لتوقعات الخبراء والمختصين..!  فالمتلقي، الذي  ساعده تعدد الروافد الإعلامية واختلافها وتمايز توجهاتها على الفرز والتمحيص وامتلاك آليات نقد الخطاب الإعلامي وتفكيك مفرادته ورصد مواطن الضعف والخلل فيه، يفقد ثقته بالصحافة الورقية التي تستخف بعقله  شيئا فشيئا.. حتى أصبحت السخرية اللاذعة واللغة التهكمية هي السمة الأبرز للإعلام  التفاعلي – سواء في بعض مواقع  الصحف الرسمية أو في مواقع التواصل الاجتماعي – على تلك النوعية من الأخبار والمقالات السادرة في الاستهانة بذكاء القارئ وقدرته على قراءة ما ورائياتها..! وفيما تغيب قضية اعتقال فريق عمل البرنامج ” اليوتيوبي ” ” ملعوب علينا ” عن الصحافة الورقية ولا نكاد نسمع لها ركزًا ، تكاد مواقع التواصل الاجتماعي أن تتفجر من فرط التفاعل والتعاطف مع ” فراس بقنة ” وصحبه الذين كانت جريمتهم أن عشقوا وطنهم وأحبوه وتفاعلوا مع هموم الناس وشجونهم..! وفيما يتورط  بعض الخطاب الصحافي في شرذمة المجتمع وإشعال الصراعات وممارسات الإلهاء بالدفع بالقضايا الهامشية إلى الواجهة، ولا يتورع بعضه الآخر عن استخدام مفردات ” طائفية ” تذكي الفتن وتؤجج الأحقاد تارة، ولا يرى ثالث بأسا في التردي لمحاولات فجة ومكشوفة  للتضليل وتزييف الوعي بتزيين وتحسين صورة العدو الإسرائيلي الغاشم وتصويره على أنه حمل وديع تارة أخرى، يتنامى وعي المتلقي وينضج ليتناول بمشرط السخرية اللاذعة وسلاح ( الهاش تاق ) الماضي  تلك المقالة الصحفية مشرحًا أفكارها ومفندا تناقضاتها وموضحًا وكاشفا مغالطاتها..! وإن كانت محاولات تزييف الوعي الساذجة مقدورًا عليها ومن السهل كشف عوارها ورصد مواطن ضعفها، إلا أن الخطورة في الأخرى الملعوبة بحرفية عالية والتي يتم فيها تخدير وعي المتلقي بإيراد بعض المعلومات الصحيحة المشفوعة بتحليل تحايلي ذكي، ليتم بعدها ليّ عنق الحقائق وحقن وعي القارئ وتوجيهه، وهنا يصبح من لزوم ما يلزم على الأقلام الحرة الشريفة تسليط مجهر النقد على هذه المحاولات وتفكيك مفرداتها.

الراصد للصحافة السعودية  لابد أن يلاحظ أيضاً انحدار خطاب بعض الصحف للمناطقية  وإثارة النعرات، ناهيك عن العنصرية المقيتة والشوفينية والاستعلاء على الإخوة العرب؛ فيما لا يجد حرجا من التعميم والغمط والخلط واستخدام  لغة حافلة بالإثارة والفجاجة.. متضمنة إيحاءات تنتقص وتحقر جنسية عربية  معينة مخالفًا بذلك أبجديات المهنية الصحفية..! فيما تهبط بعض الصحف إلى نشر مقالات ” شخصنة ” فجة وهابطة تنحدر فيها اللغة إلى التبخيس والانتقاص والمعايرة بالشكل بعيدًا عن مناقشة الفكر أو مقارعة الحجة بالحجة..! وفي استخفاف تام بالمتلقي وعدم اكتراث بالمهنية الصحفية ولا المصداقية يخرج علينا كاتب عمود يومي بمقالة مليئة بالمغالطات، ينال فيها من الصحفية اليمنية  المناضلة الفائزة بجائزة نوبل للسلام  ” توكل كرمان ” دون أن يكلف نفسه عناء التحقق عما اقترفه قلمه بحقها..! وعندما يحاصره الإعلام التفاعلي ويطالبه القراء بالاعتذار،  يتفتق ذكاؤه عن مقالة اعتذار تتضخم فيها الأنا ويعلو فيها صوت النرجسية صاخبا  فوق كل صوت..!

لا يبدو مستقبل الصحافة الورقية مبشرًا بالخير في ظل تزايد وتكاثر الخطوط الحمراء والمحظورات السياسية، وعدم استقلالية المؤسسات الصحفية وفشلها في مواكبة الإعلام الجديد والارتفاع لمقاييسه في الجرأة والشفافية، ناهيك عن خضوعها لديكتاتورية الرقيب الصارمة المسلطة أبدا على أسنة الأقلام.

كل المعطيات وواقع الحال يقول بعالي الصوت أن صحافتنا اليوم تمر بحالة وفاة دماغية وتعيش على الأجهزة داخل غرفة الإنعاش، ويكفي أن مقولة مثقفنا الكبير الراحل ” عبد الله عبد الجبار “قبل نيف وخمسين سنة ما تزال تنطبق عليها،  حيث قال: “صحافتنا اليوم أمرها عجب بين صحف العالم، فهي ليست صحافة خبر، وهي كذلك ليست صحافة رأي، فالخبر يمنعه الرقيب الصغير والرأي يقتله الرقيب الكبير، إلا ما كان من رأي أو خبر يتفق مع مصلحة الحاكمين..”

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق