النسوية السعودية والإصلاح السياسي

الكاتب:

21 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

من المعضلات التي توجِدها الأبوية السياسية في المجتمع؛ خلق حالة من الانفصال بين الإصلاح السياسي والاجتماعي المطلوب لنظام غير ديموقراطي، والحراك النسوي الهادف إلى تحسين مكانة وحقوق المرأة في المجتمع. فالسياسي الأب هو من يصوغ الرؤية السياسية للتعامل مع كلا الموضوعين، وعبر  ممانعته تجاه الإصلاح و تفتيت تمركز الثروة والسلطة و محاصرة تفشّي الفساد، بينما في الوقت ذاته يُبدي هذا الأب السياسي استعداداً لتقديم تنازلات للمسألة النسوية وللناشطات المتلهفات إلى إنجاز شيء لصالح المرأة؛ فإنه يخلق وضعاً تبدو فيه قضايا المرأة مسألة منفصلة عن قضايا الإصلاح عموماً، بل و أكثر من هذا: يخلق وضعاً يبدو فيه أن إصلاح حال المرأة ممكن دون إنجاز إصلاح على باقي الصّعُد، و هو ممكن فقط لأن الأب السياسي يملك السلطة غير المحدودة التي تسمح له بالانفراد بالقرار وفعل ما يشاء. و في اللحظة التي تكون فيها مشيئته هي منح المرأة هذا الحق أو ذاك بينما يغضّ النظر عن مختلف مطالب الإصلاح؛ فإنه ينجح في احتواء الطاقة النسوية محوّلاً إياها من إحدى قوى التغيير، إلى إحدى دواعم الأبوية السياسية وبقاء الحال على ما هو عليه. هناك إشارة مبكرة تاريخياً من (هيوم) إلى وجود نوع من المقايضة الاجتماعية التي تحدث ضمن بناء الدولة السياسي بحيث ترضخ المرأة لفقدان أغلب حقوقها مقابل الحصول على الحُب و المكافآت الأبوية؛ و هي إشارة متّسقة مع السياق الموصوف أعلاه. ويبدو أيضاً أن هذا المشهد بكامله، يمثل وضع العلاقات القائمة في السعودية بين النسوية، والقيادة السياسية، وتيار الإصلاح السياسي.

عندما قرر الملك أواخر سبتمبر الماضي إدخال المرأة إلى مجلس الشورى والمجالس البلدية، تمّت مقابلة هذه “المِنحة” من قِبل القوى النسوية بالاستبشار والمزيد من التأكيد على الثقة بالملك والرهان على ما يُمكن أن يمنحه للمرأة مستقبلاً، والحقيقة المدهشة هي أنه ما من شواهد واقعية وتاريخية تبررّ هذا الرّهان. على العكس، تؤكّد الشواهد أن الأبوية السياسية السعودية حرصت على إبقاء مكافآتها للنساء بحدود أقل ما يُمكن إعطاؤه، رغم الصلاحيات الواسعة للقرار التي يتمتّع بها الملك، و يمكن بهذا الصدد ملاحظة أن الجهود الحكومية الدائمة لتبرير ضآلة المكافآت بالممانعة الاجتماعية و ضرورات التّدرّج، هي بالدرجة الأولى جهود لصرف النظر عن هذه المفارقة اللافتة بين ما يُمكن منحه، وما يتم منحه فعلاً. كان من اللافت للنظر أن أشدّ المعلّقين حماسة لقرار الملك لم يستطِع أن يقدّمه ضمن قائمة طويلة من الـمِنح المعطاة للمرأة بحيث يبدو تمكين المرأة كتوجه سياسيّ ثابت، فالقائمة قصيرة جداً و شديدة الرمزية، بينما لجأ بعض المعلّقين إلى وضع أشياء كاستقبال الملك وفداً نسائياً أو التقاط الصور مع بعضهنّ؛ على قائمة المِنح التي يُسميها “منجزات” المرأة! البعض الآخر الأكثر صدقاً أشار بوضوح إلى أن لقرار الملك إيجابيات لكنها مشروطة بإصلاح النظام السياسي ذاته، وهو ما يعني ضمناً أن الإصلاح الحقيقيّ متعلّق بشيء آخر سوى وجود المرأة في الصورة. تلهّف النسوية السعودية للإنجاز وشعورها أن وضع المرأة بالغ السوء يجعلها ترى حتى الإشارات الرمزية وغير المقصودة لذاتها، مكسباً ثميناً، وتحوّل النسوية إلى شكلٍ من الآيديولوجيا اليائسة يُفقدها القدرة على – أو  ربما الرغبة في – التمييز بين القرار السياسي الذي يقصد ابتداءاً أن يكون لصالح المرأة، والقرار الذي يستفيد من كونهِ “يبدو” كذلك؛ و كذا التمييز  بين الرمزيّ والفعليّ في التحركات السياسية تجاه المرأة. تُشير واحدة من برقيات ويكيليكس إلى إحدى هذه الحالات الطريفة التي يبدو فيها القرار السياسي نصيراً للمرأة وحقوقها، رغم أن الدافع الحقيقي للقرار كان بعيداً كُلية عن هذا الهدف. فمعركة إصدار بطاقة الهوية الوطنية للمرأة عام 2001 م التي بدت في النهاية كانتصار نسوي وبداية للاعتراف بالمرأة كمواطنة؛ كان سببها الحقيقي الاحتياطات الأمنية التي دعت إليها الضرورة بعد تفجيرات 11 سبتمبر. وفي منظور النسوية السعودية أيضاً يبدو  كأن ما يصبّ في مصلحة النخبة النسائية؛ هو ذاته ما يصبّ في صالح المرأة عامّة، رغم وجود تمايز واضح بين مصالح النخبة في نظام غير ديموقراطي، ومصالح القاعدة الاجتماعية العريضة، وعلى هذا، فإن دخول المرأة مجلس الشورى لا يعني بحال أنها ستعمل على استيلاد القرارات لصالح عموم النساء، ولا أنها ستُفارق السائد سياسياً في معاييرها وأدائها. بعض الدراسات الاجتماعية تشير إلى أن المرأة العربية عندما شاركت في التشريع والحكم استخدمت الأساليب ذاتها التي يستخدمها الرجل العربي، فالجندر مثلما أنه لا يعني افتراض أن المرأة أدنى من الرجل؛ فإنه لا يعني أنها أفضل منه. ثمة شاهد خليجي معاصر على هذا، فعندما انتُخبت عضوات مجلس الأمة الأربع في الكويت عام 2009م لاقى هذا استبشاراً  واسعاً وكان انتصاراً اجتماعياً للمرأة على مُمانعي مشاركتها، لكن العضوات رغم درجاتهنّ الأكاديمية؛ أدّين بعد ذلك أداء “العابر سياسياً”، تماماً مثل كثير من الأعضاء العابرين في الحياة السياسية الكويتية الذين ينصبّ تركيزهم على تحقيق أكبر قدر من المنفعة الشخصية قبل الخروج من المجلس (باستثناء أسيل العوضي التي مازالت تتصرّف كسياسية حقيقية). يبدو بعد كلّ شيء أن السياسة الأبوية التي هي مزيج من تغذية “العشم” النسوي في الأب مع إبقاء مِنَحهِ لهنّ في حدودها الدنيا؛ تعمل جيّداً و تنجح في إبقاء النساء متصالحاتٍ مع الأبوية السياسية ومجمل نظامها، خصوصاً في ظل خوفهنّ المشروع من تحالف باقي القوى الاجتماعية ضدّ حقوقهنّ، وهو الخوف الذي يتعمد الأب تضخيمهُ أحياناً ليلعب دور “البعبع” ويُساعد على إبقاء النساء تحت جناحه، والحصيلة هي إخفاق النسوية حتى في الاستفادة من الأبوية السياسية بمكاسب حقيقية للمرأة.

كنتيجة لهذا الانفصال بين القضية النسوية وعموم قضايا الإصلاح؛ فإن معظم النخب النسائية منخرطة في هذا النمط اللين من النسوية، وأعدادٌ أقلّ منهنّ تتبنّى خطاب الإصلاح السياسي، لكن بات من الضروري في هذه المرحلة التوقف وإعادة النظر في موقف النسوية من قضايا الإصلاح، وإعادة تقييم جدوى استمرار الرهان على الأبوية السياسية. طالما برّرت النخب النسائية انفصالها بقضاياها عن عموم القوى الاجتماعية بمعاداة هذه القوى للمرأة على أسس دينية أو محافظة اجتماعياً، وبكون الأب السياسي هو الملاذ الوحيد الحامي للمرأة في وسطٍ معادٍ. واللافت أن إعادة قراءة سيرة بعض القضايا النسوية بذهن متجرّد من هذه الأسطورة؛ يُفضي إلى أسئلة واستنتاجاتٍ مختلفة. فقضية قيادة السيارة التي تجددت هذا العام بفضل منال الشريف، يُفترض أن يكون السؤال الأول فيها، ليس “لماذا الممانعة الاجتماعية؟” بل “لماذا أهملت القيادة السياسية هذه القضية بحيث تواصلت الممانعة الاجتماعية؟”، فعمر القضية أكثر من 20 عاماً، لكنها ماتزال تراوح في محطتها الأولى رغم امتلاكِ القيادة السياسية أدواتِ التحكّم الكافية لتهيئة المجتمع تدريجياً ثم تمرير القرار، لكنها بدت غير مبالية حقاً طوال هذه الأعوام بينما ظلت تتحجج بالممانعة الاجتماعية، رغم أنها بدت مِقدامة في مواجهة الممانعة الاجتماعية في قضايا أخرى ومستعدة للمواجهة! و كان من العجيب أن تبتهج النساء بعد كل هذا بقرار دخول مجلس الشورى وأن يصفه بعضهنّ بـ”الاستجابة التاريخية لمطالب المرأة” رغم أنّ مطالبهنّ في ذات الوقت كانت تتركز في أقدم قضية نسوية (قيادة السيارة)! أما الجدل الذي أعقب توقيف منال الشريف ورغم محاولات الإعلام الحكومي تصويره كتصدٍّ ليبراليّ للبعبع الإسلامي؛ فقد كان في الحقيقة مواجهة فكرية بين إسلاميين وإسلاميين آخرين توّلوا الدفاع والتأصيل لحرية الحركة كحقّ للمرأة، بل كانت بعض المقالات الصحافية ذاتها عالة على أفكارهم؛ وهو ما يعني وجود جبهة إسلامية إصلاحية مُستنيرة يمكن للنسوية أن تتقارب وإياها، وأن تنفتح على المشاركة مع باقي القوى الاجتماعية في دعم الرؤية المدنية للإصلاح السياسي، بحيث تتموضع حقوق المرأة في قلب هذا المشروع الذي قد لا يملك أصحابه حالياً تنفيذ رؤاهم؛ لكنهم يملكون تهيئة القاعدة الاجتماعية لها وهم على الأغلب أكثر صدقاً في إيمانهم بحقوق المرأة من الأب السياسي الذي يميل إلى “استخدام” حقوق المرأة كورقة سياسية يوظفها لصالحه عند الحاجة، لا أكثر. سببٌ آخر قد يدعو النسوية السعودية للانفتاح على الإصلاح السياسي: وهو أن سقف طموحهِ أعلى ورؤاه للمرأة أوسع مما تطرحه النسوية عادة، رغم أنها قد تتخيّل العكس. فبينما تطالب النسوية التقليدية بتعيين المرأة في مجلس الشورى (أي أن تدخل المجلس بإرادة فردية من قِبَل الملك)، فإن النسوية الصادرة من داخل الإصلاح السياسي ترى أن المرأة يجب أن تكون جزءاً من برلمان مُنتخب، و هذا يعني أن تدخل النظام السياسي بإرادة شعبية تعبّر عن إيمانٍ اجتماعيّ عام بحقوق المرأة. سبب أخير – في هذه المقالة – يدعو النسوية للانفتاح على الإصلاح السياسي، وهو أن الأب السياسي غير ثابت ومُتغيّر المزاج، وإذا كان الآن ميالاً إلى تربية “العشم” النسوي بالمكافآت الرمزية، فإن المستقبل مجهول وقد يحمل أبوية سياسية من نوعٍ لا مجال معه حتى للعشم.

في هذه المرحلة العربية التي يُمثل إصلاح الأنظمة السياسية عنوانها العريض، بات من الضروري أن تعيد النسوية السعودية تقييم خياراتها وتطلّعاتها، فإما أن تنفتح على مطالب الإصلاح وتضخّ فيها طاقتها الكبيرة وزخمها؛ أو أن تواصل ربط مصيرها بالأبوية السياسية ومكافآتها الرمزية ومصيرها المجهول، وهو الارتباط الذي سيُفوّت عليها فرصة تكييف أجندة الإصلاح السياسي مبكراً وبشكلٍ قوي لصالح المرأة، لتجد نفسها في نقطة متأخرة نسبياً إذا ما حانت استحقاقات الإصلاح.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق