آصف بيات: عن التغيير والثورة و “اللاحركات الاجتماعية”

الكاتب:

9 سبتمبر, 2013 لاتوجد تعليقات

تقدم كتابات آصف بيات، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إلينوي، منظورا مختلفا للحركات الاجتماعية في المنطقة العربية والشرق الأوسط ؛ حيث يستكشف في تحليلاته اللصيقة بالواقع أشكالاً جديدة من الحراك الاجتماعي ليست في العادة مرئية ومفسرة جيداً لمن ينطلق من التصورات التقليدية للحركات الاجتماعية التي تستلهم من تجارب تاريخية أخرى مختلفة الظروف. هذه السمة الأساسية في كتاباته تتحقق عبر قراءة تاريخية وملاحظات اثنوغرافية ثرية مستمدة بشكل أساسي من الحالتين المصرية والإيرانية. لكن هذه التفسيرات السيسيولوجية والتي يحاول تشييدها استقصائيا لا تتوقف قيمتها على ما تقدمه من رؤى ومعلومات تخص هاتين الحالتين بل تتعداهما إلى تقديم  نماذج لفهم الواقع الأوسع سيما وأن ذات الظواهر تسجل حضورا في المنطقة ككل.

تتبلور أهم هذه الأفكار في كتابه واسع القبول والذي نشر عام  2007 تحت عنوان “جعل الإسلام ديموقراطيا: الحركات الاجتماعية والانعطافة مابعد الإسلاموية” Making Islam Democratic: Social movements and the Post-Islamist Turn. في هذا الكتاب يقوم آصف بتقديم ثلاث أفكار أساسية في سياق متصل. فمن جهة يمكن النظر إلى الكتاب باعتباره نقداً موسعاً لجدل التعارض/التوافق بين الإسلام والديموقراطية إلى جانب كونه تحليل تاريخي اجتماعي لتحولات الحالة الإسلامية من جهة أخرى. ويضاف إلى هذا وذاك الخروج بأطروحة نظرية غير تقليدية حول طبيعة الحراك الاجتماعي وديناميكيته وتمظهراته سواءً في اطار الحالة الاسلامية أو خارج حدودها.

ينطلق آصف من التشكيك في جدوى السؤال حول ما اذا كان الإسلام بطبيعته متوافق مع الديموقراطية أم لا. فالمقولات الشائعة ذات الحمولة الاستشراقية في الغرب والتي تجعل من التنافر بين الإسلام والديموقراطية (وقيم الحداثة بالعموم) قدراً حتمياً أو تلك التي تأتي كردة فعل لتصور الإسلام كديموقراطي بالطبيعة , تفشلان في إدراك التعدد في الرؤى الإسلامية حيال الصلة بين الاسلام والديموقراطية إذ أن تعريف هذه الصلة مرهون بالتحولات التاريخية والتفسيرات المتنافسة للنصوص وليس بحقيقة جوهرية في الاسلام فهي “ليست ببساطة مسألة فلسفية .. بل سياسية”. وعليه فطرح مثل هذا السؤال -يقول آصف- خاطئ في المقام الأول والسؤال الصحيح الذي يدفع به محاولاً الاجابة عليه في بقية الكتاب : “تحت أي ظرف يمكن للمسلمين أن يجعلوا الإسلام متوافق مع الديموقراطية؟”. ومن هنا يشرع  في رصد التحولات داخل الحركة الإسلامية وظهور مسار مابعد إسلاموي في تحليلٍ لا يتعامل مع هذه التحولات كنتيجة لحوارات داخلية فحسب بل صيرورة اجتماعية تتفاعل مع العوامل المختلفة في اطارها المجتمعي الأكبر.

ولعل من أبرز ما يُعرف به الكتاب هو تطويره لمفهوم “مابعد الإسلاموية  Post-Islamism ” والذي سبق أن استخدم من قبل عدد من الباحثين الغربيين -الفرنسيين تحديدا- بشكل مرسل وغير منضبط الأمر الذي تجاوزه آصف بتقديمه أول تعريف منهجي محدد للمفهوم. ولا يريد آصف بما بعد الإسلاموية نهاية الإسلام السياسي -كما قد يوحي المصطلح من أول وهلة- بل يوظفه للإشارة إلى دلالتين اثنتين. فهو أولاً يعبر عن “حالة” وليدة لأزمة مرت وتمر بها التجربة الإسلاموية مُشرعةً المجال للأسئلة والشكوك والمراجعات حول هذه التجربة “المرهقة”. وثانياً عن “مشروع” بديل ومحاولات واعية لتخطي الخطاب الإسلامي التقليدي “الإسلاموي” في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية. إلا أن تلك الحالة وهذه المشاريع -يؤكد آصف- ليست غير إسلامية أو معادية للإسلام بل تتميز في كونها محاولة “للمزج  بين التدين والحقوق، الإيمان والحرية” وللتأكيد ” على الحقوق بدلا من الواجبات وعلى التعددية بدلا من الصوت الأحادي السلطوي وعلى التاريخانية بدلا من النصوص الجامدة” في تمايز واضح مقابل الخطاب الإسلاموي.

وفي تتبعه لظروف ظهور هذا الخطاب وتطوره وحدوده والظروف التي أنجبته، يتناول بالتفصيل سياقي إيران ومصر كنموذجين متمايزين في تعاطٍ لم يكتفِ بالمحطات الرئيسية بل يستعرض معطيات تفصيلية عن أبرز الفاعلين والتشكلات السياسية والتغيرات التي تطرأ في الفضاءات العامة وتلك التي يعايشها رجل الشارع العادي. ومن خلال هذه المقارنة يلاحظ آصف مسارين مختلفين فهو يلفت الإنتباه  إلى قوة وبروز التيارات ما بعد الإسلاموية في إيران مقابل الحضور المحدود لها في مصر الأمر الذي يعزوه إلى أسباب بنيوبة تتمثل في أن الأولى شهدت “ثورة إسلامية من غير حركة إسلامية” بينما الثانية “حركة إسلامية من غير ثورة إسلامية”. فولادة الدولة الإسلامية في إيران والإشكاليات التي ظهرت خلال تجربتها ترتب عليها وعلى مدى عقدين من الزمن تكون حركة واسعة تعارض النظام الإسلامي في شكله التقليدي ممثلةً في الحركة الإصلاحية التي بلغت ذروة تأثيرها في تسعينيات القرن الماضي. في المقابل ظلت الحركة الإسلامية في مصر متمترسة في المجتمع المدني حيث استطاعت فرض تأثيرها العميق على مجالات الحياة المختلفة أي أنها بنت وجود إجتماعي عريض -يخترق أحيانا قطاعات حكومية بدرجات متفاوتة- دون أن تدخل على الدوام في مواجهات صاخبة مع الدولة. استحواذ الحركة الإسلامية على المجتمع المدني بهذا الشكل لم يترك مساحات كافية لبروز حركة منافسة تتجاوز هذا المشروع الإسلاموي.

وبناءً على هذه المقارنة التاريخية الاجتماعية المطولة -والتي عرضت مبتسرة هنا- قدم آصف مناقشاته النظرية الدقيقة عن طبيعة الحركات الاجتماعية وديناميكيتها في الشرق الأوسط تحديدا. فهو يؤكد -وعلى خلاف بعض النماذج الغربية- أن الدولة والمجتمع المدني لا ينبغي أن ينظر إليهما كمساحتين منفصلتين كلياً. حيث يبين عملياً من خلال دراسة حالتي إيران ومصر كيف أن الأنظمة تدخل في تنافس مع لاعبين أخرين في تشكيل الحياة العامة والممارسات اليومية للمواطن. إن توليد القوة في المجتمع لا يتم عبر المؤسسات الرسمية أو الأفعال السياسية المباشرة فقط بل يكمن أيضا في قدرة الحركات الاجتماعية والفاعلين المختلفين على خلق ثقافة بديلة وتنظيم الأنشطة الحياتية حولها. وهنا يطرح مفهوم “سياسة الحضورPolitics of Presence ” أو “فن الحضورThe Art of Presence” أي كيف يمكن لأفراد عاديين غير مترابطين بالضرورة  أن يغيروا معالم الواقع السياسي ليس من خلال مواجهات سياسية جمعية مباشرة يمكن قمعها بسهولة إنما عبر ممارستهم لحياتهم اليومية في الفضاء العام بشكل يعبر ذاتيا عن موقف.

وفي أعمال أحدث له يقوم آصف بتطوير مفهوم سياسية الحضور وتقديم أطروحة نظرية أكثر تماسكا حول أنماط الحياة اليومية التي تهمل دراسات الحركات الاجتماعية قدرتها على انتاج واعادة توزيع القوة في المجتمع. هذه الأعمال جمعت في كتاب عنون بـ”الحياة كسياسة: كيف يقوم الناس العادييون بتغيير الشرق الأوسط Life as Politics: How ordinary people change the Middle East”  والذي نشرت طبعته الأولى عام 2010 حيث بدا فيه متحسساً للتغيير ومقدماته أتبعت بطبعةٍ ثانية أضيف لها فصل مخصص عن الثورات العربية. وفي حين لا يغفل الكتاب من الأثر الحاسم للانتفاضات الثورية كما لا يقلل من شأن الحركات الاجتماعية التي تتبلور في بنى واضحة إلى هذا الحد أو ذاك وتوجه الفعل السياسي الجمعي بشكل مباشر و واعي، فإنه يؤكد على صنف آخر من الظواهر لايكون مرئيا للكثير ولا تقدر قوته التحلولية قدرها وهو ما يطلق عليه “اللاحركات الاجتماعية Social Nonmovement”.

اللاحركات الاجتماعية هي الأثر الجمعي لعدد كبير من الفاعلين الذين لا يعملون بشكل جمعي. فعندما يقوم أفراد عاديون منتشرون وغير مترابطين بممارسات يومية متشابهة لا تتوافق مع النظام العام لكنها لا تأخذ طابع التحدي والمواجهة فإنهم ينتجون حالة ضاغطة لا يستهان بقدرتها على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي. إنها الزحف الهادئ “Quiet Encroachment”  الذي يضع الأنظمة والقوى التقليدية  في مأزق ؛ فاللاحركات الاجتماعية ليست هدفا معاديا يمكن تبرير قمعه ولا كيانات منظمة ذات قيادات محددة يمكن تحجيمها وامتصاصها إنما هم الناس العاديون وهم يمارسون حياتهم فحسب. تكمن خطورة هذا الشكل من أشكال التغيير السياسي الصامت في أنه يشرعن ويطبع الواقع الجديد الذي يصنعه الناس بممارساتهم ويغير القيم والمعايير السائدة، انه يهدد منطق القوة ذاته “Governmentality” أي قابلية الفرد لأن يُحكم وأن يكون عنصرا طيعاً . يقدم آصف في الكتاب عدداً كبيراً من الأمثلة من واقع الحركة النسوية وحركات الشباب وكذلك تحدي الفقراء لواقعهم في المناطق الحضرية. إذ لا يتطلب خلق زخم تغييري على سبيل المثال أكثر من أن تظهر المرأة الإيرانية في الفضاءات العامة، أن ترتدي زيا معينا أو تنخرط في أنشطة مجتمعية. كما أن ممارسة الشاب حياته اليومية من خلال ابراز ذاتيته وأنماط من التدين غير المنصاعة إلى المؤسسات تغير خريطة السياسي-الديني وبالتالي تغير من قدرة قوى معينة على التعبئة على سبيل المثال.

وبالرغم من أن الكاتب يميز بين الحالة الثورية “الاستثنائية ” المؤقتة وبين حالة الحياة “العادية”، إلا أنه يشير أن ثمة اتصال مهم بينهما. اللاحركات الاجتماعية التي تمخضت عن حالة غير منظمة -حيث حل “الفعل الجمعي Collective actions” محل “الفاعليين الجمعيين Collective actors”- وعن مناخ يضع حياة الأفراد خارج تنظيم وتحكم الدولة شكلت أرضية خصبة لحلول اللحظة الثورية. هذه اللحظة التي لا تلبث أن تتبدد  بالضرورة وتُتبع بحالة عادية أخرى. إن الثورات -كما يقول آصف- هي لحظات استثنائية في التاريخ يتكثف فيها التضامن وتتصاعد الطموحات ويخرج نظام القوة من طوره الطبيعي. فكما أنه لا يعود هذا النظام إلى ما كان عليه قبلها إلا أنه لا يستمر وفق منطق الثورة. فلا يمكن تحقيق آمال الثورة إلا من خلال حركات أو لاحركات اجتماعية مستمرة تقوم بتشكيل العادي واليومي والمستقر. إذ أن التشكيلات التي تخلقها الثورات سريعا ما تختفي وتعود القوى والتحالفات القديمة إلى السطح لتأخذ مواقعها في واقع جديد.

التنبه للعودة إلى الحالة العادية يتأكد في حالة الثورات العربية (وتحديدا حالتي تونس ومصر) والتي يعدهما آصف نموذجين فريدين. فبعد تمييز ثلاث أنماط تاريخية لتغير الأنظمة السياسية (الإصلاح- التمرد- انهيار النظام ) وجد أن هذه الحالات لا تفسر بدقة مقنعة ما حدث في مصر وتونس. فهم هذه الثورات يحتاج إلى اقتراح تصنيف رابع أسماه  بالثورات الإصلاحية “Refo-lution” أي أن الثورة لم تتقدم لمحو الأنظمة بل وجهت الطاقة الثورية للضغط على الأنظمة ما ترتب عليه استجابة وتفكك لأجزاء حيوية منها بالرغم من أنها مازالت قائمة. وبالتالي فهذه الثورات بالذات لم تكمل مهمتها بعد وتحتاج لفترات طويلة واستراتيجيات تغيير مختلفة.

إن تناوله للثورات -في هذا الكتاب- ودايناميكية المجتمعات العربية في الفترات السابقة على الثورة لا تتوقف على ما تم استعراضه في هذا الموجز الذي أبرز أفكاراً أساسية فحسب. فالكتاب يتضمن مناقشات سياسية اجتماعية مهمة حول الحركة النسوية وحول الحراك الصامت للفقراء في المجال الحضري في مدن الشرق الأوسط. كما شمل معالجة نقدية لظاهرة “الحركات الشبابية” بالإضافة إلى تحليلات تتعلق بالفضاءات العامة والتغيرات التي مرت بها  مروراً بحديث مفصل عن الثورة الخضراء في إيران وانتهاءً بمحاولات للربط بين الثورات ومستقبلها وبين الإتجاهات المابعد إسلاموية.

كتابات آصف بيات تقدم منظورات تحليلية مركبة للنظر إلى الواقع السياسي في دول الشرق الأوسط بالعموم. فعلى الرغم من أنها مبنية على معطيات إمبيريقة من مصر وايران كونهما حالتين عايشهما المؤلف عن كثب (فهو إيراني الأصل والنشأة قضى 16 سنة من عمره أستاذاً في الجامعة الأمريكية بالقاهرة) إلا أنها تسعى لتفسير ظروف تتكرر إلى هذا الحد أو ذاك في مناطق أخرى وهو ما يبدو واضحا في محاولات آصف للإحالة إلى هذه الظواهر كحالات اقليمية ولتعميم نماذجه لتكون أدوات يفهم بها واقع هذه الدول عوضاً عن أدوات تحليلة غربية يبن قصورها.

إن الحالة السعودية ليست استثناءا في هذا الصدد؛ فإن القارئ المستحضر لهذه الحالة سيلاحظ بوضوح الارتباط الوثيق بين الموضوعات التي يعالجها الكاتب وبين الواقع السعودي والجدل الدائر في أوساط العامة. فعلى سبيل المثال تناوله للمراجعات داخل الحركة الإسلامية وظهور تيارات إسلامية جديدة  (أو مابعد إسلامية) ومقارباته النقدية حول الحركة الشبابية تقدم إضاءات مهمة لمن يعنى بمتابعة وفهم هذه الظواهر كما تتبدى في الواقع المحلي. وبالإضافة إلى هذه القيمة التحيليلة الظاهرة، تمثل كتابات آصف بيات إضافة مهمة للنقاشات المحلية الدائرة حول العلاقة بين الإسلام والديموقراطية إذ أنه يقدم منظورا مختلفا في التعاطي مع هذا المسألة يحفز مزيدا من النقد والتداول. وعلاوة على هذا وذاك، يمكن لأطروحاته أن تضئ مساحات معتمة في فهمنا للواقع المحلي وبالتالي فهم فرص التغيير واستراتيجياتها. مساحات لا ينظر إليها في العادة عند الحديث عن الواقع السياسي ولا يفكر فيها كاستراتيجيات تغيير فعلية. من السهل كما يقول آصف أن يذوب الفرد في التيار العام وليس من العسير أن يكون حاداً ومتصلباً على هامش المجتمع. التحدي الحقيقي هو في فن الحضور” أن تكون “حاضرا” بشكل كثيف في قلب المجتمع من دون أن تنحرف عن أهدافك أي أن تكون أخلاقيا وفعالا في ذات الوقت”. ولدى آصف الكثير ليقوله حول معنى أن تكون حاضراً.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق