الاستبداد الحداثي

الكاتب:

19 فبراير, 2014 لاتوجد تعليقات

ليس بالضرورة أن تؤسس الدولة شرعيتها على مفاهيم دينية ، فالتحولات السياسية لم تقتصر فقط على شكل النظام من دولة الشورى إلى الملك العضوض ثم حكم جبري  شمولي ، بل شملت التحولات مصادر الاستبداد.

كانت شرعية الاستبداد القديم تعتمد على منظومة تشريعية دينية  من خلال صرف نصوص السمع والطاعة في كيانات استبدادية، واستعمال قواعد المصالح كقاعدة : أقل المفسدتين ، وقاعدة درء المفاسد، والاجتماعات…وخير الخيرين إضافة إلى استيراد الأدب الساساني وترجمته، وتطريزه داخل الثقافة الإسلامية ، فأصبح جذراً من جذور الاستبداد ، ومصدراً هاماً في هيمنة السلطة السياسية على الحياة العامة، وبات يعرف بما يسمى ب”الأدب السلطاني ” ولقبت الدولة التقليدية التي لا زالت تعتمد على أدبيات النصوص السلطانية بـ” الدولة السلطانية” كمصدر من مصادر السلطوية ، وبلغت مؤلفات الأدب السلطاني أكثر من خمسين كتاباً ككتاب نصيحة الملوك للماوردي ، وكتاب تاج الملوك  المنسوب للجاحظ، وكتاب سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي …الخ إلا أن التطورات المتلاحقة في الأدوات التقنية مكنت الدولة العربية الحديثة من تحديث مصادر الاستبداد واكتساب الشرعية السياسية بالتحديث والتنمية وفرضها بأدوات أكثر انتهاكاً للإنسان ، وأقدر على التحكم به ، والسيطرة عليه ، وتفكيك روابط المجتمع والقبيلة، والتدخل في كل شؤونه، وإحكام الرقابة عليه .

وزاوجت بعض الدولة بين المصادر، فأبقت على ثقافتها السلطانية ، واعتماد المفاهيم الدينية في شرعية التفرد بالحكم، فأصبحت “دولة الاستبداد القديم بأدوات حديثة” ، واستقوت ببعض مفاهيم الدولة الحديثة في تقسيم السلطة بطابع شكلاني ومجتمع مدني فارغ من  معناه ، مع الاعتماد الكلي على الأدوات التقنية الحديثة.

إلا أن دولاً عربية أخرى اعتمدت بشكل كلي على القاموس الحداثي ومفاهيم الدولة الحديثة، والاستغناء التام عن المفاهيم الدينية والآداب السلطانية ، مع الاستخدام المفرط للحداثة التقنية في الإخضاع والسيطرة ، وهو ما  أطلق عليه الدكتور رفيق عبدالسلام “الاستبداد الحداثي” وعرفه بأنه : تلك الحالة الاستبدادية التي تؤسس شرعيتها على المدونة الحداثية السياسية ، وتستعمل أدوات وأذرع سيطرة حديثة .

فليس بالضرورة أن الانتقال من العالم التقليدي إلى العالم الحديث يعني التحررية السياسية ، والتخلص من مكبلات الاستبداد ، فنمط العلاقة في دولة الاستبداد الحداثية يقوم على علاقة انفصالية وعمودية تهدف إلى احتواء المجتمع وضبط حركته بصورة فوقية [1].

ورأى الباحث أن الظاهرة الاستبدادية الجديدة تخلقت في رحم الإمبريالية الغربية ، وألقت بظلالها الكليلة على الواقع العربي .

في ذات السياق عن الإمبريالية استشهد الباحث بتحليلات حنة أرندت في بحث لها عن أصول الشمولية التي رأت بأن الإمبريالية الغربية قائمة على التوسع وتعظيم الربح ، ولم تكن معنية بتصدير المؤسسات السياسية المدنية إلى عالم ما وراء البحار بقدر ما كانت معنية بإخضاع السكان المحليين وبسط اليد على الثروات العامة ،فغايتها الاستيعاب لا الاندماج وفرض الخضوع لا تحقيق العدل [2].   

ترتب على ذلك : إعطاء الأولوية القصوى لتصدير أداوت العنف وعلى رأسها : الجيش والشرطة والجهاز البيروقراطي “مركزة السلطة ” على حساب المؤسسات المدنية والقوانين المنظمة والضابطة للاجتماع السياسي ، وبذلك أضحى العنف المنظم في أجواء التوسع الإمبريالي حالة راسخة في إدارة الشأن السياسي .

وبذلك تمكنت الدولة الحديثة من تملك أداوت عنفيه بدون مؤسسات مدنية ، وتحديث بدون حداثة ، على عكس الدول الإمبريالية المصدرة للعنف، فالأدوات السياسية لديها مترابطة مع المؤسسات السياسية كالبرلمان ومؤسسات الرقابة الدستورية والقضائية المستقلة فكانت النتيجة: أن أدوات العنف في المستعمرات أصبحت طليقة اليد في إدارة شؤون المستعمرات من دون أي وجه من وجوه الرقابة والضبط[3]

يضاف إلى ما سبق أن الإمبريالية المصدرة للعنف والاستبداد ساهمت بشكل كبير في تفكيك روابط المجتمع الأهلية للشعوب .

ومع الفروق بين مصادر الاستبداد القديم والحديث إلا أن المجتمع يعيش في الحالتين بدون إرادة، وتحت سيطرة فوقية إكراهية ، مجتمع متذرر مقطع الأوصال، مفكك الروابط ، باتجاه واحد.

وغني عن القول أن الحالة التي وصلت إليها المجتمعات العربية في ظل الدولة التقليدية التي اعتمدت على مصادر استبدادية قديمة أو جمعت بينهما أو الدولة العربية الحديثة التي اعتمدت كلياً على مصادر جديدة ، أصبح في غاية السوء.

لم تكتف الدولة العربية الحديثة باستهلاك أداوت العنف وفصلها عن المؤسسات المدنية ، فقد تولى زمام السلطة نخب علمانية لائكيه، تم اعتمادها من المركز  لتقوم بالوكالة. وأطلق عليها الكاتب الألماني جون غاتونغ بـ “النخب الجسرية” التي أصبحت نخباً مؤتمنة على قيم الثقافة المهيمنة ومصالح قوى السيطرة الدولية أو كما يقول الكاتب: ” وهكذا يتم زراعة نخبة جسرية في مركز الهامش الوطني ، وبذلك يصبح مركز الهامش مرتبطاً عضوياً بمركز المركز ضمن إطار وفاقي للمصالح بين الطرفين ” [4] .

أما الباحث جاك بيرك فقد أضاف إلى حالة الاستبداد الجديدة تشخيصاً دقيقاً كشف فيه عن اغتراب النخبة العلمانية بما يعني وجود مجتمعين متقابلين في المجتمع الواحد ، وهذا بدوره أدى إلى نزوع تلك النخب إلى القوة والعنف ويبلغ من الضراوة والعنف والشدة حد التحارب الداخلي وتهديد أسس الاستقرار الأهلي [5].

ولعل من المهم أن نتساءل عن سبب لجوء الدولة العربية الحديثة للتحديث ورفع شعارات التنمية والحداثة، مع قدرتها التامة على استعمال أدوات العنف والتحكم وإبقاء البلد في حالة تخلف مزمن ؟ وسؤال آخر عن سبب تصدير أداوت التحكم والسيطرة بدون مؤسساتها المدنية ؟

إن الوجه التحديثي يمنح المزيد من شرعية الدولة ، وتستغني به عن المنظومات التشريعية الدينية التي تمد الدولة التقليدية بالشرعية.

فأدوات العنف وحدها لا تكفي للسيطرة مهما كانت بشاعة العنف ، فالتحديث في مؤسسات الدولة مع العنف يضمن شرعية قادرة على الاستمرار والبقاء.

ولأن هذا الوجه التحديثي على نمط يتماهى مع هوية علمانية لائكيه تستبعد الدين وتتجاهل هوية المجتمع ، وتتعادى مع قواه الاجتماعية التقليدية، ولا يمكن فرضه لضمان انتمائه بمقاييس إمبريالية إلا بأدوات تحكم ، فقد ساهمت دول المركز في تصدير كافة الأدوات التي تلخصت في قوة الجيش والشرطة والجهاز البيروقراطي  لتمكين النخب الجسرية ، وبذلك ضمنت الدولة العربية الحديثة شرعية سياسية بالتحديث ، وحماية دولية بالانتماء للمشروع الإمبريالي، وإمساك تام بزمام السلطة.

وعليه فلا يمكن تمكين قوى المجتمع من المشاركة السياسية أو استيراد المؤسسات المدنية المترابطة مع الأدوات العنفية، أو تنشطيها على الوجه المماثل لها  في دول المركز ، ولم يعد للنخب من خيار للبقاء في زمام السلطة إلا استعمال العنف، والدول الراعية لا يمكنها التخلي عن أيدولوجيتها في إخضاع الشعوب المستعمرة أو تنشيط فاعلية المؤسسات بذات القدر في دولها ، فلا خيار أمامها سوى تدعيم القوى والنخب العلمانية الضامنة لقيم الهيمنة الدولية. 

وبمرور الوقت أصبحت الدولة العربية لا ترى نفسها مجرد وكيل معنوي لإدارة الشأن العام بقدر ما ترى نفسها وصية على مجتمع قاصر وعاق لا يقدر على إدارة شؤونه وبلوغ مرحلة الرشد السياسي التي تؤهله لامتلاك ناصية أمره ، ولا يمكن ائتمان جانبه أو الاطمئنان إلى ما يبديه من طاعة وسكون ظاهرين ، الأمر الذي يتطلب فرض الرقابة الأمنية والاستخباراتية عليه لاتقاء غضبته وقومته المحتملة ، وهي على ذلك تعتبر نفسها صانعة ومجسدة للإرادة العامة ، وكثيراً ما تتماهى الدولة العربية في شخص الحاكم ــ الزعيم ، فينتهي الأمر إلى اختزال الدولة والإرادة العامة والمجتمع السياسي في شخص الحاكم [6]

وهذه الحالة التي وصلت إليها الدولة العربية تشابه الدولة السلطانية القديمة التي نظر لها الماوردي والجاحظ والطرطوشي فحذروا الحاكم من العامة ، وعدم الاطمئنان لهم أو الوثوق فيهم ، فهم مصدر الشر ، وهم كالسوائم والبهائم التي تحتاج إلى الراعي، وهم في طبقة أدنى من الخلق والصناعة التي عليها الحاكم ، فوجبت الوصاية .

وهذا التشابه بين استبداد الدولة العربية والدولة السلطانية مرده إلى طبيعة العلو والتفرد على البشر ، وهو الطغيان الذي حكاه الله في قصة موسى وفرعون .

وقد مثلت الحالة التونسية وجهاً صارخاً من أوجه الاستبداد الحداثي منذ أبو رقيبة وحتى زين الدين بن علي.

وهي حالة فريدة من نوعها، فالتحديث في مؤسسات الدولة والتحولات التي حدثت في تونس ، ترافقت مع استبداد وعنف هائل لا مثيل له.

وبذلك أصبحت تونس شاهداً على التحديث المشوه، والتقدم الخاطف بأذرعة الجيش والشرطة والجهاز البيروقراطي . وكان النموذج اليعقوبي الفرنسي  الذي اتخذه أبو رقيبة قدوة له، وهو نموذج مستبد ذو نزوعات جذرية ، لا يختلف عن النازية الهتلرية أو الفاشية الإيطالية، والنموذج النابليوني. وقد مثلت تلك النماذج جاذبية خاصة لدى النخب العلمانية في تونس راهنت بدورها على السيطرة الفوقية على المجتمع لضبط حركته جرياً وراء سراب التحديث [7].

صور أخرى للاستبداد الحداثي :

استبداد الدول الكبرى بشعوب العالم .

فهي التي ترفع لافتات حقوق الإنسان وهي التي تستخدم حق الفيتو ضد من تشاء ، يقول الأستاذ جودت سعيد : ” فإذا كان لابواسيه يندهش ويعقد الاندهاش لسانه في بيان خضوع الناس للوهم ، فإن الاندهاش يعقد لساني من إجماع الناس الخرافي على التسليم بحق الطاغية في أن يخضع لقانون وأن يكون فوق البشر يحيي من يشاء ويميت من يشاء ” [8] 

وقد أثبتت الأحداث في سوريا أن القوة والمصالح هي الحق ، فالقوى الكبرى التي قد تجتمع لخراب دولة العراق للاشتباه في وجود أسلحة كيمائية ، هي ذات الدول التي شهدت مقتل 1300 طفل سوري بالكيماوي السوري ، وعجزت عن توجيه ضربة محدودة واكتفت بحل سياسي مراوغ .

ولا زالت بعد مقتل أكثر من 150 ألف سوري وتشريد أكثر من مليون من المدنيين العزل ، تماطل في ردع النظام الأسدي وتطيل أمد الحرب ، حفاظاً على أمن إسرائيل بالدرجة الأولى.

وهذه صورة واحدة فقط من تسيس حقوق الإنسان لإظهار الوجه القبيح للاستبداد الدولي وكشف قيمه ونفاقه .

وهي صورة تضاف للصورة السابقة التي لا تفترق عنها كثيرا ، فهي التي تصدر جميع أدوات التحكم والسيطرة ، وتشرف على بقاء الأنظمة المستبدة بنفسها متفردة بالحكم والنفوذ التام.

ورغم أن الدول الكبرى لديها مئات المنظمات الحقوقية الرسمية والأهلية والدولية ، وتنظم سنوياً مئات الندوات والمؤتمرات والبرامج الدولية عن حقوق الإنسان، وتصدر تلك المنظمات آلاف التقارير والإحصائيات عن الانتهاكات الحقوقية التي يتعرض لها الإنسان العربي والمسلم خاصة تحت سمع العالم وبصره، فلا تزال الدول الكبرى على موافقها الراسخة من دعم الأنظمة القمعية بالمزيد من أدوات التحكم، مع الاكتفاء بالإشارة والملاحظة وإبداء القلق ، دون اتخاذ أية مواقف جادة  باستثناء ما يتعلق ببعض حقوق المرأة في جوانب اجتماعية .   

ولا تزال أمريكا سيدة شعار حقوق الإنسان ، أكبر الداعمين بكل صور الدعم لوحشية الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ، وترفض حتى مجرد الاستنكار الورقي للانتهاكات البشعة التي ترتكب ضد المدنيين والأطفال العزل .

فهذه هي العدالة الدولية والقيم التي تؤمن بها ، والتسيس الذي تمارسه عن عمد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] ـ الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة ص 85ـ 86 .

[2] ـ الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرةص87 .

[3] ـ حنة أرندت أصول الشمولية ، والاستبداد في نظم الحكم العربية ص87.

[4] ـ نظم الاستبداد ص90 .

[5] ـ نظم الاستبداد ص90 ـ 91 .

[6] ـ نظم الاستبداد ص98.

[7] ـ نظم الاستبداد ص91.

[8] ـ كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد ص114 .

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن محمد العبدالكريم

كاتب وأستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق