ثنائية الحقوق والتنمية

الكاتب:

6 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

في دراسة طريفة أجراها معهد جالوب للدراسات الإنسانية في 2010 عن أكثر شعوب العالم سعادة كانت النتيجة أن شعوب الدنمارك، ،والسويد، وكندا، واستراليا، وفنلندا – على التوالي-  هم الأكثر سعادة من بين سكان 155 دولة حول العالم.

الممتع في هذا المسح أنه لا يعتمد على مؤشرات الدخل القومي، ولا حجم ثراء الدولة، ولا أي معايير أخرى تتعلق بقوانين الدولة أو اقتصادها أو سياستها أو تعاملها مع مواطنيها، بل هو يتوجه بالسؤال المباشر لآلاف المواطنين عن مدى الرضا العام عن الحياة، والشعور بالاحترام والتقدير وسهولة العيش ويسر الخبرة الحياتية. من المتوقع أن مثل هذه الدراسة الاجتماعية لا يتعدى أثرها تنمية المعرفة الاجتماعية والإضافة البحثية لعلم الاجتماع وخاصة أن هدفها هو مجرد تقصي مدى الشعور العام برضا الأفراد، ولكن من المتوقع أيضاً أنها ستقدح التساؤل التالي: لماذا الدنمارك، والسويد وبقية القائمة الذهبية هم الأكثر سعادة ورضا بحياتهم ؟ في أغلب الأحوال، فإن الجواب سيكون حاضراً قبل إتمام قراءة المؤشر، وهو أن السمعة الحقوقية الجيدة التي تتمتع بها هذه الدول على رأس قائمة أسباب السعادة.

الرضا والسعادة هي انعاكاسات طبيعية لسهولة العيش والحياة وخلوها من المنغصات، ولذا وُصِف أسعد البشر على الإطلاق حالَهم حين يتمتعون بالنعيم المقيم في الجنة بـ ( لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب). والرفاه الاجتماعي والعيش الكريم هو صميم مطالب البشر، ويكاد يكون الوظيفة الأهم للدولة، وهو ما يُعبّر عنه بـ “التنمية البشرية”. وبحسب تقرير التنمية البشرية في 2010 الصادر من الأمم المتحدة، فإن مفهوم التنمية البشرية هوعملية توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس، وهي خيارات بلا حدود وتتغير مع تغير الوقت، وتتركز في ثلاثة جوانب أساسية: أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل، وأن يكتسبوا المعرفة، وأن يحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق حياة كريمة.

إن عملية تحقيق التنمية في جوانبها الرئيسية – الصحة، والتعليم، والعمل، والمسكن – تبدو للوهلة الأولى عملية إدارية بحتة عمادها جودة التخطيط والتنفيذ والمتابعة، ولكن الفكر الإنساني والواقع المُشَاهد يؤكدان أن التنمية مالم تستند على أرضية حقوقية ترسّخ منظومة الحقوق البشرية كمنطلق أساسي للمسار الإداري، فإن عجلة التنمية مهددة بالتوقف أو الانحراف عن الجادة. و الإشارة لـ ” منظومة” حقوق الإنسان هو لأجل التأكيد على أن هذه المنظومة الحقوقية هي كتلة مترابطة لا يجوز إخضاعها للتجزئة أو الانتقائية وإلا أصبحت شيئاً معاقاً غير قادر على تحقيق الغاية المنتظرة منه. ومن الطبيعي أن نشهد تنمية معاقة إذا كانت المنظومة الحقوقية معاقة.

قد نعجب أحياناً حين ندرك أن معدلات الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة والمرافق البلدية في المملكة العربية السعودية هي من أعلى معدلات الإنفاق في العالم بحسب مؤشرات التنمية البشرية في الوقت الذي نشاهد فيه قصصاً ووقائع لا نتخيلها إلا في أفقر دول العالم، كتخزين جثث الموتى في ثلاجات التبريد المخصصة للغذاء، أو الانتظار شهور للحصول على سرير في مستشفى حكومي، أو الدراسة في مباني مستأجرة، أو الانتظار ثلاث سنوات من أجل مشروع جسر يتم إغلاقه بعد أسبوع من افتتاحه لخلل هندسي، أو ارتفاع نسبة البطالة إلى مافوق نسبة الخطر، ولكن حين ندرك طبيعة العلاقة الوثيقة بين الحقوق والتنمية قد يزول شيئاً من العجب.

والجواب المباشر لسؤال العلاقة بين الحقوق والتنمية يمكن ملاحظته من خلال عدة زوايا:

فعندما يغيب حق المساواة بين الأفراد، أو عندما يضعف مستوى الالتزام بهذا الحق فالنتيجة الطبيعية لذلك هو إمكانية حصول بعض الأفراد في المجتمع على امتيازات مادية أو اجتماعية خاصة لا تتوفر للجميع. وحينها تصبح فُرص الحصول على حياة كريمة غير متكافئة، وتغيب العدالة في توزيع فُرص المنافسة. مما يعني الفشل الذريع للعديد من الأنشطة التنموية التي تهدف إلى توفير الفرص العادلة للحياة الكريمة لجميع الأفراد في الوطن. وبحسب تقرير التنمية البشرية آنف الذكر، فإن أحد المبادئ المقررة هو أن “التنمية البشرية لا يمكن أن تقوم على استغلال بعض المجموعات لمجموعات أخرى ولا على استغلال بعض المجموعات بالحيز الأكبر من الموارد والسلطة، فالتنمية لا تكون تنمية بشرية حقاً مالم تكن منصفة”. فعندما يكون ثمة تمييز- على غير أسس- في إمكانية الحصول على قطعة أرض للسكن مثلاً، أو امتياز استثماري، أو عقد حكومي، أو استثناءات وإعفاءات من اشتراطات إدارية في نشاط استثماري ، أو في الحصول على وظيفة ما فإن مصير العديد من برامج الإسكان أو الصحة أو تطوير المرافق البلدية هو الفشل الذريع.

وعندما تغيب حقوق المشاركة المدنية والسياسية ومنها حق تكوين منظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط ، وحق التمثيل النيابي في المجالس التشريعية والبلدية ويمارس المواطن جميع الأدوات التشريعية والرقابية والتنفيذية التي تمنحها له هذه الحقوق الأساسية فإن فشل الخطط التنموية أو بعض برامجها هو نتيجة غير مستغربة. فحق المشاركة المجتمعية وما تتيحه من أدوات إدارية هو الضامن لعدم تمركز السلطات التشريعية والرقابية والتنفيذية ومن ثم خضوعها لمصلحة أفراد أو جماعات. ومن ضمن أبرز الأدوات التي يضمنها حق المشاركة هو ” المسائلة” التي تستعملها إرادة المجتمع عند ملاحظة الخلل الإداري أو الفساد المالي، وهي بهذا الحال فقط تكون أداة فاعلة ومنتجة وتهديداً حقيقياً لأي مسؤول يكون سبباً في إفشال أي نشاط تنموي، بخلاف ما لو كانت هذه الأداة غير متاحة للإرادة الاجتماعية العامة، فإنها غالباً ما تكون فاقدة لهيبتها، وقابلة لأن تُستعمل تارة وتغيب تارة أخرى بحسب الظروف والأحوال.

ويكون شأن التنمية البشرية أكثر تدهوراً في حالة شهود المجتمع لانتهاكات حقوقية أكثر جسامة كالاعتقالات التعسفية، أومصادرة حق الحرية في التعبير، أو التدخل في السلطة القضائية. والأمر يعود هنا إلى الشعور الاجتماعي بالامتعاض والخوف من الممارسات التعسفية والغير عادلة من الجهة التي يُفترض فيها أن ترعى الأمن وتُحقق الرفاه الاجتماعي. فمن البديهي أن يتساءل الفرد حينها أنّى لمن يسلبني الأمن والعدل أن يمنحني التنمية والرفاه !.

وتكون حالة التدهور الحقوقي معطلاً للتنمية من هذا الجانب أيضاً حين تنصرف جهود العديد من الكفاءات البشرية المخلصة إلى تحصيل الحقوق الأساسية ورفع الانتهاكات الجسيمة عوضاً عن انصرافها إلى البناء والتنمية وتحقيق الرفاه. فالإنسان هو ثروة الأوطان ، وحين تكون غاية الإنسان في حياته هو تحصيله لحقوقه الأساسية فهذا إهدار لأعظم ثروات الوطن التي لا سبيل إلى تنمية حقيقية بدونها.

إن ارتباط الحقوق بالتنمية هو نهج عرفته الدول المدنية الحديثة منذ عقود، والمؤشرات تؤكد أن دولاً ذات عوائد مالية منخفضة فاجأت العالم بتحقيق تنمية مزدهرة عندما التزمت بالمعايير الحقوقية، فكيف لو تزاوج الثراء المادي بالنهج الحقوقي !

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق