الكتلة الوطنية: الإصلاح السياسي أولا

الكاتب:

6 يونيو, 2013 لاتوجد تعليقات

في السعودية تبدو القوى الوطنية كمن يحاول الخروج من غرفة مظلمة عبر باب دوار، ما إن تهمّ للخروج منها حتى تجد نفسها تعود إليها من جديد. تدور هي في حلقة مفرغة، لا تتعلم كثيرًا من التاريخ ولا تفيد من اللحظات المفصلية التي تشكل لها فرصة سانحة للتقدم خطوة باتجاه الإصلاح السياسي.

أود التنبيه أولا أن ليس غرضنا هنا الحديث المُفصل عن جميع القوى الوطنية الفاعلة في الفضاء العام وتحليل سلوكها ومواقفها وتكتيكاتها السياسية، وخططها الاستراتيجية إن كانت تملك خططا، ولا تقديمها للمحاكمة بكل تأكيد، لكننا نطلب من هذه القوى دعوة لمراجعة نقدية للذات، بالتركيز على العامين الفارطين بغية الوقوف على أهمّ ما أُنجِز خلال موجة الربيع العربي، وبين ما ينبغي العمل عليه في المستقبل لتلافي معضلة الدوران على الذات والعودة للمربع الأول.

يُلاحظ كل من يُراقب الساحة السعودية أنها تتأثر كثيرًا فيما يحدث حولها من أحداث في محيطها العربي، سواً أ كان التأثير سلبًا أم إيجابًا، وهذا شيء طبيعي لشعب يعيش ضمن أمة. الآن بغض النظر عن حجم هذا التأثير ومآلاته، إلا أن كل القوى الوطنية تتفاعل معه وتحاول الاستفادة منه وتجييره لصالحها في كسب رصيد أكبر من رأس المال الاجتماعي، ويلاحظ المراقب القريب للساحة السعودية كيف أن هذه القوى تخوض معارك ضارية في سبيل التفوق على الآخرين، وإقصاء المنافسين أو تعطيل تمددهم في المجتمع، وتجيير كل ما يحدث محليًّا وإقليميًّا لصالح مشروعها الداخلي، وهذا شيء طبيعي في العمل السياسي، ومفهوم أيضًا، لكن هذه القوى المتنوعة والمتنافسة تدور في حلقة مفرغة كما سبق وأشرنا، لأنها لا تنجح غالبًا في مواجهة السلطة والتأثير في قراراتها الكبرى منفردة دون التعاون مع قوى وطنية أخرى، وهذا الاستنتاج اكتشفه الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا في كتابه “زمن الصحوة” وإن كان ستيفان قد بالغ في إبراز تقاطع الجماعات الدينية والثقافية في لحظة تاريخية على حساب دراسة سكيولوجيا السلطة في التعامل مع القوى الوطنية وتفضيلها لخيار الاستفراد بكل قوة اجتماعية على حده، وبتمييع المطالب الإصلاحية وتحويلها لمطالب فئوية وتفريغها من أي محتوى وطني كما حدث مع المعارضة الشيعية في مطلع التسعينيات الميلادية.

ما من شك بأن موجة الربيع القادمة من المغرب العربي شكلت صدمة أربكت السلطة، كما شكلت فرصة للقوى الوطنية من أجل التفاهم و حشد مزيد من التأييد لمطالب الإصلاح السياسي، حيث ارتفع سقف المطالب، وهو ما عبرت عنه قيادات هذه القوى في مواقع التواصل الاجتماعي وفي البيانات الإصلاحية المشتركة التي مهرها توقيع قوى وطنية متنوعة وفاعلة، إلا أن هذه الفرحة لم تكتمل، حيث بددت موجة الربيع القادمة من المشرق العربي كل زخات الأمل التي حملتها الموجة الأولى، بل نكاد نجازف بالقول بأن السلطة تستطيع اليوم أن تنام مُنتشية وهي تشاهد مآلات الربيع العربي، وما خلفه من صراع مذهبي ومن نبش للخلافات الإيديولوجية بين القوى الوطنية حتى تكاد أن تعصف بالحد الأدني من التفاهم بينها على قضايا الإصلاح السياسي.

بعد كل هذا التفصيل تبدو المرحلة الحالية وكأنها لحظة “انسداد تاريخي” على المستوى العربي عمومًا وعلى المستوى الوطني خصوصًا، وهي تعود في معظمها لعدة أسباب منها ما هو إجباري قادم عن طريق سياسات قوى إقليمية أكبر من قدرت هذه القوى، ومنها ما هو اختياري راجع لسوء تقدير اللحظة التاريخية، ولضعف الثقافة السياسية المحلية التي صنعها الاستبداد. إن التفاعل مع القضايا الأقليمية لا يعني بالضرورة الرضوخ لمنطق المحاور المتصارعة في المنطقة، والاستسلام لخطابها التعبوي الطائفي والتسليم بلعبة الثنائيات الدينية بدلاً من التحالفات السياسية.

لكن لكي نتجاوز محنة الجمود القائمة الآن بتنا مطالبين بالتفكير الجدي في بناء كتلة وطنية أو كتلة تاريخية بحسب تعبير غرامشي تسعى إلى التغيير الشامل، وتعطي الأولوية  للإصلاح السياسي وإلى إنهاء حكم الفرد، والانتقال نحو نظام ديمقراطي عادل، و أن تضع هذه الكتلة هذا الهدف نصب عينيها، وأن تعمل على مراكمة القوة من خلال خلق مسببات النجاح، عبر تهيئة الأرضية لاحتضان القوى الوطنية المتنوعة والمؤمنة بالديمقراطية في مشروع إصلاحي وطني كبير، لا يستثني أحدًا إلا أعداء الديمقراطية والمنحازين علانية للاستبداد، وهو مشروع ديمقراطي تعددي قادر في نفس الوقت على استنهاض طاقات المجتمع وتوجييها نحو تحقيق المصلحة العامة للأمة وهذا متعذر في الوقت الراهن، بسبب الانشغال بمعارك عبثية لا تشكل القوى الوطنية سوى حطبٍ لنيرانها، ولن يزيد الانغماس فيها سوى في إهدار الفرص.

سيكون على القوى الوطنية المنظوية ضمن هذه الكتلة الوطنية واجب تجاوز الخلافات التاريخية أو تأجيلها على الأقل، وإغلاق باب محاكمة النويا، وعدم المبالغة في الخصومة الفكرية والمزايدة على الآخرين، وذلك لا يتم إلا من خلال إيجاد حد أدنى من التوافق على حزمة من الإصلاحات السياسية الجذرية، كتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق مبدأ المواطنة واستقلال القضاء والسعي نحو فصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وتعميد إعلام تعددي حر، حتى يتسنى لهذه القوى ضمان المساهمة الفعالة في الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الشعب وفي فتح باب المساواة في المنافسة السياسية أمام الجميع.

إن القوى الوطنية أمام لحظة مفصلية يتوجب معها إزالة اللبس حول قضايا باتت تهدد السلم الأهلي. وإن عليها عبء حمل راية الإصلاح السياسي، فهي لحظة تاريخية لا يمكن معها قبول التخاذل أو النكوص تحت ذريعة ضغط الجمهور أو مصالح القوى الخارجية، فإما أن تتحمل القوى الوطنية المسؤولية وأن تُقدم على تقديم تنازلات لصالح المصلحة الوطنية المشتركة وإما الاستسلام إلى الضغوط وتفويت فرصة جديدة قد لا تتكر مجدداً.

خاص بوقع المقال

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق