مقاتل الديمقراطية، ومصارع الحرية.. التنوير السعودي انموذجا.

الكاتب:

19 يونيو, 2013 لاتوجد تعليقات

مسألتا الحرية والديمقراطية، ليستا بحديثتا عهد في الفكر العربي الإسلامي. فهما من الإشكاليات التي يعود طرحهما لما اصطلح على تسميته عصر النهضة(1789-1939). هناك رصيد ضخم من المؤلفات والأسماء التي  تعاطت مع هاتين المسألتين وفق اتجاهات نظر وظروف متعددة ومختلفة. في السياق السعودي، كان حضور هاتين المسألتين يتم عبر، إما استعادة أطروحات عصر النهضة، وماتلاه-خاصة المدرسة المصرية- أو نتاج الفكر الغربي؛ وطرحهما كمقولات عامة وشعارات فضفاضة، مرفوقا باتخاذ موقف حدي منها، بين متبن لها جملة وتفصيلا، ومن رافض لها كلية. إلا أن هذا التناول طرأ عليه تغير في التسعينات الميلادية من القرن المنصرم، مع بداية ظهور ماسُمي لاحقا بـ”التنوير الإسلامي”.فقد بدأت محاولات لنقل وتبيئة شبكة مفاهيمية حديثة، وزرعها في حاضنة محلية. ليس من هدف هذا المقال، تقديم شرح او تفصيل حول هاذين المفهومين، ولا البحث في أنماط الحرية، أو مساحات عمل الديمقراطية.  إنما ينحصر التركيز في عرض الوعي بهاتين القيمتين الفلسفيتين الأخلاقيتين ، وطريقة التعاطي معهما من قبل تيار التنوير.

سيتم التركيز على نموذجين تمثيليين للتيار التنويري في السياق السعودي،هما الاستاذ نواف القديمي، ود. محمد الأحمري. معيار اختيارهم عائد لوجود كتابات مباشرة ومتواصلة لهما حول الحرية والديمقراطية؛ وحسبانهما على التنوير مرده: إما لإقرار بالانتساب لهذا التيار ( كما في حالة نواف القديمي) و/ أو لاتخاذ النهج التنويري في التعاطي مع إشكاليتي الحرية والديمقراطية( كما في حالة الأحمري).

يطرح تيار التنوير مسألتي الحرية والديمقراطية، بطريقة ملتبسة ومشوشة و فيها كثيرا من البهلونيات . لاتكاد تجد لدى احد من رموزها، ممن تعرضوا لنقاش هاتين المسألتين، معنى راسخا يمكن الإمساك به ، لماهية الحرية، ولا لدلالة الديمقراطية.  بل أنك تجد الكثير من التناقضات عند التعرض لهاتين القيمتين.فالأحمري المتغني بفضائل الديمقراطية، يتهرب من وصفه بداعية لها. أما القديمي، الحامل لمشعل أشواق الحرية، لايجد غضاضة في أن يحيلها لهامش وينزع منها نواتها الصلبة.

 يكتب القديمي دفاعا عن خالص جلبي  ,ضدا على فتوى البراك المُبعدة لجلبي من حمى الإسلام. يطالب القديمي بترك مساحة للتأويل في  فهم النصوص  الدينية، وعدم تضييق ماهو واسع. ويسرد لذلك آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية شريفة. وما أن يُجابه بردود تعترض على ماذهب إليه، إلا ويعيد تحجير ماطالب بتوسيعه،بإحالته الحرية لتكون “هامش” تحددها الأكثرية، ضدا على الأقلية .لا يقدم القديمي الحرية، بوصفها “حقا” أصيلا للإنسان يجب الدفاع عنه، والوقوف لتحقيقه، دام أنها لم تتجاوز كونها “رأيا” وممارسة شخصية. بل ينصب تركيزه،على توضيح أن الشيخ البراك لم يوفق في فهم ماكتبه خالص جلبي. بل يذهب القديمي ابعد من ذلك في إفراغه لمفهوم الحرية من معناه، بمزايدته على مااسماه المحافـظ، -يقصد به تيار السلفية التقليدية-، ويقول أن  التيارات الإسلامية الإصلاحية-والتنوير احدها- هو الأقدر على مواجهة “التغريب” و”العلمنة”، ومعالجة الانحرافات الفكرية والسلوكية لدى الأجيال الشابة، والمبتعثين خاصة. يُحجِّم القديمي عن تناول هذه السلوكيات من جهة كونها اختيارات لاتتجاوز الشأن الشخصي-يسميها انحرافات- يجب أن تُحترم تأسيسا على قاعدة الحرية. يعود القديمي للمزايدة على قيمة “المحافظة” كفضيلة، يسعى لترسيخها، من الطريق الذي صرح انه خرج عليه، ويسعى لنقده  .بل انه يتنازل عن سلوكيات بسيطة ويعتبرها من اللمم المستوجبة للإستغفار، كحلق اللحية والاستماع للموسيقى بل ومشاهدة مباريات كروية!!.وهو تخلي من القديمي ،بكل أريحية، عن أهم دعائم تياره- وإحدى الأذرع الرافعة للحرية لديه-، عنيت ورقة الخلاف الفقهي، بل أن هذه الورقة هي أكسجين تيار التنوير في نسخته السعودية، بنزعها يدخل طرح القديمي ورفاقه حالة الموت الدماغي.

في كتابه الذي أنجزه في ثمانية أيام !والمعنون بـ”اشواق الحرية:مقاربة في الموقف السلفي من الديمقراطية” يحصر القديمي الحرية، في مظهرية التعبير السياسي فقط. ففي عدة مواضع من الكتاب يعيد المؤلف التأكيد على أحقية الأمة في تقييد قيام أحزاب سياسية على أساس علماني. ولانجد أي معنى للحرية خارج هذا الإطار. بل أن هذا التنويري، يخسف بهذه الحرية ،المٌضيَق معناها، ويقول بـ “بهامشية الأقلية” في المجتمع السعودي، حارما إياها- بوعي أو دونه- من الحرية السياسية. يتكئ الكتاب على مماحكات، إن صدق تماسكها الظاهري، فباطنها مجوف. يُعيد القديمي ترديد المقولة الشائعة “ لاوجود لاحرية مطلقة”، لكنه يُغفل أو يتغافل عن أن صدق هذه المقولة مشروط بجود حد أدنى من الحريات (حرية تدين، حرية تعبير، حرية تجمع وتنظيم…الخ) وعدم التمييز بين أكثرية أو أقلية في أحقية بالتمتع بها. تختلف مساحة الحرية، وتمثلاتها من مجتمع لآخر، لكن لايمكن حصرها في ميدان السياسة، ونفيها عن بقية الميادين.فليس هناك “اضر بالحرية، إدراكا وتحقيق من التركيز على ظاهرة دون سواها” لأن “ كل نظرة أحادية إلى الحرية تُضعف حظوظ تحقيقها وتسهل النقد على أعدائها الصرحاء أو المقنعين”

اما الديمقراطية، فإن المؤلف لايتوانى لحظة عن حصرها في المشاركة السياسية،و دفنها دون كفن في صندوق انتخاب. بل حتى هذا الإنتخاب يحصره- عن سبق إصرار- بأغلبية ثابتة، ملغيا حق الأقلية فيها. لتتجوهر الديمقرطية بـ”طغيان اكثرية” بطلاء ديمقراطي زائف. هذا التزييف للديمقراطية، يتكشف متى ماتم ماعرفنا أن مفهومي الأقلية، والأكثرية، مفهومان متحركان فأقلية اليوم تكفل لها الديمقراطية التحول لأكثرية الغد والعكس صحيح؛ فليس هناك ثبات مُطلق ونهائي للأقلية والأكثرية في التناوب الديمقراطي.

 يعيد القديمي ويزيد القول في أن الديمقراطية ماهي إلا أداة إجرائية لاختيار الحاكم، بل وينص على أن الشورى قيمة ومبدأ، والديمقراطية هي أداة تنزيل لهذه القيمة من سماء المثال لأرض الواقع(ص٣٨-٣٩) نازعا من هذه الأخيرة روحها الفلسفية وإطارها الأخلاقي الذي تتحرك داخله. يلوي القديمي أعناق، تعاريف كبار منظري الديمقراطية، بل ويقوّل  الإسلاميين-والسلفيين السعوديين خاصة- مالم يقولوه، بل وما يستحيل أن يتفوهوا به  (ص 34-35)، ليتأتى له دفنه الديمقراطية في صندوق اقتراع متوافقا مع  شرعة الإسلام.

على الجانب الآخر، فإن الأحمري يأتي بمطولات مدح في الحرية والديمقراطية وحسناتهما.يقدم مفهومه للحرية بطريقة واضحة ومباشرة بحيث كونها “إطلاق قدرات الإنسان للتعبير عن ذاته ومصالحه” و”خلاص من القيود السياسية والفكرية” هذا الوضوح سرعان مايتحول لـ”مخاتلة”-كما يعبر علي العميم-بل ونكوص على العقبين، عند سؤال الأحمري عن حكم الردة في الإسلام؟ فبين إطلاقه لعموميات من قبيل “فيها بحث”و “تحتاج لنقاش” وبين هروبه للقول بأنه “ليس مفتيا”، يتخلى عن دوره كـ”مفكر” -كما يعرف نفسه وكما يريد اتباعه تعميده- ويتحول لمجرد باحث عن فتوى لحل كل المعضلات الفكرية، بين فكي كماشة حلال/حرام. هذا التقلب لدى الأحمري يتكرر حين نراه يقدم الحرية في كتابه الصادر بعد مخاتلته أعلاه، نراه يقدمها بنهج شعاراتي/ وعظي. ففي جزء من موعظته عن الحرية يصرح “إن قوله بأولوية الحرية[ يعني القرضاوي] هو استبصار لحقيقة الشريعة وجوهر الدين الإسلامي فمن كان غارقا في الظلم، منهوبا ومستبدا في رأيه وبقراره، كيف نطالبه ونطلب منه تطبيق الأحكام الشرعية وهو معدوم الحرية، ويغوى عن حقيقتها” وهي موعظة تقول كل شي ولاشي في ذات الوقت؛ بل ولو اطرّد الأحمري واتسق مع شواهده، لوجد أن القرضاوي لايمكن أن يقبل تعريف الأحمري للحرية الوارد سابقا، وسيجده يفتيه بُحرمة الردة في الإسلام ووجوب تطبيق حد القتل على من ثبت خروجه من الإسلام.

في كتابه المشار إليه آنفا، يخنق الأحمري الديمقراطية، ويحصر وجودها بالميدان السياسي فقط، حين يعرفها بأنها”حق الناس في تنصيب الحاكم ونقده وعزله، فحيث لاتجد هذا الثلاثي فلاديمقراطية”(57) ويعيد تأكيد رأيه، لكن هذه المرة متهربا من مصطلح الديمقراطية، ومفضلا عليه كلمة “الانتخابات”(٢٧٧) . يختزل الأحمري، الديمقراطية من كونها فضاء حر تجد جذورها وامتدادها في السوسيو ثقافي والاقتصادي، وتصل أغصانها للميدان السياسي، إلى حيث تصبح بتعبيره مجرد “نظرية في الإدارة فقط”! . وبهذا كفت الديمقراطية أن تكون قيمة، لتنحط لمجرد إجراء؛ وهذا الإجراء بدوره تنحط شموليته ليصبح شأنا اداريا ضيق المسمات.

يتعاطى تيار التنوير الإسلامي في السعودية, ممثلا بـ(نواف القديمي) و(د.محمد الأحمري)- ويمكن إضافة د. محمد العبدالكريم  وعبدالله المالكي, وقد منعت خشية التكرار وضيق المساحة من تناول ماكتبا- مع الحرية والديمقراطية بوصفهما لاتتجاوز االشأن السياسي. ماعدا ذلك، فإن الإصرار على تغطية وجهيهما وقدميهما وليس فقط إلباسهما حجاب شرعيا هو سيد الموقف. لتغدوان درتان مصانتان. يتحدث عنهما بكل الفضائل والمحاسن، لكنه يحاذر من الاقتراب منهما، وإن دنا منهما بليل مقال، لم يظهر عليه الصبح إلا وسود آخرا في التبرؤ مما يعده سوء فهم(كما لدى القديمي)، وإن سرد فيهما المطولات الحِسان فإنه لايتوانى عن التطهر منهما بين يدي مفت عند التعاطي مع تمثلاتهما على ارض الواقع( كما في تعاطي الأحمري).

يطبع التيار التنويري  بشكل عام، وطرحه تجاه مفهومي الحرية والديمقراطية بشكل خاص، سمات اربع: ١- الإضطراب والتشويش،٢- الإقلاع من الفراغ والسقوط فيه،٣- السردية، و4- التلفيقية الزائفة.

1-الاضطراب والتشويش: من المفهوم ارتباك أي طرح فكري جديد؛ بل من المستساغ تنقل حاملي هذا الطرح من طرف لنقيضه، باعتبار هذا الطرح محاولات للإجابة عن أسئلة جديدة. او باعتباره سعي لتفكيك مااستقر في الذهن كقناعات، لكن عوادي الحياة وتقلبات الواقع، احالتها لتناقضات تآكل بأطراف معتنقها. كل هذا وأكثر يمكن ملاحظته في بدايات نشؤ التنوير في الداخل السعودي لكن مالايمكن تجاوزه، ويتطلب الوقوف عنده هو عجز هذا التيار عن بناء جسم نظري متماسك في معالجته لإشكاليات معاصرة ملحة-كقضية الدقرطة والحرية وحدودهما، والمواطنة وتطبيقاتها- بل أن رواد هذا التيار يطرحون أفكارهم بطريقة ضبابية، تعمل كثاني أكسيد الكربون، لن تخنق إلا مُنتجيها، قبل متلقيها.بل انه إضافة لغياب الجسم النظري، هناك-فيما وصل إليه بحثي-غياب لأي أرضية، يمكن لتيار التنوير أن يقيم عليها أعمدة مذهب فكري يستأهل الانتظار والترقب. فلقد يجوز الاستنتاج،أن تيار التنوير نشأ بسبب التيه، وفي سعي للبحث عن دروب تخرجه من تيهه؛ لكنه  استمر في التيه؛ وبلغ من تيهه أن عاد يبحث عن مشروعية طرحه لدى السلفيين,خصوم اليوم/ رفاق الأمس. فهاهو الأحمري في كتابه المذكور سابقا، يحشد الشواهد-مفرغة من معانيها الساطعة في منطوقها ومجتثا لها من إطارها المرجعي- من تراث السلفية، ومن رموزها في القرن الماضي- ابن سعدي، ابن باز، ابن عثيمين- للقول بإسلامية الديمقراطية- او الانتخاب كما يفضل التسمية-(كما في ص 122،123 و241)، ونجد القديمي يستصرخ السلفيين في كتابه “أشواق الحرية” ناعيا عليهم غياب أي تأصيل للديمقراطية، ومستصرخا إياهم بقول فصل حول ضرورتها وحِلها شرعا.

2-الإنطلاق من الفراغ والسقوط فيه: الطرح التنويري في السعودية، يوحي لغير المطلع بأن كثير من الإشكالات التي يتعرض لها رواده، هي إشكالات حديثة الزمان- وإن اقرينا بحداثتها مكانيا فقط-. سبب ذلك هو إعراض رواد هذا التيار من البناء على أو حتى الاستفادة من إنتاج فكري وتأصيل ديني ضخم يمتد من عصر النهضة إلى يومنا هذا. مدارس فكرية كبرى، قدمت ولازالت تقدم معالجات معمقة لمثل هذه القضايا وأكثر. فليس مبحث حرية التدين في الإسلام، بالجديد حتى يتجاهله الأحمري، ويلتمس الفصل فيه لدى عالم دين. وليست إشكالية الجمع بين الديمقراطية والإسلام بحادثة، حتى يتلاعب إتباع التنوير بفتاوى رموز السلفية، ويحملوها مايستحيل أن تحتمله. ولانخال افراد هذا التيار يجهلون ماقُدم، ولايزال يُقدم، في الفكر العربي بجميع مراحله، خاصة بعد هزيمة 1967؛والمدارس الفكرية التي عادت للتراث العربي الإسلامي إما تستلهمه او تفككه( مدرسة الجابري)، او تعيد تكامليته(كما لدى طه عبدالرحمن)، او تضعه في عربة قطار التاريخانية( اتجاه عبدالله العروي).. الخ.  فشل البناء التراكمي هذا، رافقه فشل في إعادة تكييف بعض هذا الأطروحات الفكرية، وتأطيرها لتتناسب مع قضايا محلية.

3-السردية: نستخدم هذه الصفة بمعنى “الإخبار” وما يتضمنه ذلك من عرض لأفعال، احداث، شخوص .عملية العرض هذه تقع على الضد من فعل النقد؛ وهذه إحدى سلبيات تعاطي هذا التيار مع قضاياه. فهناك حالة غياب شبه تامة، لأي تحليل، تفسير، تفكيك، أو حتى عملية وصف، باعتبارها ابسط مراحل النقد. يقابل هذا الغياب حضور طاغ لنقل معلومات أو انطباعات شخصية، وتقديم لهما بطريقة رغبوية بل وحكائية. ونجد تعبير “قال الأحمري/ القديمي” اصح واصدق دلالة من ” كتب الأحمري/ القديمي “. وكما في إي انطباع شخصي، فإنه عرضة للتبدل اللحظي بين فصل وآخر؛ وهذا مانجده مثلا لدى الأحمرى في ديمقراطية القبيلة في مدخل (ص21-29) كتابه” الديمقراطية: الجذور وإشكالية الجذور” ، ولاديمقراطيتها في فصل “الديمقراطية والقبيلة”(ص165-172) !!!ونجده لدى القديمي في “أشواق الحرية” لدى إقراره برفض السلفية للديمقراطية(ص24)، وبعد بضع صفحات فقط يقول بأن السلفيين يقرون الاختيار والانتخاب- نعيد التذكير بأن الديمقراطية تعني لدى القديمي الانتخاب فقط- (35).

4- التلفيقية الزائفة: في سعيهم للموائمة بين أصول الإسلام, ومكتسبات الحداثة الغربية، يقوم التنويريون بعملية “قص” لهذا المبدأ الإسلامي, او ذاك و”لصقه” مع منتج فكري غربي، او العكس، بإسلوب فج. يتبع ذلك الترويج للتصور “الخديّج” الناشئ من هذه الممارسة، باعتباره توفيقا ناجحا. هذه التوفيقية ماتلبث، عند مسألتها، أن تنحل في تلفيقية زائفة. مثل إفراغ مصطلحي الديمقراطية والحرية من دلالتهما المفهومية وحمولاتهما الثقافية، والسياقات التي نشأ فيها، والتحولات التي مرت بهما؛ وتقديمهما كـ”لفظة” يمكن الاستعاضة عنها بمرادف آخر من قواميس اللغة؛ فتتحول الديمقراطية تارة رديف للشورى, وأخرى للانتخاب، وتصبح الحرية كائن هلاميا غير ذي ملامح، ودون روح.

واجه التنوير في بدايات ظهوره إشكالية تمييز ذاته عن بقية التيارات في الداخل السعودي.ظهرت هذه الإشكالية في شكل اضطراب اختيار اسم للتيار الوليد؛فمن اتخاذ “العصرانية” طلاءا إلى رفع “العقلانية” لافتة تعريف، تبعهما الاستقرار على مسمى “التنوير” مع إلحاق صفة الإسلامية به كمرحلة أخيرة. هذا اللاستقرار في اختيار مسمى ذا دلالة على خط هذا التيار يمكن إعادته : اولا “للخروج من ربقة السلفية التقليدية والإصلاحية السياسية ذات البعد السياسي. ثانيا للارتباك الذي عاشه مبدعي هذا الخط في بدايات تخليهم إما عن السلفية أو انشقاقهم عن تيار الصحوة بشكل عام. ثالثا:بسبب الهجوم الشديد الذي واجهه هؤلاء المتحولون للتنوير من قبل رفقاء الأمس، وما تثيره هذا المصطلحات في بيئة سلفية تقليدية  ويمكن الإضافة رابعا: للفوضى الفكرية التي  كان يعانيها أهل التنوير في بداية تحولهم, والتي –للأسف- لازالت تطبع اتجاههم. لذا كانت صفة “الإسلامية” لازمة لابد منها لتخفيف حدة الهجوم، والإبانة عن إقامتهم تحت مظلة الإسلامية،وإن اختلفت رؤيتهم مع محتكري الإقامة تحت هذه المظلة.

كانت إحدى مواجهات تيار التنوير تدور مع حملة السلفية . ابتعد الفريقين عن مفهومي الفتل والنقض-بالاستعارة من قاموس الشعر- في عرض أفكارهم وروائهم، وسادت لغة “البندقية” كما عبر احدهم. فأتت ثنائية الهجوم/ الدفاع في المشهد الفكري السعودي، محملة بمعنيي الاستئصال/ الحماية. يعمد المهاجم لمحاولة “تغييب” مخالفه، و”تطهير” المشهد من وجوده، و”تصفية” أفكاره. فيما يشتغل المدافع بـ”تسفيه” منتقده، والاشتغال على “تنقية” المجال العام من الأفكار التي لايرغب، والفزعة “لرفيق السلاح” لمجرد الصحبة. لذا تتحول كثير من السجالات الفكرية، لحروب استنزاف، ومحاولات كسر عصي؛ تستخدم فيها أدوات/أسلحة من خارج مجال الصراع الفكري. ربما يعد مثل هذا الاستنتاج قاسيا، وحتى لايكون نوعا من المصادرة على المطلوب، فإن عرض العلاقة البينة، الحاكمة للتفاعل الحادث تيار التنوير مع المدرسة السلفية ستكون-برأينا- هي المثال الأبلغ لامتحان هذه الدعوى.

ويجدر التنبيه،ابتداءا، أن  هذا الجزء من المقال  ليس منصرفا للبحث في رؤية مدرسة السلفية التقليدية لهذه الفكرة او تلك، او هذا المفهوم او ذاك، فهذا مما يضيق به المقام، وإنما سينصب الاهتمام على نوع التفاعل الحادث بين تياري التنوير وتيار السلفية التقليدية.

يرفع اتباع السلفية  رفضهم لأطروحات التنويرون لمستوى المفاصلة الحادة بين حق تمثله السلفية، وباطل يروج له التنوير الإسلامي. فيما يُعرّض اهل التنوير بما يسمونه “سفاهة” السلفية و”دكتاتوريتها الفكرية” وتسببها في “إنتاج الأزمات وإعاقة النهوض الحضاري ” ومحاولة السلفية فرض نفسها “بالعنف والإكراه والقتل”.

هاهو الدكتور بندر الشويقي يرسم خط المفاصلة بإصداره حكم التكفير على احد المحسوبين على التنوير، لدعوة هذا الأخير للأخذ بالديمقراطية ويصف المنادين بسيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة  “بشاربين للكأس  الليبرالية التي أسكرت عقولهم وقلوبهم.ويُرجح آخر، كفة المفاصلة بدمغها بمدماك القطيعة النهائي واصفا مقولة التنويري التي تنص على “أن الشعب إذا أخطأ واختار غير الشرع، فهذا خيار محترم يجب الرضوخ له” بأنها بحد ذاتها عقيدة شركية. فيما يتعاطى الباحث فهد العجلان مع مقولة “سيادة الأمة مقدمة على تطبيق الشريعة” بحدة اقل فإنه لايعدها سوى سعي لـ”أسلمة العلمانية” عبر “التلفيق بين النظام السياسي في الإسلام، والفلسفة العلمانية”. 

هذا الهجوم السلفي، يقابله تنقص مضاد وتسفيه حاد من قبل اهل التنوير. فالأحمري يصف ماعدا الديمقراطية بالوثنية، ويصم معارضيها بـ”الدكتاتورية الفردية” و “سخفاء وضعفاء وجهلة وملبّس عليهم، وأهل شهادات من الأميين يرون في الحرية والديمقراطية كلمات غريبة وكريهة، وأفكارا غير مفهومة، أو عليها تحفظات وحُجُب ينسجونها من جهلهم لا نهاية لها، أو يرون فيها عزة لا تنال، فيستعيضون عن العزة والحرية والمسؤولية برغد العبودية.”. بينما يضيف عبدالله المالكي لهذا التسفيه، شناعة الاتهامات الدموية، وذلك بنصه أن الأمة إذا اختارت “تعطيل الشريعة” فإن هناك طريقين للتعاطي مع ذلك : الأول اتجاه سلمي وعبر وسائل مدنية تمثله “نحن” بتعبيره، والثاني  يمثله اولئك-تشمل السلفيين- المعترضين  على “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة” الا وهو “العنف والقوة والإكراه والقتل”. فيما يأتي موقف القديمي إتهاميا بإعاقة التيار السلفي “للنهوض الحضاري” و”بإنتاج التأزمات في المجتمع”، لكنه موقف مالبث أن تحول واصبح تصالحيا، من حيث رفضه حسبان رافضي الديمقراطية على “مؤيدي الاستبداد” وثانيا من إيمانه بوجود مساحة مشتركة قابلة للاستغلال والتصالح لصياغة مشروع موحد بين “السلفيين “ و”وبقية الاسلاميين” في المسار السياسي  وتتمثل في اتفاقهم ع “اولوية الاختيار” و”مشروعية المراقبة والمحاسبة” و”مشروعية الانتخابات”

رغم أن “مهمة توطين التنوير”،وابتداع طريق ثالث اعتمادا على”التوفيقية في الحالة السعودية” انتهت إلى ”انهيارات فكرية”؛ فإن إنتفاضات الربيع العربي، زودت التنويرين ماتتكفل المشيمة بإعطائه  للجنين.لكن معتنقي التنوير أحالوا الحبل السري الواصل بالربيع (المشيمة) لخليط من الوعظية والشاعرية؛ وهو مايجعل  انتظار صرخة إعلان ولادة جديد للتنوير مهددة بصدمة اكتشاف أن الحمل كاذب أو على الأقل أُجهض. رموز تنويرية مهمة ذات تكوين ديني  وتماس مع معطيات الفكر المعاصر معتبَريَن ،غائبة عن مهمة توطينه. من هذه الرموز، من تحكمه إكراهات اجتماعية/ دينية، ومنهم من تضغط عليه أجواء ملوثة تمنعه أن يتنفس، ومنهم من يمنعه “حاجز التردد والخوف”. استمرار هذا الغياب لن يعني سوا تقبلهم العزاء في التنوير، أو على الأقل إبقائه تحت أجهزة التنفس الصناعي الخارجية- تطورات الربيع العربي مثالا-

اتخاذ التنويريون ترديد “الشعارات بعناوين حالمة” منهجا، ربما يكون مجديا في ميادين غير ميدان الأفكار. معالجة الأفكار، وتشريح الإشكاليات،وسبر أغوارها، هو أشبه بـ”سباق المسافات الطويلة” يحتاج اطرادا، ويتطلب وقتا، ويستلزم تفكيك، وتحليل، وصنع أرضية صلبة، ولن يَنتُج ويُنتج كل هذا إلا بالاستناد على مبدأ “التراكم” كحجر أساس.

—–

 انظر على سبيل المثال: ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة.

 في نشؤ التنوير وأهدافه انظر خالد المشوح: التيارات الدينية في السعودية. يوسف الديني: التنوير الإسلامي في السعودية: ضمن كتاب الأخوان المسلمون في السعودية. وكذلك  عبدالعزيز الخضر: عقل التنوير في كتابه “السعودية: سيرة دولة ومجتمع”.

 حوار عن الصحوة والتنوير والإصلاح: في كتابه المحافضون والإصلاحيون.

4- الديمقراطية: الجذور وإشكالية التتطبيق، ص 257.

 مقال“على هامش فتوى البراك في خالص جلبي”. مجلة العصر الإلكترونية، في10-05-2010.

 مقال”هامش الحرية، والورطة أمام النص الشرعي”. مجلة العصر الإلكترونية، في 5-6-2010.

 مقال بعنوان “من يواجه علمنة المجتمع” في كتابه “المحافظون والإصلاحيون.”

 مقال بعنوان “من يقف في وجه إنحراف الشباب” في “المحافظون والإصلاحيون”.

 حوار مع موقع اخوان اونلاين، في 28-02-2004، وكذلك راجع الحوار المشار إليه في الهامش 3

 ذات المرجع المذكور في الهامش 8

 ذات المرجع المشار إليه في الهامش 3, ص 233

 نستند على الطبعة الخامسة, الشبكة العربية للأبحاث والنشر. بيروت 2011

 عبدالله العروي: مفهوم الحرية، ص 141

 حلقة من برنامج في العمق على فضائية الجزيرة بعنوان”الحرية في الفكر الإسلامي”، بتاريخ 20-12-210. متوفر على اليوتيوب.

 علي العميم، “مناقشة مفهوم الحرية عند محمد حامد الأحمري”. صحيفة الشرق الاوسط، في16-03-2012.

 محمد الاحمري: الديمقراطية وإشكالية الجذور، ص140

17 يطلق القرضاوي اقوال عمومية من مثل “الحرية مقدم على تطبيق الشريعة” ويفتي بقتل المرتد أيضا. وليس هنا موضع البحث في معنى الحرية لديه، مع الجزم بأنها لاتوافق مراد الأحمري.

 يكرر هذا التعريف بتعبير مختلف في حلقة من برنامج في العمق على فضائية الجزيرة تحت عنوان”الديمقراطية والشريعة” بتاريخ 9-04-2012. متوفر على اليوتيوب.

 ذات المرجع المشار إليه في الهامش 14.

 يقول ناقد مميز عن بدايات التنوير أنها مرحلة” قلق فكري إيجابي ووعي بأهمية المراجعات، بعد شعور كثير من الإسلاميين بإخفاق خطاب المرحلة الماضية” ص 594، وكان ابرز ملامح هذه المرحلة” التسرع في تغيير الآراء والاقتناع المتعجل والانتقال من فكرد إلى أخرى قبل نضجها” ص 596. عبدالعزيز الخضر: سيرة دولة ومجتمع. الطبعة الثانية.

 جيرالد برنس، المصطلح السردي، ترجمة عابد خزندار. المشروع القومي للترجمة. القاهرة، 2003، ط 1، ص 145.

 جيرار جنيت: حدود السرد، ترجمة بنعيسى بو حمالة، طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط 1992،ط1 ص 75.

 بول ريكور: الزمان والسرد، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم. دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2006، ط1، ص 155.

 يوسف الديني. مصدر سابق.252.

 يوسف الديني. مصدر سابق 263.

 انظر مثلا: ناصر الحنيني: التطرف المسكوت عنه: أصول الفكر العصراني. دار التوحيد للنشر والتوزيع.

 نواف القديمي. مقال “تعقيبا على الشيخ بندر الشويقي: أحاديث الديمقراطية والعدل وأشواق الحرية 1/2. مجلة العصر الإلكترونية، في 9-12-2008. وكرر ذكر ذلك في كتابه “الإصلاحيون والمحافضون” ص 183.

 بندر الشويقي: مقال “ليبرالية بقشرة إسلامية” في كتاب “سيادة الشريعة: المعلوم من الدين بالضرورة” ص 321.

 عبدالوهاب آل غطيف: مقال “من الذي يطبق الشريعة، الأمة ام الفرد؟”. المصدر السابق، ص 131. ومقال ” شرك الأولين وشرك الديمقراطيين”. مجلة رؤى فكرية، في 2-07-1433.

 فهد العجلان: مقال “أسلمة العلمانية”. مجلة رؤى فكرية الالكترونية، في 08-03-1432

 محمد الأحمري: مقال” إنتصار الديمقراطية على الوثنية في الإنتخابات الأمريكية”.مجلة العصر الإلكترونية، في 10-11-2008.

 عبدالله المالكي: كتاب “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة”، ص 154.

 حوار مع موقع اخوان اونلاين، في 28-02-2004.

 اشواق الحرية، ص 131.

 نفس المصدر،ص 35. بديهي أن نسوق هذه النقول دون الدخول في البحث عن انسجام صاحب كل قول مع ذاته.

 عبدالعزيز الخضر: مقال” تلك المهمة، مهمة توطين التنوير”، صحيفة الشرق الأوسط، في 4-04-2005

 عبدالعزيز الخضر: مقال” مستقبل التوفيقية في الحالة السعودية”، صحيفة الشرق الأوسط، في 2-05-2005

 عبدالعزيز الخضر: السعودية: سيرة دولة ومجتمع، ص 600.

 يوسف الديني، مصدر سابق، ص 274.

 نفس المصدر السابق.

 عنوان إحدى روايات عبدالرحمن منيف.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق