في نقد حقوق النشر (٢)

الكاتب:

17 يناير, 2014 لاتوجد تعليقات

حاولت في الجزء الأول من هذه المقالة أن أناقش أبرز الحجج التي تساق لتبرير حقوق النشر، أتناول في هذا الجزء الثاني قصة ظهور حقوق النشر في السعودية وشيئا من مظاهر الخلل في النظام الحالي وبعض التجارب التي سعت للتغلب عليها.

المجتمع أم فرض الواقع؟

أحيانا يلجأ مؤيدو حقوق النشر لتبريرها برضى المجتمع فيُقرّون أولا أنه ليس للمنتج حق متعالٍ في احتكار ما أنتج وأن الغاية من هذا الاحتكار مجتمعيةٌ لا فردية: أن نشجع الإنتاج الثقافي لكي يستفيد منه عموم المجتمع، ثم ينطلقون إلى ادعاء أن المجتمع وافق على هذه القوانين وما دامت المسألة نسبية والمجتمع موافق عليها فلا مسوّغ لتغييرها ولا خرقها. هذا الادعاء يشمل عدة مسلمات، ولعل التعريج على تاريخ حقوق النشر مفيد لتبيين زيفها.

المتتبع لتاريخ حقوق النشر في عالمنا العربي يجدها امتدادا لحقبة استعمارية تلتها أنظمة قهرية لم تدع مجالا لخيار مجتمعي ولم تؤسس قنوات للحوار واتخاذ القرار بل وضعت الناس أمام الأمر الواقع واستسلمت لاتفاقيات دولية تكفل عولمة مفاهيم رأسمالية تسليعية وهيمنة الشركات العابرة للقارات، ولعل الحالة السعودية تستحق التأمل.

كان سعي السعودية للانضمام لمنظمة التجارة العالمية (الانضمام الذي لم نختره) والذي بدأ في 2001 وتم أخيرا في 19 ديسمبر 2005 مدخلا لإجبارها على إدخال تغييرات جذرية في نظام حقوق النشر، وفرضها بعنف على المجتمع؛ إذ أن الانضمام للمنظمة يتطلب المفاوضة مع الدول الكبرى المهيمنة على الاقتصاد وتوقيع اتفاقيات ثنائية معها. كان قانون حقوق النشر السعودي قد صيغ أصلا عام 1990 (وهو قانون لم نختره) لكنه لم يكن ينص على تقييد الأعمال الثقافية الأجنبية، ولا تقييد بث الأعمال الثقافية وعرضها للعموم، ولم يكن يفرض عقوبة السجن لمن يخرق حقوق النشر وكل هذه النقاط كانت مرفوضة قطعا بالنسبة للشركات. وجد الاتحاد الدولي للملكية الفكرية -وهو لوبي عالمي ضخم يجمع كبريات الشركات المستفيدة من حقوق النشر- في انضمام السعودية لمنظمة التجارة فرصة لتحريض الحكومات على تغيير القانون السعودي فكتب في تقريره عن السعودية لعام 2003:

اعتماد قانون يتوافق مع [اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية] TRIPS متطلبٌ لانضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية، لكن يمكن أن يكون ذلك فرصة طال انتظارها لتُحدَّث السعودية قانونها. يجب أن تُعطَى الحكومات التي تتفاوض السعودية معها حول الانضمام لمنظمة التجارة العالمية كل فرصة لتقييم القانون قبل إنهائه خشية أن يشمل تعارضا مع TRIPS. يرغب الاتحاد الدولي للملكية الفكرية أيضا بأن يمنح كل الفرص لمراجعة المسودة لينظر في القضايا المتعلقة بTRIPS وأيضا لكي يقترح بعض السبل لتحديث القانون […][1]

لم يكتفِ الاتحاد بتحريض الحكومات، بل طالب بأن تتدخّل الشركات العالمية ذاتها في تشريع القوانين في السعودية بحجة “التحديث”! ليست هذه الدعوة الفجّة مأخوذة من وثيقة مسربة بل نشرت علنا في واحدة من أهم التقارير الأمريكية التي تتناول حالة حقوق النشر في العالم، وهو ما يسمى ب”التقرير الخاص 301″.

اعتُمِد القانون في يونيو 2003[2] وشمل -لأول مرة- تقييد الأعمال الثقافية الأجنبية وتقييد بث الأعمال الثقافية وعرضها للعموم والسجن، لكن الشركات مجددا لم ترضَ وشملت اعتراضاتها هذه المرة أن القانون لا يُقيّد الأعمال الثقافية التي أُنتِجت قبل صدوره[3] (ولماذا تُقيّد أصلا وقد أنتجت دون حاجة لحقوق نشر؟!) فعُدّل القانون مجددا في 2005 ليلبي هذه الرغبة.

ومرة أخرى، لم ترضَ الشركات فتدخلت السفارة الأمريكية في ترتيب دعوة رسمية لرئيس الاتحاد الدولي للملكية الفكرية وتمت في يناير 2006. يقول الاتحاد عن الزيارة في تقريره لعام 2006:

خلال الاجتماع مع الاتحاد الدولي للملكية الفكرية أبدى مسؤولون سعوديون كبار التزامهم بإحداث تغييرات كبرى في النظام لتحقيق مزيد من الشفافية والردع ومن ذلك (ولأول مرة) السجن كعلاج بما يوافق متطلبات اتفاقية TRIPS.[4]

مجددا لم يكن الأمر كافيا، فأبدى الاتحاد في تقريره لعام 2008 انزعاجه من أن مدة السجن “قليلة جدا” فأعرب وزير الثقافة والاعلام بالنيابة عبد المحسن العكاس عن موافقته على رفعها.[5]

ليس هذا التدخل مقتصرا على الاتحاد الدولي للملكية الفكرية فوزارة الثقافة والإعلام سمحت في فبراير 2009 لمندوب من اتحاد منتجي برامج الكمبيوتر التجارية (BSA) -وهو تجمّع يضم كبريات الشركات التقنية العالمية المهيمنة، منها مايكروسوفت وأبل- أن يشارك في مداهمة إحدى الشركات السعودية التي خرقت قانون حقوق النشر.[6] ويظل السؤال: بأي حق تتدخل أطراف أجنبية في تطبيق القانون في البلدان العربية؟ أليست هذه من اختصاصات “السيادة” المزعومة؟

كان دور السفارة الأمريكية في الرياض أبعد من مجرد تسهيل عمل الشركات الأمريكية، ففي سبتمبر 2006 التقى السفير الأمريكي بوزير الثقافة والإعلام هاشم يماني الذي ذكّره أن السعودية اعتمدت سبع قوانين جديدة ذات علاقة ب”الملكية الفكرية” وأنها تُرجِمت وحظيت بموافقة الولايات المتحدة (لكن الوزير لم يُوضِّح: منذ متى ونحن ملزوم بموافقتها أصلا؟).[7]في أكتوبر 2007 كتب السفير برقية سرية للخارجية الأمريكية سرّبتها ويكيليكس عن “الاستراتيجية المُحدّثة للديمقراطية في السعودية”. لم يذكر السفير شيئا عن الحريات المدنية والسياسية أو المساوة، لكنه استدعى في إحدى بنودها دون أي مبرر: “احترام أكبر لحقوق الملكية الفكرية وفرضها” وكأن الديمقراطية تقتضي ذلك.[8] بل بلغت سفاهة السفارة أن اقترحت في برقية سرية في أغسطس 2009 أن يُتّبع منحى جديد لفرض حقوق النشر على السعودية باستدعاء القبضة الأمنية الأعنف: وزارة الداخلية. المشكلة -عندهم- أن وزارة الداخلية لم تكن مهتمة بهذا الموضوع، فما الحل؟ تقول البرقية:

سابقا كان انخراط وزارة الداخلية أقل من المأمول لكن يمكن تحفيزها إذا ما رُبطت جريمة حقوق الملكية الفكرية التي يُزعم أن “ليس لها ضحايا” بالجريمة المنظمة بل حتى بتمويل الإرهاب.[9]

من السذاجة اعتبار هذا التاريخ نموذجا على الموافقة المجتمعية، وتبرير حقوق النشر بناءً عليه. زد على ذلك كله أن الفرض ليس مقتصرا على الدول العربية، فصياغة الاتفاقيات وفرضها حتى على الشعوب الغربية ينال نصيبه من النقد اللاذع،[10] فآخر تلك الاتفاقيات مثلا وهي اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) بقيت سرا حتى عن الصحفيين[11] حتى تمكن ويكيليكس من تسريب إحدى فصولها في نوفمبر 2013.[12] السبب في ذلك أن الساسة وممثلي الشركات يسعون لصياغة الاتفاقية (التي بلغ طولها 1000 صفحة[13]) سرا فيما بينهم وتوقيعها وحينها لن يكون لأحد المشاركة الفعالة في صياغة تفاصيل الاتفاقية ولن يكون للبرلمانات إلا المسارعة في اعتماد الاتفاقية الضخمة كاملة أو إبطالها كاملة بخيرها وشرّها.

آفاق مزدهرة

يصعب التنكر لقيمة تقنيات الاتصال. لم يسبق في التاريخ أن أتيح الوصول اللحظي والمباشر للإنتاج المعرفي والثقافي بهذه السهولة. تصعب أيضا مقاومة هذا الإغراء، ولاسيما حين تكون الموانع مجرد قيود مصطنعة. في شهر يناير لعام 2013 وحده تعمّد 327 مليون شخص الوصول لأعمال تخرق حقوق النشر،[14] والأرقام في ازيداد مضطرد. أعلى حلقة تلفزيونية نُزّلت في 2013 كانت حلقة من المسلسل الأمريكي Game of Thrones، وتفوّق عدد مرات تنزيلها على عدد الذين شاهدوها على التلفاز.[15] في سنة 2013 وحدها قفزت الملفات المضافة لموقع خليج القراصنة (وهو أشهر موقع لتشارك الملفات في العالم) بنسبة 50%.[16] تُقدّم هذه الأرقام عادة وكأنها تدل على مشكلة ينبغي المسارعة في حلّها، لكني أنظر لها بإيجابية فهي تعكس مقدار الاستفادة من هذه التقنية في الوصول للمعارف والثقافة.

رفض حقوق النشر دفع مجتمعات من المنتجين للتكتل لتشييد فضاءات خارجة عن سلطته، ولعل البرمجيات الحرة واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك. تأسست البرمجيات الحرة عام 1984 حين أعلن مطوّر اسمه ريتشارد ستولمن رفضه لأن يكون لمطوري البرمجيات سلطة على المستخدمين يقيدون بها استخدام البرمجيات وتعديلها وفهمها وتوزيعها. قرر ستولمن أن يطلق مشروعا لبناء نظام تشغيل متكامل من الصفر ليكون للمستخدم التصرف فيه دون أن تفرض شروط تقيّد استخدامه أو تعديله أو توزيعه. نجح ستولمن في ذلك وصار النظام يعرف بنظام لينكس وأسس بذلك فضاء شاسعا من البرمجيات الحرة. اليوم تعمل مئات ملايين الأجهزة بتلك البرمجيات، وتعتمد كبريات مواقع الإنترنت عليها. حاول بعض الباحثين تقدير القيمة الاقتصادية لنظام لينكس الذي طُوّر دون اعتماد على قيود النشر: كم سيكلف لو أعدنا كتابته من الصفر؟ ستكون التكلفة 19 مليار دولار.[17] لاحظ أن هذا المبلغ يُقدِّر التكلفة الفعلية لكتابة النظام فقط، لكن لو كان النظام محتكرا لزدنا على هذا المبلغ تكلفة الإجراءات الإدارية والقانونية والدعائية ولأضفنا على ذلك كله هامشا ضخما للأرباح.

موسوعة ويكيبيديا مثال ملفت آخر. انطلقت الموسوعة عام 2001 وكانت رؤيتها: “تخيل عالما يملك فيه كل شخص الوصول الحر والمجاني لمجموع المعرفة البشرية. هذا ما نسعى إليه.” التف حول الموسوعة مجتمع نشيط من عشرات آلاف المتطوعين الذين يتحدثون مئات اللغات ويصوغون المقالات وينقحونها لتتاح للجميع دون قيود على النشر إذ يحق للجميع نسخ مقالات ويكيبيديا وتعديلها دون حاجة لإذن. هنا أيضا حاول بعض الباحثين تقدير قيمة الموسوعة الاقتصادية. كم ستكلف الموسوعة لو أعدنا كتابتها من الصفر؟ ستكون التكلفة 6.6 مليارات دولار (على أقل تقدير). كم ستكلف سنويا لو أردنا تحديث محتوياتها وتنقيحها؟ ستكون التكلفة 630 مليون دولار سنويا (على أقل تقدير).[18] بفضل ويكيبيديا صار كل مشروع تجاري لكتاب موسوعة عامة محتكرة مشروعًا فاشلا، وصارت الموسوعة مشاعا ينتفع منه الجميع.

تأمل أخيرا مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع تشارك الفيديو، وكيف أنها فجّرت ثقافة شعبية لا تعتمد على حقوق النشر. سكان السعودية مثلا هم الأعلى في نسبة استخدام تويتر من بين كل دول العالم،[19] وهم أيضا الأعلى في مشاهدة الفرد ليوتيوب بواقع 190 مليون مشاهدة يومية.[20]

هذه الأمثلة تشهد على سبل جديدة لخلق القيمة الاقتصادية وتوليد المعارف والثقافة أتاحتها تقنيات التواصل دون حاجة لحقوق النشر أو الاحتكار. لست أزعم أن جميع المشاريع يمكن أن تسلك مسلكا شبيها بنظام لينكس وموسوعة ويكيبيديا ومواقع التواصل، وأظن أن اعتماد بديل عمومي لحقوق النشر خطوة ضرورية، لكني أيضا أريد أن ألفت الانتباه إلى التغير السريع والمستمر في أنماط الإنتاج الذي يصاحب التطور التقني. ستحيا أنماط ثقافية، وستموت أخرى، كما يحدث دائما، وعند نقاش حقوق النشر ينبغي ألا يتمحور النقاش حول محاولة الإبقاء على نمط محدد، فالتبدل طبيعي وسيستمر.

هوس يجب أن ينتهي

لا حدود للهوس بتقييد التقنية. عام 2009 أطلقت أمازون إصدارها الثاني من قارئ الكتب الإكتروني كِندل. المُميّز في هذا الإصدار أنه احتوى أمرا لقراءة الكتب بصوت آلي لمساعدة المكفوفين على الاستفادة من كل الكتب. بلغت الصفاقة بمنظمة أوثرس غلد (المعنية بفرض حقوق النشر على الكتب) أن شنّت حملة لإزالة هذه الميزة وصرّح مديرها التنفيذي:

لا يحق لهم قراءة الكتب بصوت مرتفع. هذا حق صوتي، وهو [عمل] مشتق وفقا لحقوق النشر.[21]

كتب رئيس المنظمة في صحيفة نيويورك تايمز ينتقد بشدة أمازون ويطالب بإزالة الميزة لكي لا تؤثر على سوق الكتب المقروءة (وكأن بقاء السوق غاية لذاتها)، وفعلا أزيلت بعد أربعة أيام من إطلاق الجهاز.[22]

الهوس بتقييد التقنية أيضا نقل شيئا من عيوب العالم المحسوس وفَرَضها تعسفيا على العالم الرقمي. إعارة الكتب مثلا فعل اقتضته الضرورة. لو أحببت كتابًا مطبوعا وأردت أن يقرأه صديق وليس معي إلا نسخة واحدة منه فسأعيره إياه، لكن لو كان الكتاب متوفرا بصيغة رقمية فلا مبرر لأن “أعيره” إياه بل سأنسخه وسيتمكن كلانا من حيازته في نفس الوقت وإلى الأبد وبالتالي فواحدة من معضلات العالم المحسوس يمكن حلها رقميًا بسهولة. في أكتوبر 2010 أعلنت أمازون أنها ستسمح ب”إعارة الكتب الإكترونية”![23] “الميزة” الجديدة تمكّن الشخص من إتاحة الكتب التي اشتراها لشخص واحد لمدة أقصاها أسبوعين، وخلالها لن يتمكن من قراءة الكتب رغم أنها موجودة على جهازه.

ينبغي التأكيد مرارا وتكرارا مع تجدد هذه الأمثلة التي تؤكد سذاجة الواقع على أن هذا الواقع ليست حتميا، وليس لمنتجي الأعمال ولا الشركات التي تستحوذ على حقوق النشر حق بديهي أصيل في أيٍ من ذلك. الأفق أوسع من أن تقيّده مصالح قاصرة، والتقنية أغلى من أن تترك.

بقاء الحال من المحال، فكل يدعو لتغيير الواقع الذي نعيش: المنتفعون من احتكار الثقافة يسعون جاهدين لتوسيع الاحتكار وترويض المجتمع وتقييد التقنية وتضييق الآفاق، والمعارضون لها يسعون لمقاومة هذه الجهود، وتسخير التقنية لتعميم المعارف والثقافة، وتوسيع الآفاق.

الهامش

[1]: International Intellectual Property Alliance 2003 Special 301: Saudi Arabia, p. 580
[3]: International Intellectual Property Alliance 2004 Special 301: Saudi Arabia, p. 378
[4]: International Intellectual Property Alliance 2006 Special 301: Saudi Arabia, p. 371
[5]: International Intellectual Property Alliance 2008 Special 301: Saudi Arabia, p. 120

(هذه المقالة حُرّة: يحق لك نسخها وتعديلها دون حاجة لإذن شريطة أن تنسبها إلى مؤلفها وأن تبقيها حُرّة)

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق