في نقد حقوق النشر (١)

الكاتب:

16 يناير, 2014 لاتوجد تعليقات

الأشياء التي قيل أنها طبيعية وأن الأمور جرت عليها وأنها ستبقى كذلك إلى الأبد لم تكن طبيعية أبدا. كانت أشياء يمكن تغييرها والأهم أنها كانت أشياء خاطئة ويجب تغييرها. حين استوعبت ذلك لم يكن لي أن أتراجع.

–آرُن سوارتز، مُتَّهم بتنزيل مقالات علمية محتكرة لرفعها على الإنترنت هُدِّد بالسجن 35 عامًا.

تخلق التقنية فضاءات جديدة تجلب معها فرصا إما لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية أو لتكريس التسلط والهيمنة وتطرح تساؤلات غير مسبوقة. نعتمد كثيرا على القياس وعلى التشبيه حين لا نعثر على إجابات جاهزة على تلك التساؤلات ويسعى كل من له مصلحة إلى أن يكيّف القضايا ويؤطرها بالكيفية التي تعزّز مصلحته.

حقوق النشر واحدة من تلك التساؤلات التي أثقلتها الأساطير فمفهومها أولا حديث على مجتمعات كثيرة منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومعظم من يتلقون معلوماتهم عنها يتلقونها من حملات تطلقها جهات منحازة تسعى جاهدة لتغييب السرد التاريخي وتقديم تفسيرات مليئة بالثغرات لتبرر قمع من يهددون مصالحها.

أعتقد أن حقوق النشر تمنح سلطة تعسفية غير مبررة لمنتجي الأعمال، ففي الوقت الذي تفوّقت فيه تقنيات الاتصال والتخزين وأتاحت للجميع نشر الأعمال والوصول إليها بأقل التكاليف وعلى أوسع نطاق وأثبتت جدواها ونفعها وأهميتها البالغة في تعميم الوصول للمعارف والثقافة وفتح أبواب الإبداع والتعاون والتكافل، صار التخلي عن هذه التقنية واحتكار الاستفادة منها إشكالا حقيقيا. أناقش في الجزء الأول من هذه المقالة بعض المغالطات التي يكثر الترويج لها للدفاع عن حقوق النشر وأحاول أن أستعرض بعض البدائل المطروحة وأبين في ثناياها غرض حقوق النشر، ثم في الجزء الثاني أتناول تاريخ فرض حقوق النشر في السعودية لأبيّن أنها لم تكن خيارا مجتمعيا ولا فكرة أصيلة ثم أعرج على شيء من مظاهر الخلل في النظام الحالي وبعض المساعي للتغلب عليها. أملي أن يساعد هذا الطرح على تأطير القضية بشكل أدق، ولذا فمن الضروري أن نبدأ بمقدمة مقتضبة عن حقوق النشر.

ما هي حقوق النشر؟

ثمة امتيازات عديدة تمنح لمنتجي الأعمال الثقافية، وحقوق النشر واحدة منها. الخلط بين هذه الامتيازات منتشر، فلقد لاحظتُ مثلا أن كثيرين يظنون أن حقوق النشر تعني أن يُنسَب العمل لمن أنتجه وأن نقدها نقدٌ لأن تُنسَب الأعمال لمن أنتجها لكن الأمر ليست كذلك، ولذا فالتفريق مهم عند تناول القضية.

حقوق النشر هي احتكار مؤقت لنشر وتوزيع وبث وتعديل الأعمال الثقافية الخلّاقة يمنح لمنتج العمل. تتفاوت مدة الاحتكار هذه بين مختلف الدول، لكن معظمها تمتد على الأقل حتى خمسين عاما من وفاة المنتج.

حقوق النشر لا تقتضي أن يُنسَب العمل لمنتجه بل إن تجاهل النسبة -بحد ذاته- لا يعتبر خرقا لها بينما النسخ دون استئذان خرق لها (ولو كان ذلك دون تكسّب).

لا ينفصل ظهور حقوق النشر في العالم العربي عن الاستعمار، فأول اعتماد لها كان في تونس إبان الاستعمار الفرنسي عام 1887، ثم اعتمد “قانون حقوق المؤلف” للإمبراطورية العثمانية عام 1910 بعد سقوط السلطان عبد الحميد الثاني،[1][2] ثم اعتمدت في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي الإسباني عام 1917، وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية فرض الانتداب البريطاني عام 1924 قانون حقوق النشر البريطاني على فلسطين،[3] وفي عام 1928 أدخل الاستعمار الفرنسي حقوق النشر لسوريا بإدخالها في اتفاقية بيرن الدولية لحقوق النشر، التي ألغي العمل بها عام 1961 بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة.

ما هي الأساطير التي يسُوقها مؤيدو حقوق النشر لكي يقنعوننا أننا ملزومون بها؟

الأسطورة الأولى: لا يحق لك الاستفادة مما لم تدفع له ثمنا

هذه الأسطورة سخيفة ولذلك فهي لا تقال عادة بشكل صريح مباشر بل تغلف بحبكة درامية: “المنتج تعب وسهر وتكالبت عليه الهموم فكيف تجرؤ على أن تستفيد مما أنتج دون أن تدفع؟” لو أخذنا صلب الادعاء بجدية وحاولنا اختباره: هل فعلا لا يحق لي الاستفادة مما لم أدفع له ثمنا؟ لو افترضنا أن مؤلفا توصّل لاستنتاج تاريخي مهم بعد جهد، هل يعقل أن يطلب ثمنا من كل من تصله المعلومة؟ لو قرأ شخص الكتاب وحكى استنتاجه لأصدقائه، هل عليهم أن يدفعوا لأنهم استفادوا منه؟ هل هم “سارقون” إن لم يدفعوا؟ لو استعار شخص كتابا أو قرأه في مكتبة عامة، هل يعقل أن نصفه بأنه “سارق” لأنه لم يدفع، وهل المكتبات العامة مسارح للسطو والسرقة؟ من الواضح أن حقوق النشر -على علاتها- ليست مبنية بهذه الكيفية ولا لتحقيق هذه الغاية، لكن حملات التضليل تحاول أن تزرع الشعور بالذنب تجاه تصرفات بريئة. لا ينبغي ولا يمكن أصلا أن تربط استفادة الناس بالدفع، فليست كل العلاقات البشرية تعاقدية تبادلية.
لستُ معارضا لدعم المنتجين، لكن تبرير ذلك لا يمكن أن يكون بهذه الحجة.

الأسطورة الثانية: يحق للمنتج الاستفادة مما أنتج

هذه واحدة من الشعارات الفضفاضة التي يمكن أن تبرر كل شيء. شخصيا لا أرى مانعا في أن يستفيد الشخص مما أنتج، لكن هذا التبرير لا يحدد كيفية ذلك، ولا يجيب على الأسئلة الأساسية التي تُطرَح عند نقاش حقوق النشر. مثلا قد تمتد حقوق النشر إلى الأبد أو إلى خمسين عاما أو إلى عام واحد بل يمكن أن تكون استفادة المنتج دون احتكار العمل أصلا (كالتمويل العمومي أو التمويل الطوعي) وفي كل الحالات سيعتبر هذا التبرير ساريا، واستحضار هذا التبرير على افتراض أنه يقتضي نموذجا محددا مغالطة لابد أن ترفض.

الأسطورة الثالثة: حقوق النشر كفلتها الشريعة

ينطلق كثير من باحثي القضايا المعاصرة من مسلمة أنها تمثل مظهرا من مظاهر “التقدم”، لكنهم يرفضون في ذات الوقت أن يكون هذا “التقدم” متفوقا على الماضي فيسعون باستماتة لإسقاط المفاهيم الحديثة على الماضي. يمكن استحضار أمثلة كثيرة في هذا السياق، لكني أظن أن محاولة رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ بكر أبو زيد لتبرير حقوق النشر تستحق الاطلاع. في كتابه فقه النوازل خصًص الشيخ فصلا كاملا لإثبات مشروعية “ملكية التأليف” وقسّمه إلى ستة بحوث خلط فيها خلطا واضحًا بين مفهوم حقوق النشر (“ملكية التأليف”) وسواه من الامتيازات التي تمنح للمؤلفين، وجعل بعضها موجبا لبعض. يقول في صفحة 127 من المجلد الثاني في مبحث سماه “التاريخ القديم لملكية التاليف”:

تبقى الإشارة بكل ثبات إلى أن أصول ذلك المبدأ [أي “ملكية التأليف”] وجذوره تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية إلى أعماق بعيدة وهي إن لتكن معروفة بهذا الاصطلاح الشائع في العصر الراهن إلا أننا نستطيع تكيفها بعدة مظاهر.

ما هي هذه المظاهر؟

أولا: الأمانة العلمية
[…]
ثانيا: طرق التحمل والأداء عند المحدثين
[…]
ثالثا: تحريم الكذب والتدليس
[…]
رابعا: تحريم السرقة والانتحال
[…]
خامسا: التخليد (الإيداع)
[…]
سادسا: الجزاءات
[…]
سابعا: الاستنساخ
[…]
ثامنا: بيعها
[…]
تاسعا: وقفها
[…]
عاشرا: الوصية بها
[…]

في “المظاهر” الأربعة الأولى تحدث الشيخ عن رفض العلماء والمؤلفين المسلمين للانتحال، وليس لهذا -كما ذكرت آنفا- علاقة بحقوق النشر ثم في المظهر السادس ساق شواهد على جزاء من ينتحل ثم في المظاهر الخمسة الباقية تحدث الشيخ عن إيداع الكتب ونسخها وبيعها ووقفها والوصاية بها، دون أن يتطرق أبدا لتدخل المؤلف في ذلك أو اشتراط موافقته، بل كان من يقتني الكتاب يتصرف فيه بلا قيود. لم يعثر الشيخ إلا على عبارة واحدة وردت في آخر إحدى نسخ كتاب الرسالة للشافعي كتبها تلميذه ربيع بن سليمان قال فيها:

أجاز الربيع بن سليمان صاحب الشافعي نسخ كتاب الرسالة وهي ثلاثة أجزاء في ذي القعدة سنة خمس وستين ومائتين وكتب الربيع بخطه

يقر الشيخ بغرابة هذه العبارة لكنه لم يذكر أبدا أن الشافعي اشترط على تلامذته أن يستأذنوه لينسخوا كتبه، بل إن العبارة (كما نوّه المحقق) تعطي إذن التلميذ بنسخ الكتاب لا إذن المؤلف، وبالتالي فسياقه لهذه العبارة (الغريبة أصلا) ليس ذي معنى لإثبات أن الشافعي كان يعتبر الرسالة “ملكا” له والإذن بنسخها حقا من حقوقه؛ وهكذا لم ينجح الشيخ بكر أبو زيد في الإتيان بأي أمثلة على “التاريخ القديم لملكية التأليف” من التراث الإسلامي، بل ساق أمثلة عديدة تعارض ذلك صراحة وتؤكد أن المؤلفين لم يكن لهم سلطة على ما ينشرون.[4]

لم يكن احتكار الأعمال الثقافية وسيلة لتمويل إنتاجها طوال التاريخ الإسلامي بل اعتمد المؤلفون على عطايا الأمراء وعلى الأوقاف وعلى التدريس، وعلى هذا الأساس تأسست الحضارة الإسلامية. يحكي الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المستنصر بالله:

وبيعت كتب العلم في أيامه بأغلى الأثمان لرغبته فيها ، ولوقفها

لا جدوى من التنكر للتاريخ والسعي لإعادة تفسيره، بل سيعني ذلك فهما مشوّها للماضي والحاضر معا.

الأسطورة الرابعة: قانون حقوق النشر قانون ملكية.

كثيرا ما يرد مصطلح “الملكية الفكرية” عند نقاش حقوق النشر. هذا المصطلح مضلل على عدة مستويات، لكن ما يعنينا تحديدا أنه يستحضر مفهوم التملك ليطبقه على الأعمال الثقافية. اللجوء إلى إعادة تعريف المفاهيم وإعادة تأطيرها خطوة استراتيجية للتكسب من تصورات معينة في الذاكرة الشعبية وتوظيف ذلك في توسيع الهيمنة، لكن حقوق النشر الموجودة اليوم -على علاتها- ليست حق تملك تقليدي فهي مثلا محدودة بمدة زمانية، ولا يعتبر الشيء “ملكا” إن كان مقتصرا على مدة زمانية. الإطار الأنسب لفهم حقوق النشر ليس الملكية، فهي مجرد احتكار مؤقت ومصطنع لحريات محددة كحرية النسخ والتعديل.

لا يحدد نظام حقوق المؤلف (وهو قانون يغطي جوانب كثيرة منها حقوق النشر في السعودية) تعريفا لمعنى أن يكون المنتج “مالكا” لما أنتج، وهو يستخدم في معظم بنوده مصطلح “أصحاب الحق”، لكن وزير الإعلام اختار أن تكون “ملكية المؤلف” في جوهر اللائحة التنفيذية للنظام فجعل أولى التعاريف الواردة فيها التعريف التالي:

حق ملكية المؤلف : هو مجموعة المصالح المعنوية والمادية التي تثبت للشخص على مصنفه.

من المفارقة أن هذا التعريف منسوخ من قانون حماية الملكية الذي أصدره بشار الأسد عام 2001! عموما ثمة إشكلان جوهريان في هذا المصطلح وتعريفه: الأول أنه يفترض أن “مجموعة المصالح المعنوية والمادية التي تثبت للشخص” هي الملكية، لكن هل فعلا لو ثبت أن لي مصلحة معنوية أو مادية في شيء أني سأكون مالكه؟ هل مصلحتي المادية الثابتة في المشي في الشارع مثلا تجلعني مالكا له؟ وهل مصلحتي المعنوية الثابتة في التعلم من كتاب ألفه غيري تجعلني مالكا له؟ الإشكال الثاني أننا حتى لو حاولنا تطبيق مفهوم الملكية على عموم الامتيازات التي يمنحها نظام حقوق المؤلف فسنصطدم بحقوق “أبدية” و”لا تقبل التنازل” كحق أن يُنسَب العمل لمن أنتجه، وما معنى أن يكون الشخص “مالكا” إن لم يكن له نقل تلك الامتيازات والتنازل عنها؟

إذا ما أقررنا أن حقوق النشر ليست حقوق تملك فسيعني ذلك أيضا أن اتهام من يخرقونها ب”السرقة” أو “القرصنة” إجحاف مضاعف. توجد قوانين كثيرة تمنح فئات من الناس امتيازات معينة، لكننا لا نتهم من يخرقها بالسرقة وعلى نفس المنوال فلا مبرر لأن يُتّهم من يخرق حقوق النشر بالسرقة. قانون المرور مثلا يجعل أولوية السير لمن هم داخل الدوار ولهذا القانون مسوغاته لكن ليس عدلا أن نسمي من يخرقه سارقا وكأن الدوار ملك لمن له أولوية السير فيه. سمهم متهورين أو سمهم لا مبالين لكن لا حاجة لأن تذعن لمصطلحات هدفها أولا وأخيرا تكريس تصورات خاطئة عن القضية. لستُ بحاجة للاستشهاد برأي القضاء، لكن وعلى كل حال، فالمحكمة العليا الأمريكية أقرت عام 1985 أن:

مخالفة حقوق النشر لا تساوي السرقة ولا التعدي ولا الاحتيال. قانون حقوق النشر يستخدم مصطلحا بديلا للإشارة إلى من يسيء التعامل مع حقوق النشر: “[…]منتهك لحقوق النشر”

ما يزيد الطين بلة أن قوانين الملكية التقليدية لطالما ارتبطت بما له كمية محدودة كالأجسام المحسوسة وكثيرا ما تُبَرر الملكية بالحاجة لأن ننسب تلك الأجسام لمالكين ينتفعون منها ويرعونها وينظمون استخدامها، لكن الأعمال الثقافية ليست محدودة الكمية أساسا. قارن مثلا بين قلم إما أن أستخدمه أنا أو يستخدمها غيري، وبين عمل ثقافي ليس له كمية محدودة كهذه المقالة التي يمكن للجميع أن ينسخها وأن يقرأها في ذات الوقت دون أن يتنافسوا على حيازتها أو أن تقل استفادتهم منها. هذه واحدة من أعظم الآثار التي أتت بها ثورة المعلومات، فهي تغلبت على الندرة وجعلت من الممكن أن تتاح جميع الأعمال الثقافية للجميع دون مفاضلة، ولذا فإن نقل مفاهيم الملكية لما لا ندرة فيه تعسف يجب أن يرفض ابتداءً.

الأسطورة الخامسة: لن يبدع المنتجون بلا حقوق نشر وسيسخسر الجميع

هذه الأسطورة تنحو منحًا مختلفا أقرب للصواب وهي أنها لا تضع المنتج وحده محل التساؤل بل المجتمع بأسره لحاجته للاستفادة من الإنتاج الثقافي. لا يوجد حق معين أصيل أو علاقة “بديهية” بين المنتج والعمل الذي أنتجه بل المسألة نفعية: كيف لنا أن نشجع الإنتاج الثقافي لكي يستفيد منه عموم المجتمع؟ ولذا فالأمر مصطنع لا لذاته بل لغاية محددة. هذه النظرة هي التي تساعد على نبذ التبريرات المتهافتة وتقييم الواقع الذي نعيشه والبدائل المطروحة كما ينبغي أن تُقيّم. أعتقد أن حقوق النشر عقبة أمام الوصول للمعارف والثقافة، وأن ثمنها صار باهضا بما لا يبرر وجودها، وأن الأفق أوسع من أن نضطر لفرضها تعسفا.

لو رجعنا للأسطورة لوجدنا أنها تشمل ادعائين كلاهما خاطئ: الأول أن حقوق النشر هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لتمويل المنتجين، والثاني أن المنتجين يعتمدون عليها حصرا لتمويل أعمالهم، وسأتناولهما فيما بقي من هذا الجزء.

لم يبدأ الإنتاج الثقافي مع اختراع حقوق النشر، فالتاريخ مليء بعلماء ومفكرين وشعراء ورسامين وموسيقيين وروائيين أبدعوا وأسسوا حضارات وثقافات لم تكن فيها حقوق النشر مطروحة من أساسها، وحتى في زماننا لجأ كثيرون لمصادر دخل أخرى، لكن -وعلى كل حال- لو افترضنا أن من المنتجين من ينتج أعمالا قيّمة ويعتمدون على احتكارها لتمويل إنتاجها، ألم يفكر أحد ببديل لذلك؟ بلى طبعا، ثمة عدة مقترحات مطروحة على الطاولة، وإن كانت لا تنال ما تستحق من نقاش. سأتناول ثلاثة مقترحات رئيسية: مقترح حزب القراصنة، ومقترح مركز دراسة الاقتصاد والسياسة، ومقترح برفسور القانون في هارفرد وليام فِشر.

حزب القراصنة حزب تأسس في السويد عام 2006 وامتد بعد ذلك لأكثر من 40 دولة (منها تونس ولبنان!) فكرة الحزب قائمة على تحقيق هدف أساسي واحد: حماية الحريات الرقمية بتحديث القوانين لتتوافق مع التطور التقني. برنامج الحزب فيما يخص حقوق النشر قائم على نقتطين أساسيتين:

  • أولا، يجب ألا يقيد قانون حقوق النشر أي من أشكال الاستخدام غير التجاري للأعمال الثقافية (ومن ذلك مثلا منصات التورنت)، لأن التدخل في ذلك يعني أن تستحدث قيود تعسفية تحد من تسخير التقنية للتعاون والتكافل بين الناس، ويقتضي بالضرورة -إن كانت الدولة جادة في فرض القانون- أن تتدخل بسفور في المراسلات الخاصة بينهم وأن تتوغل في مراقبتهم. يرى الحزب الاكتفاء بدلا من ذلك بأن يقنن الاستخدام التجاري للأعمال الثقافية كبيعها وبثها وعرضها، لأن قانون حقوق النشر حين استحدث (في القرنين السابع عشر والثامن عشر) لم يكن يهدف إلا لضبط التجار وجعل ربحهم المادي مقترنا بتمويل المنتجين. كان التجار وحدهم يملكون معدات النسخ والطباعة، ولم تكن حقوق النشر سوى تنظيم تجاري لا يمس حياة الغالبية العظمى من الناس؛ وتَغيُّر هذا الواقع يوجب أن تُغيّر القوانين. سيتمكن المؤلفون مثلا من الكسب من العوائد المادية لطباعة كتبهم لكنهم لن يتمكنوا من منع نسخها، وسيتمكن المغنون من إقامة الحفلات الغنائية، لكنهم لن يتمكنوا من منع نسخها، وسيتمكن منتجو الأفلام من التكسب من عرضها في دور السينما، لكنهم لن يتمكنوا من منع نسخها، وهكذا ستظهر أنماط تجارية تخدم المستهلك دون أن تقيّده.
  • ثانيا، ألا تمتد حقوق النشر لأكثر من 10 سنوات منذ إنشاء العمل، لأنه أولا، لا دليل على أن امتداد حقوق النشر لخمسين سنة بعد وفاة المؤلف يدفع مؤلفين أكثر للإنتاج مما لو كانت أقل من ذلك كما أن كل زيادة تعني أن تحرم أجيال كاملة من الاستفادة من العمل في إنشاء أعمال ثقافية جديدة (مثلا: استخدام المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية في مقطع فيديو جديد).

المقترح الثاني يأتي من مركز دراسة الاقتصاد والسياسة وهو مركز تقدمي مقره واشنطن العاصمة، واسم المقترح “قسيمة الحرية الفنية“. الفكرة نشرت عام 2003: أن يرصد من الميزانية العامة ميزانية تُقدّر بحسب توقع الإنفاق على الإنتاج الفني والثقافي (في الولايات المتحدة قُدّرت عام 2003 ب 20 مليار دولار). يمنح كل مواطن بالغ نصيبا من هذه الميزانية يحق له أن يصرفه لمن شاء من منتجين. في المقابل يحق للمنتجين أن يستمروا على نظام حقوق النشر القائم على ألا يتلقوا شيئا من تلك الميزانية، أو أن يشتركوا في قسيمة الحرية الفنية على ألا تخضع أعمالهم لحقوق النشر. تقدر الدراسة أنه إذا منح كل مواطن أمريكي بالغ قسيمة بمبلغ 100 دولار، فسيكفي ذلك لتمويل نصف مليون مخرج وكاتب وممثل ومصور وموسيقي ومبرمج. بهذه الطريقة ستتوفر تدريجا أعمال ثقافية مهولة دون حقوق نشر وسيتمكن المنتجون من الاستفادة منها مباشرة في إنتاج أعمال جديدة وسيوفرون تكاليف باهضة كانوا سيصرفونها على الإجراءات القانونية والإدارية وستوفر الدولة أموالا طائلة كانت ستصرف على تعقب من يتشاركون الأعمال الثقافية وملاحقتهم ومحاكمتهم، وفوق ذلك كله لن يكون للدولة تقرير الأعمال التي تُنتَج بل سيكون للناس قرار مباشر في تمويل الأعمال التي يفضلون.

المقترح الثالث قدمه بروفسور القانون في جامعة هارفرد وليام فِشر في كتابه Promises to Keep. ينطلق فِشر من قراءة اقتصادية لحال الثقافة، فهو يعتبرها نفعا عاما يشبه الأمن القومي. كيف يُموّل الأمن القومي؟ يُموّل من المال العام لسببين: الأول أن انتفاع أحدنا من الأمن القومي لا يقلل من انتفاع الآخرين منه، والثاني أنه من الصعب جدا أن نحمي الأمن القومي للبعض دون الآخرين وبالتالي فالواجب أن يشترك الجميع في تحمل تكلفته. الثقافة ينطبق عليها نفس السببين، فاستمتاعك بروائع ماجدة الرومي وجوليا بطرس مثلا لا يقلل من استمتاع الآخرين بها، والتقنية جعلت من الصعب أن نستثني أحدا من الوصول إليها. يقدم فِشر دراسة مفصلة لقطاعين من قطاعات الترفيه الأمريكية: الموسيقى والأفلام وتكاليف الإنتاج الفعلية، ثم يقترح أن يخصص جزء من الميزانية لتمويل الأعمال وأن توزّع على المنتجين بحسب انتشار أعمالهم. يستعرض فِشر في كتابه مقترحات عملية لقياس انتشار الأعمال الثقافية منها الاستعانة بالسبل التي تعتمدها شركات التلفزة اليوم في تقييم انتشار برامجها. مزايا هذا النظام تشبه مزايا نظام “قسيمة الحرية الفنية” التي ذكرتها أعلاه: ستُخفَض تكاليف الإنتاج، وسيعمم الوصول للثقافة، وسيتاح للمنتجين الاستفادة من أعمال ضخمة متاحة بلا قيود على النشر، ولن يكون للدولة تقرير الأعمال التي تُنتَج.

ثمة مقترحات أخرى عديدة منها تلك التي صاغها بروفسور القانون في هارفرد لورناس لسِغ في كتابه Remix، وتلك التي صاغها مؤسس حركة البرمجيات الحرة ريتشارد ستولمن، وتلك التي تتبناها مؤسسة المُشَاع الإبداعي.

شخصيا لا أعتبر مقترحا معينا من المقترحات التي ذكرتها أعلاه هو “الحل” وأعتبر المسألة تجريبية ولربما أمكن اعتماد نماذج مختلفة لتمويل مختلف أشكال الإنتاج الثقافي في ذات الوقت وفي ذات البلد. ما يعنيني تحديدا أن تحمى حرية الناس في التشارك، وأن تسخر التقنية للتعاون والتآزر، وأن تزال القيود التعسفية التي تمنعهم من ذلك. ثمة نماذج كثيرة تفي بهذه الغاية، والأهم من ذلك كله أن نفتح الآفاق وألا نستسلم للأمر الواقع وكأنه ذروة ما توصل له العقل البشري.

الهامش

[1]: Intellectual Property and Development: Theory and Practice p. 211
[2]: Colonial Copyright: Intellectual Property in Mandate Palestine by Michael D. Birnhack‏. Oxford University Press 2012. Page 83.
[3]: المصدر السابق صفحة 100
[4]: فقه النوازل، بكر أبو زيد، المجلد الثاني، ص147-148. “6- ومنها: كائنة الفراء مع الوراقين في كتابه: معاني القرآن…”

(هذه المقالة حُرّة: يحق لك نسخها وتعديلها دون حاجة لإذن شريطة أن تنسبها إلى مؤلفها وأن تبقيها حُرّة)

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق