الرقيب .. وميكانيزم الثورة التويترية

الكاتب:

30 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

يشهد المجتمع السعودي مع بداية هذا العام هجرة متزايدة إلى “ميدان تحرير” جديد،  يمارس فيه حرية التعبير الفوري بدون قيود. يختلف كثيرا عن جميع تجاربه السابقة  في ميادين إلكترونية أخرى،  منذ دخول عصر الإنترنت عبر المنتديات والصحف الإلكترونية والمدونات.

  عندما  يلتقي زملاء ومعارف في مناسبات متنوعة، أصبح  السؤال السائد بينهم مؤخرا  “وينك ما نشوفك في تويتر”  “وليش ما تسجل” !؟  وهذا ما يفسر زيادة جماهيرية هذه الشبكة، ودخول الكثير من المثقفين والإعلاميين، وأهل العلم الشرعي والدعاة، وأهل الإقتصاد والرياضة، وهو مؤشر على جاذبية هذا الميدان للجميع،  بما فيهم أصحاب المناصب الرسمية،  بالرغم من صعوبة تحمل المفاجئات، والكلمات النقدية اللاذعة أمام جمهور ميدان تويتر.

لقد انتهى عصر المنتديات الذهبي وأصبحت شيئا من الماضي، عندما ساهمت هذه المنتديات في صناعة وتشكيل رأي عام محلي حول الكثير من المعارك والقضايا بعيوبها ومميزاتها، وكانت تمرينًا مهما كمرحلة انتقالية للتدرب على ممارسة حرية التعبير الملثمة. كان للتضييق الرقابي على المنتديات واستمرار الحجب قبل سنوات دورا مساعدا في تفعيل مواقع الإعلام الجديد الفيس بوك.. ثم تويتر وجعلها مسرحا للصراعات السياسية والثقافية والدينية.

يواجه الرقيب الآن أصعب أزماته التي ساهم في صنعها دون أن يشعر، وسيترحم كثيرا على مرحلة المنتديات التي كان يسهل السيطرة عليها وتوجيهها بعدد محدود من الأشخاص، ومعرفة سهلة عن ماذا يدور فيها من حوارات وجدل، فضلا عن إمكانية الدخول التعسفي بالحجب المبكر. كانت تلك المنتديات بالرغم من أهميتها مرحليا فاقدة للمصداقية في كثير من الحالات، وفي أوقات المواجهات الساخنة كانت مرتعا لدول واستخبارات، بسبب طبيعة المنتديات التي تسمح بالظهور بمعرفات رمزية، بعكس شبكات التواصل الإجتماعي . لهذا كانت تحتاج قدر أكبر من الوعي لتمييز من يكون خلف هذا الراي أو ذاك،  وتوقيته في بعض المعارك الفكرية والسياسية.

 قبل ثورة تويتر وشبكات الإعلام الجديد كان البعض يتصور بما فيهم الرقيب نفسه أن الظهور بأسماء علنية مع الصور الشخصية، ستعيق حرية التعبير، وستكون النقاشات والجدل  أقرب للرسمية والتقليدية.  ولأن هذا القياس نشأ من ذهنية وتصورات عصر المنتديات البائد. فلم تدرك طبيعة هذه الشبكات الجديدة،  وميكانيزم الثورة التويترية.. في تشكيل الأراء،  والمسار المعقد الذي تنتقل فيه.

لقد  حدث العكس. أصبح ما هو عيبا متخيلا أو متوقعا،   يحد من  حرية التعبير ميزة عند الظهور باسم حقيقي، وأكثر مصداقية هددت  الصحف شبه الرسمية، وكتابها الذين وجدوا أنفسهم في ورطة جديدة لا تختلف عن ورطة الرقيب نفسه، فأي مغالطة كتابية أو محاولة التلاعب بالحقائق  ستجعله عرضة للنقد المباشر والسخرية الفورية والمحاكمة في ميدان تويتر. إن رأي مغرد واحد باسمه الحقيقي أفضل قيمة فكرية وسياسية واجتماعية من مئات المعرفات في المنتديات القديمة، وأكثر تأثيرا وإحراجا للجهات والشخصيات المستهدفة بالنقد.

يواجه الرقيب التقليدي أزمة كبرى ومعقدة، ولا زال تحت تأثير الصدمة في التعامل مع هذا الميدان لصعوبة السيطرة عليه.  لقد حدث تسرع في مقاومة هذا الزخم النقدي، والنزول لهذا الميدان دون رؤية عقلانية، عندما  استعجل البعض  محاولة القمع والبلطجة ضد الأراء النقدية مع بدايات هذه الطفرة التويترية.  فنشأ مصطلح ” البيض ” في سياق المعارك التويترية، الذي يدل على شتيمة لأسماء شبحية لها مهام محددة. خسرت هذه التجربة المبكرة تعاطف القارئ العادي غير المنخرط  في تيارات وصراعات فكرية،  ونتيجة لهذه الممارسة المنفعلة من هذه الأسماء المجهولة، أصبحت كل رؤية تعارض النقد المبالغ فيه للجهات الرسمية، وأحيانا غير الموضوعية  تختزل تلقائيا بـ”البيض”. هذه الشراسة  في الردود والسجال ضد النقد الجرئ أحرجت بعض العقلاء الذي لديهم وجهة نظر معقولة في الدفاع عن مؤسسات وجهات حكومية.

بعدها بدأت محاولات لاحقة من هذه المعرفات المجهولة،  لتعديل هذا الخلل بممارسة هدوء مصطنع ومتكلف في الرد ووضع  صور أخرى، غير بيضة تويتر الشهيرة، ومع ذلك  لا زالت مشكلة هذه المعرفات  تفتقد  للمصداقية.

المفارقة في شبكة تويتر، وهذا الميدان الجديد لحرية التعبير، أن الشخصية التي تكتب مدافعة عن الجهات الرسمية أصبحت تختفي خلف أسماء وصور رمزية. والشخصية التي  تنتقد   الأوضاع في البلد بشدة تضع اسمها كاملا، وتعريفا بنفسها مع صورة  شخصية جميلة،  يبدو فيها مبتسما! وحتى الذين حاولوا انقاذ الوضع بأسمائهم الحقيقية من كتاب وإعلاميين للقيام بمهمة المحاماة، وتبني الدور الدفاعي لا زالت تجربتهم تعاني من المصداقية وضعف قدراتهم .

مع هذه المفارقة هناك تساؤل يستحق التفكير، كيف ارتفع سقف حرية التعبير بهذه الجرأة، وبالأسماء الحقيقية وبأعداد كبيرة، ومن مختلف الاتجهات والأعمار والمستويات وحتى من بعض الأسماء التي تبدو تقليدية وبعيدة عن أي لغة ثورية!؟  ما الذي حدث ليرتفع سقف حرية التعبير بهذه الصورة المفاجئة والمحيرة للرقيب؟ منذ نهاية ما سمي محليا  بربيع الإصلاح وارتفاع أسعار النفط حدث انخفاض متدرج في مستوى الحريات الإعلامية والصحفية وكتابة الرأي. وأصبحت الحريات مقننة جدا وموجهة في قضايا طارئة لا تدوم طويلا، ثم بعد الانتهاء من الخفض الشديد لسقف الحرية الصحفية، تمت عملية تصفية المنتديات بالحجب تدريجيا منذ 2006 وما بعدها. نجاح السيطرة على ميادين الانترنت في السنوات الأخيرة، نتج عنه انخفاض تلقائي لسقف الحرية الصحافية.

في البدايات لم تكن تثير مواقع الإعلام الجديد أي قلق طالما أنها بالأسماء الحقيقية، لكن مع كثرتها وتزايد أعدادها ونشاطها الكبير، بدأت تتحول إلى كابوس  يثير بعض القلق للكثيرين حتى بين التيارات الفكرية والدينية المتصارعة.

من المؤكد أن لما سمى بالربيع العربي دورا (دورٌ)؟ في خلق بيئة شعبية محلية،  تتقبل أي مستوى من النقد الفكري والسياسي،  فما شاهده العالم من شعارات ونجاحات مفاجئة  في إسقاط أنظمة كانت تبدو نموذجا للسيطرة الأمنية العربية، سيؤثر حتما على المزاج العام، حيث سقطت الكثير من الأساطير والأوهام التاريخية عبر أشهر من التغطية الفضائية المباشرة للحراك الشعبي. وما يمنعه الرقيب كانت النكت والتعليقات الشعبية كافية لنقله واختراقه للذهنيات التقليدية.. ولأن الثورات نجحت وتأثرت بالفيس بوك وتويتر في خلق رأي عام، وتحريك الشارع وسميت باسمهما أحيانا ، فقد زادت هذه الثورات جاذبية هذه الميادين الإلكترونية.

ميدان التحرير التويتري له خصائص معقدة، جعلت عملية السيطرة عليه وتوجيهه بالغ الصعوبة، في اختراع حيل إعاقة غير مباشرة لنشاطه. من الصعب شرح هذه الخصائص، لمن لم يدخل فضاء تويتر يوميا، ويتفاعل معه ويتسكع  في أزقته. فلكل شخص ” مينشن” و” تايم لاين ” خاص به، لهذا يصعب التبؤ بنوعية الرسائل التي يستقبلها كل واحد العلنية والشخصية. والـ”ريتويت” يقوم بهمام تسويقية للتويتات القوية والمميزة.. فتخترق بشكل مباغت كل “تايم لاين”  مغلق على نفسه، ويقوم الهاشتاق.. بمهمة الحملات المركزة لجميع متابيعه من أهل تويتر.. والفرجة على نوعية الرأي العام المطروح في هذه  القضية أو تلك.

إن أهم مميزات هذا الميدان وأبرز عوامل قوته وسرعته أنه لا يسمح  إلا بإستعمال 140 حرفا. كانت تبدو لغير المغرد النشط أهم عيوبه.. لكن التجربة العملية كشفت أنها من أهم مميزاته  في رفع سقف حرية  التعبير وصعوبة السيطرة عليها.

الجرأة في ميدان تويتر السعودي عززتها طبيعة هذه الشبكة المبهرة، فهي بآلية  الكلمات المحدودة جدا، جعلت الحقائق الكبيرة والجريئة في القضايا الحساسة تتفتت إلى جزئيات صغيرة، تكتب بالمئات والآلاف  من أبناء تويتر ويشتركون في تقديمها. إن مئات وآلاف التتويتات الجريئة تفرق دم الفكرة الجريئة بين أبناء قبائل تويتر، ويصعب معها تحديد مصدر الصداع. فكل متوتر يلقي جزءًا يسيرا من المعلومات والآراء الجريئة عبر تويتة هنا أو هناك،  والتي تتراكم في ذهن المتلقي.. باستمرار.. لتشكل رؤيته العامة في كل قضية، لذا يبدو نطاق الـ140  حرفا المحدود،  أبرز أسرار وأسلحة  هذه الشبكة.. في صناعة  الثورة التويترية!

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق