الحركات القومية واليسارية في السعودية (1)

الكاتب:

26 يونيو, 2014 لاتوجد تعليقات

المتابع لكتابة تاريخ المملكة يلاحظ  غياب الرواية الشعبية واحتكار النظام رواية واحدة  ومن هذا التاريخ المغيب  مسيرة  الحركات القومية واليسارية في المملكة،  وقد وصل الأمر إلى تشويهها , وإلى الآن تظل محاولات  تسجيل أحداث الفترة التي نشطت فيها الحركة القومية واليسارية في إطار جهودٍ فردية وغير كافية، وذلك بسبب العمل السري الطويل لهذه الحركات و الملاحقات الأمنية الشديدة التي أجبرت منتسبي تلك الحركات على حرق كثير من الوثائق والبيانات، وكذلك رحيل رواد تلك الحركات دون تدوين ما حدث .

قد يستغرب البعض إعادة إحياء الحديث عن الحركات القومية واليسارية التي سادت في الستينات والسبعينات ويتعامل معها كموجات فكرية سادت ثم بادت، وأن لا فائدة من إعادة تدوينها , و الرد على هذا التعليق  أن هذه الحركات هي جزء من تاريخ المنطقة يجب ان يروى من وجهة النظر الأخرى،  وجزء من تاريخ المعارضة ومحاولات  خلق مجتمع مدني موازي للسلطة. رصد هذا التاريخ ضرورة  لإنصاف من غُيب عن الذاكرة من رموز تلك المرحلة  وتصويب ما وقعوا فيه من خطأ. أيضاً ما جرى وقتها دليل أن المنطقة ليست ذات خصوصية أو طبيعة مختلفة عن المحيط الإقليمي والدولي، و هي جزء من الأمة العربية والعالم،  يؤثر ويتأثر بالمتغيرات الإقليمية والدولية .

بداية  ظهور التوجهات  اليسارية والقومية في الجزيرة العربية كان ارتداداً لأحداث عالمية كبرى , فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية وظهور  دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وقيام النظام الاشتراكي في كوبا، والانتصارات المتلاحقة لحركات التحرر الوطني في آسيا و أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وانتصار ثورة يوليو 1952 التي قضت على الحكم الملكي في مصر , والانتصارات الكبيرة في ايران التي أبعدت الشاه بوصول محمد مصدق للسلطة، وما أعقبها من تأميم النفط الايراني،  كل ذلك كان  له تأثير على العمال و الطبقة المثقفة،  وتسبب في رواج الأفكار اليسارية .

 

وصادفت تلك الأحداث الكبرى اكتشاف النفط في الجزيرة العربية، وكانت شركات النفط تستقدم الكوادر العربية، وكانت البلدان العربية تموج بحركات التحرر من الاستعمار، فكان الأساتذة العرب يحملون الأفكار والنظريات السياسية كالشيوعية والاشتراكية والقومية، وكان كثير من الطلاب الملتحقين بمدارس أرامكو في سن صغيرة، فكانوا بيئة مناسبة لبذر الأفكار , وكذلك كان لعودة الطلبة السعوديين الدارسين بالخارج  متأثرين بالأفكار والايديولوجيات الحزبية إسهامها، واستطاع بعض الأساتذة حينها أن يستورد صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني ( الصرخة ) و ( النداء) وكانت توزع بصورة سرية . ولما رأى بعض التجار إقبال الشباب على الاصدارات العربية أخذوا يوفرون كتب  مثل رأس المال لكارل ماركس و بيان الحزب الشيوعي وسلسلة كتب ( هذي هي ) وهي سلسة صدرت أوائل الخمسينات تهدف إلى التعريف بالأفكار مثل الشيوعية والاشتراكية و الديمقراطية،  وكانت الدولة في تلك الفترة  لا تمارس رقابة  شديدة على المطبوعات  .

 

كان  لبعض الأحداث في الدول المجاورة دور  في زيادة انتشار الحس القومي في الجزيرة العربية مثل ما حدث عام 1956 م عندما وجهت السلطات البريطانية ضربة قاضية لحركة المعارضة في البحرين وترتب على ذلك هروب مئات من كوادر هيئة الاتحاد الوطني اليسارية الى المنطقة الشرقية،  وأسهموا في التشكيلات الأولى للمعارضة .

 

الحديث بالتفصيل عن  التيارات القومية واليسارية في المملكة العربية السعودية غير سهل  ليس لقلة المصادر فقط ولكن لتداخل كثير من التيارات في بعضها، فاليسار كلمة عريضة يدخل فيها  حركة القوميين العرب و حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي .

والمتتبع للحركات اليسارية في السعودية  يجد صعوبة تصنيفها لأنها تيارات تتفق في الإطار العام فهي  قومية يسارية تؤمن بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار ومباركة الوحدة العربية (وقد يحصل اختلاف هنا بين يساريين قوميين يؤمنون بالوحدة العربية ويساريين أمميين لا يعترفون بحدود الأمة العربية)، ولكن يختلفون في تفاصيل معينة، وقد ينتسب للتنظيم الواحد أشخاص مختلفين فمنهم ذو توجه شيوعي وآخر ناصري لكنهم متفقون على أهداف عامة.  كذلك بسبب المطاردات الأمنية وتأثير صراعات الأحزاب العربية فإن هذه المنظمات كثيراً ما كانت تنحل، ويحدث اندماج لحركتين او تنظيمين، فمثلاً أحداث التصفية التي حدثت للقوميين على يد الحزب الشيوعي في العراق أثناء حكم عبدالكريم قاسم عام 1959 م أدت لنشوب الخلاف بين المنتمين للحزبين، وقاد ذلك إلى الوشاية ببعضهم انتقاماً، وكان الانقسام أوضح في الكويت، حيث حصل تبادل الهتافات المضادة بين الشيوعين والقوميين في مؤتمر الأدباء العرب. وبرغم صعوبة التمايز  بين هذه الحركات كما ذكرنا من الممكن الحديث عنها حسب التقسيم التالي: الحركة القومية، والبعث، والحزب الشيوعي.

 

الحركة القومية

سأبدأ  بالحركة القومية الناصرية كونها الأكثر بروزاً وسبب ظهورها ما ذكرناه في البداية ازدهار  اليسار بشكل عام، وفي الحالة القومية يمكن أن نسرد عوامل سياسية مرت بها المنطقة أدت للترويج للقومية حيث شهدت المملكة  مرحلة تقارب بين السلطة السعودية ومصر بين عامي 1953 و 1956 م، وذلك بسبب اتخاذ البلدين موقفاً موحداً تجاه عدد من القضايا، وتحالفهم ضد الهاشميين في العراق، و ضد ميثاق (حلف) بغداد الذي اعلن عام 1955 م، وتم الاتفاق بين عبدالناصر والملك سعود حينها  على التعاون و التنسيق بين البلدين في مجالات السياسة الخارجية والدفاع ورفض جميع مشاريع الاحلاف  الغربية .

 وكانت علاقة السعودية ببريطانيا في ذلك الوقت قد توترت بسبب حلف بغداد مع اعدائهم الهاشميين، وبسبب الخلاف  حول واحة البريمي،  هذا الجو هيأ تقبل النخبة لأفكار عبد الناصر بشكل أكبر وتُرجم هذا التقارب بدعم السعودية لمصر إبان العدوان الثلاثي بعشرة ملايين جنيه مصري لتخفيف الضائقة المالية، و لكن القوى العالمية لم تسمح لهذا  التقارب أن يدوم  و بدأت  مرحلة التوتر  فالولايات المتحدة  تخاف من  اقتراب السعودية من الكتلة الشرقية التي تنحاز لها سياسة عبدالناصر، كما أن امريكا لا تستطيع محاربة القومية الا من خلال السعودية بسبب المكانة الدينية،  لذلك اخذت امريكا تعمل على ابعاد السعودية عن مصر فكانت هناك اخبار تصل باستمرار للسعودية،  بأن هناك خطط انقلابية تهدد عرش العائلة الحاكمة يخطط لها عبدالناصر . فبدأ الملك سعود يقلق من عبدالناصر خاصة بعد عدة تصرفات منها استخدام الاذاعة المصرية عبارة ” البترول العربي” , ومع ضغوط الغرب على المملكة بالخطر الشيوعي وانه المهدد الازلي لحكمهم حدث التباعد المصري السعودي.     

لكن شهدت المملكة  فترات عادت فيها القومية وانتعشت مثل الصراع الذي حدث بين  الملك سعود والملك فيصل على الحكم الذي  جعل الملك سعود  يشكل حكومة جديدة اغلبها من الشباب المثقف ذوي النزعة القومية العربية وحدثت حينها كثير من الاصلاحات لكنها ما لبثت أن حوربت من قبل التيار المحافظ من العائلة ورجال الدين  . و نجح الضغط على الملك سعود باستبعاد الشباب القوميين وإقناعه بأنهم خطر على العرش , وبعد أن أُجبر الملك سعود على التخلي عن  الحكم  عزل الملك فيصل الوزراء ذوي النزعة القومية  وبعضهم بقي ولكن في وزارات خدمية غير سياسية كوزير النفط الطريفي و وزير الخارجية عبدالله السويل واستبدلهم بوزراء  ملكيين وتم تهميش  المستشارين العرب الذين قدموا خدمات عظيمة للدولة منذ نشأتها نظراً لنزعتهم القومية وذلك بإبعادهم كسفراء .

  وكانت مطالب المنتمين للحركات القومية  حينها ليست مجرد شعارات بل ترجمت على الواقع  بمظاهرات ومسيرات في إطار المجموعات العمالية وبالمشاركة مع مجموعة من اليساريين، ونجحت بعض مطالبهم مثل اضراب عام 1945 م في شركة ارامكو الذي أدى إلى تقليل ساعات العمل ومنح عطلة اسبوعية وكذلك اضرابات عام  1949م.  بعد ذلك عرف العمال  أن سياسة المطالب الفردية لا تجدي ولابد من عمل منظم وتوحيد الجهود فتشكلت اللجنة العمالية عام 1953م, وكان أول تحرك للعمال حيث انتخب العمال لجنة تكون مهمتها الاتصال بالشركة والحكومة  للمطالبة بتحسين أوضاع العمال , وكان أبرز مؤسسيها ناصر السعيد،  ومن اعضاء اللجنة عبد العزيز ابو اسنيد وصالح الزيد و عبد الله الغانم و عبد الرحمن البهيجان و عبد العزيز الصفيان و ابراهيم الفرج و عمر وزنه،  وحصلت مفاوضات فعلاً بين لجنة العمال واللجنة التي كونتها الحكومة وسارت المفاوضات بشكل ايجابي، لكن ارامكو لم يعجبها الحال فعملت على الدس بين الحكومة والعمال و حرضت الحكومة على العمال فادعت أن  مطالبهم الحقوقية غطاء لشيء اكبر، وان حركتهم قد تكبر الى قضايا سياسية، واخذت ارامكو تستفز العمال ففصلت احد العمال وهو البهيجان فهدد العمال بإضراب وأعمال انتقامية إن لم يعد زميلهم للعمل، فنقل الكلام للحكومة على انه تخطيط تخريبي  فتم اعتقال اعضاء لجنة العمال، وعلى خلفية ذلك حدث الاضراب الكبير لمدة أسبوعين حتى خرج المعتقلين ولكنهم لم يعودوا لعملهم، وعلى الرغم من  قمع  الحكومة للمشاركين  في الاضراب الا انه تشكلت لجنة للنظر في مطالبهم وتم تحسين بعض الأوضاع ولم تذهب تضحيتهم سدى، وتصرف الحكومة حيال هذه المطالب هو تصرف  معروف لدى السياسة السعودية يسمى الوصاية الأبوية حيث تقوم بتحسين الأوضاع من جانب وممارسة العنف من جانب اخر  .

بعد حل اللجنة العمالية وتشتيت اعضائها  لم يرضخ العمال ويصمتوا على موقف الحكومة السلبي من أعضاء اللجنة فتشكلت جبهة الاصلاح الوطني عام 1954م، وكانت  أهدافها التحرر من الامبريالية والتسلط الاقتصادي لشركة ارامكو، وحرية تأسيس الاحزاب والنقابات وتوفير الأسمدة والآلات الزراعية للفلاحين بأسعار مخفضة، وإلغاء الرق،  ووزعت منشورات في مناطق المملكة وكان لها اتصال بحركة القوميين العرب . أيضاً من العوامل التي ساهمت في المد الناصري  البعثة المصرية العسكرية التي تم استقدامها لتدريب الجيش السعودي حيث ساعدت على  نشر الفكر الناصري ووضعت خطة عام 1955م، لإعداد ثورة على غرار ثورة ضباط مصر عام 1952م، ولكن التنظيم ظل محدوداً بسبب شدة السلطة، غير أنه في نفس العام   قام الملازم الشمراني  بأبرز عمل عسكري لإسقاط الدولة على طريقة الضباط الأحرار وكان الشمراني ممن شهد حرب 1948م  وتأثر بعبدالناصر، والقي القبض عليه وستة من زملائه، وزاد التشديد  مرة أخرى على كل متعاطف مع الحركات القومية والناصرية.

في  عام 1956 م  حدث تحرك آخر للعمال وكان الابرز هذه المرة  فهذه  المرة غضب العمال بسبب إعلان السعودية اعتزامها تجديد اتفاقية قاعدة الظهران، وبدأت حملة احتجاج واسعة ولم يكن احتجاجاً على ظروف العمل بل احتجاجاً سياسياً ومطالبةً بإجلاء العسكريين الأمريكيين من المملكة،  وقام العمال والطبقة المثقفة بكتابة  برقية للملك سعود يطالبونه بمنع دخول الفرقة، وفي تلك الفترة  أقامت ارامكو حفلاً للملك سعود فتظاهر العمال  وهم ويهتفون مظلومون مظلومون وحملوا اللافتات لأول مرة في المملكة وكتب عليها ” نريد نقابة” و” يسقط الاستعمار الأمريكي ”  وكانت اغلب هتافات المتظاهرين تنم عن تأييد لسياسة جمال عبدالناصر مثل “جيش عربي موحد ” لذلك كان قمع الحكومة هذه المرة للعمال بشكل أكبر فهرب بعض المطلوبين مثل ناصر السعيد  وتم اصدار مرسوم يمنع التظاهر  والاضراب , وحصلت  حملة تصفية  على  من شارك في الاحتجاجات خاصة أعضاء الجبهة, وتم اعتقال عدد كبير من اعضائها وسافر بعضهم قبل اعتقاله . عملت الجبهة بعد عام  1957م، على اساس انها ناصرية في إطار تبنيها الاشتراكية، وتحالفت مع جبهة التحرير العربية عام  1962م، ثم مع الجبهة القومية في اليمن الجنوبي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم تحالفت مع الجناح العسكري من حركة القوميين العرب وقام عدد من اعضاء الجبهة عام 1970م بتشكيل نواة الحزب الشيوعي السعودي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقاً .

 في عام 1962 م حصل حدثان مهمان في مسار الحركة القومية و اليسارية وهما انشقاق الأمير طلال ومطالبته بالدستور ,و قيام الثورة اليمنية، فبدأ الصراع الحقيقي  بين عبدالناصر المؤيد للثورة اليمنية  والمملكة المؤيدة للنظام السابق , ورغم موقف المملكة الرسمي إلا أنه كان هناك داخل مجلس الوزراء السعودي معارضة لموقف المملكة المؤيد للملكيين اليمنيين وقريب من موقف مصر القومية وهم من خمس وزراء من خارج الأسرة المالكة، وقد  كتبوا مذكرة اعتراض .وكان أبرز حدث أربك الحكومة السعودية في تلك الفترة هو هروب الطيارين السعوديين الى مصر بطائرات تحمل شحنة من الأسلحة لقمع الثورة اليمنية واسماء الطيارين : رشاد ششة وأحمد حسين و محمد ازميري ومحمد عبدالوهاب و محمد الزهراني واحمد موسى عواد وعبداللطيف  الغنوري  . وبسبب هذه الأحداث المتلاحقة  حصلت المضايقات  والاعتقالات لكل من يشك بانتمائه لتيارات قومية ويسارية .

وعودة لانشقاق الأمير طلال بن عبدالعزيز، فقد انضم  له  عدد من الامراء وهم  الأمير فواز وسعد وبدر وعبد المحسن ال سعود،  واطلق عليهم الأمراء الأحرار، وانضم لهم الطيارون المنشقون من سلاح الجو وكونوا ” جبهة تحرير شبه الجزيرة العربية ” ,وكان أيضاً من بين اعضاء الجبهة سعد الخلف ومحمد ال ابراهيم، و لكن الجبهة لم تستمر اكثر من سنة ونصف  بسبب عدم  التوافق الفكري بين اعضائها،  وبسبب اختلاف الأمراء الأحرار مع السلطات المصرية، بعد ان وجهت نداءات من اذاعة صنعاء لتصفية عائلة ال سعود،  وكذلك محاولة الاسرة المالكة مصالحة الامراء الاحرار وإعادتهم للبلاد، فانسحبوا من الجبهة عام 1963م . فتحولت الجبهة  للعمل السري وتشتت اعضائها وانتقل أغلبهم  للعراق، وحصلوا على دعم حزب البعث العربي الاشتراكي، وانتقلوا بعد ذلك للبنان و بدأ يقل نشاطهم  حتى انتهى  بعد ذلك .

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق