أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيوية ليست دينا يُتبع

الكاتب:

15 أبريل, 2013 لاتوجد تعليقات

جُبلت الأمم على تعظيم قادتها وإضفاء نوع من الخصوصية على أحاديثهم وأفعالهم, وهذا الإكبار قد يتحول في لحظة ما إلى “أسطرة” ما لم يتداركه العقل الواعي بالخطر الذي ينتظر ثقافة الأمة وإبداع أبنائها إن هي استمرت في المسير قدما في هذه “الأسطرة”, وحينها يتنبه العقل الواعي إلى أن الحل هو تسييج المنطقة الخاصة بهؤلاء العظماء قبل أن يسيجوا هم عقولنا بفهمهم، ويكبلوا زماننا بمقتضيات زمانهم، وهذه الشخصيات كثيرة ولن نجدها في كل ملة فقط بل في كل إيديولوجيا أيضا فلو تأملنا لوجدنا أن المؤسسين للإيديولوجيات الكبرى تضفى على أقوالهم قدسية من أتباعهم الأوائل حتى يأتي من يخرق هذه القدسية.

ولأننا مسلمون نطمح إلى طاعة الله ورسوله ما استطعنا، ونطمح إلى أن نجتنب مخالفة أمرهم يجد المسلمون في أنفسهم حرجا حينما يريدون بناء نهضتهم المستوفية لروح الحداثة والمستندة إلى قيم العدالة ويرجع ذلك في جزء منه -كما نعتقد- إلى عدم التفريق بين أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتصرفاته التي فعلها بمقتضى التشريع أو الفتوى أو القضاء أو الإمارة أو حال الهدي والإرشاد أو حال المصالحة بين الناس أو حالة الإشارة على المستشير أو حالة النصيحة أو حال طلب حمل النفوس على الأكمل أو حال تعليم الحقائق العالية أو حال التأديب أو حال الجبلة وما تقتضيه الحياة المادية _وقد ذكر هذه الأحوال الإمام ابن عاشور وفصل فيها تفصيلا ممتاز_

ورغم كثرة المتحدثين عن هذا التفريق إلا أنه ظل الاستنتاج المبني على هذه القواعد محدودا ومكبلا بالأقوال المذهبية وقواعدها في الاستنباط وسيتبين لنا ذلك لاحقا, وكما هو معلوم فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن رسولا مبلغا عن الله سبحانه في كل تصرفاته فقد كان رئيسا للدولة و أميرا للجيش وقبل كل شيء هو إنسان لديه تجربته البشرية وتصوراته الخاصة للصالح العام التي لا ترتبط بالتشريع للأمة, ومن المقرر في الشريعة الإسلامية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تصرفاته المتعلقة بالدنيا ليس معصوما، فقد تصيب هذه الأقوال والتصرفات وقد لا تصيب فمن الأمثلة التي أصاب فيها رأيه -صلى الله عليه وسلم- حينما أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب, فهذه الطريقة العسكرية أثبتت جدواها وصدت المشركين عن المدينة, وأما المثال الشهير لنوع الاجتهادات الدنيوية التي قالها رسول الله -صلى عليه وسلم- ولم توافق ما أراده من مصلحة هو حديث “التأبير” ونصه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ” مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح, قال: فخرج شيصا, فمر بهم فقال : ما لنخلكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا.. قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم” فنرى في هذا الحديث فصلا واضحا بين دور النبي صلى الله عليه وسلم الديني باعتباره مبلغا عن الله سبحانه وبين دوره البشري الذي يتبنى في أمور الدنيا تصوراته الخاصة ورؤاه المبنية على ثقافته البشرية المشروط تحصيلها بحدود الزمان والمكان والقدرة البشرية, وكما يبدو لمن تأمل السيرة أن هذه النقطة _أقصد توسيع تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله لتكون كلها صدرت من مقامه التشريعي_ كانت تخيف النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نهى عن كتابة حديثه وأكد بشريته في القضاء وأنه لا يحل حراما وإنما يحكم على نحو ما يسمع, لكن ما كان يخشاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع وعـُدَّت كل أقواله تشريعا عند البعض, ومن نظَّر في مخالفتها فقد خالف التشريع وعندما رسخ ذلك التصور ضاقت مساحة الحركة في الفكر الإسلامي وتخبط العقل الإسلامي في هاوية من الإشكاليات التي كان يمكن أن تحل ببساطة, وفي الحقيقة إن المذهب الشافعي والحنبلي هم أكثر من تضرر فكريا من هذا المبدأ الذي انطلقوا منه وما ذلك إلا لأنهم إذا وُجِدَ الحديث من النبي صلى  الله عليه وسلم أخذوا به على عمومه بخلاف المذهب الحنفي والمالكي الذين يجرون الاستحسان والاستصلاح إذا كان الحديث آحادا وفي لفظه عموم.

والآن سأطرح بعض الأحاديث التي رأى البعض أن النبي صلى الله عليه أصدرها باعتباره بشرا له أفكاره وتصوراته الخاصة وليس بناء على أنه مبلغ عن الله سبحانه, والضابط الذي نراه هو أن يكون القول أو التصرف الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة دنيوية ولم يترتب على مخالفته عقاب دنيوي أو أخروي:

ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحم الحمر الأهلية في غزوة خيبر فيقول ابن عباس رضي الله عنه معلقا على الحديث “لا أدري أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر من أجل أنه كان حمولة الناس, فكرهَ أن تذهب حمولتهم, أو حرمه يوم خيبر لحم الحمر الأهلية” وقد كان ابن عباس متوقفا في التحريم لأنه لم يثبت له أكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم للحمر الأهلية بصفته مشرعا ومبلغا عن الله سبحانه وتعالى أو كان ذلك بصفته قائدا عسكريا رأى أن المصلحة عدم ذبحها وأكلها لأنه حمولتهم؟! ومن هذا المثال يتضح أن الإشكالية القائمة بسبب التفريق في المقام الذي صدر منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت موجودة منذ عصر الصحابة.

وحينما فُتحت العراق كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين خيارين الخيار الأول أن يقسم الأرض المفتوحة كما تقسم الغنائم المنقولة فيكون للجنود أربعة أخماس ولبيت المال خمس واحد فقط وهذه هي الطريقة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقسيم أرض خيبر, وكان خيار عمر بن الخطاب الآخر أن يوثق الأرض المفتوحة للدولة الإسلامية ويضرب على أهلها الخراج و رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المصلحة تكون في الخيار الثاني وكان هذا رأي علي ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما, وقد واجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه معارضة شديدة ترتكز أن عمر مخالفٌ لمفهوم الآية الكريمة “واعلموا أنما ما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل” فالمفهوم أن ما غير الخمس هو للمقاتلين الذين شهدوا المعركة, ومخالف لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قسم أرض خيبر بين المقاتلة وكما يصر بعض الفقهاء أن تصرفات النبي صلى الله عليه تفسير للقرآن فتكون بذلك ملزمة لكن عمر بن الخطاب كان له قاعدة أخرى ينطلق منها وهي _كما نعتقد_ أن التصرفات المقصود بها المصلحة الدنيوية ولم يترتب على مخالفتها عقاب دنيوي أو أخروي هي ليست ملزمة شرعا, ورغم أن الزمان أثبت أن رأي عمر هو الراجح وأنه لو قسم الأرض للجنود ما بقي شيءٌ لمن يأتي بعدهم إلا أن الشافعي رأى أن الأرض توزع بين الجنود وأن هذا هو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحدٍ مخالفته حتى عمر.

ومثال ثالث هو أن الصحابة رضوان الله عليهم قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه يشكون له من غلاء الأسعار ويطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يسعَّر لهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر, وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال” ولذلك حرم التسعير كثير من الأئمة ورأوا أنه مخالفة صريحة لمنطوق رسول الله صلى الله عليه بأن خفض السعر ورفعه من الله سبحانه تعالى, لكن الإمام مالكا رحمه الله رأى إباحة التسعير ورأى أنه مرتبط باجتهاد الإمام, فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يبتغي أن يصيب المصلحة بقراره بصفته إماما وكان قراره صلى الله عليه وسلم مبنيا على أن التسعير سيضر الأمة ولذلك نهى عنه ورفض أن يعمل به, لكن ثبت في زماننا أن رفض قرار التسعير إنما هو إعلان للمنافسة بين التجار في أيهم ينهش محفظة الفرد أكثر من الآخر.

والمثال الأخير الذي أريد أن أطرحه هو قوله صلى الله عليه و سلم “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” وهذا الحديث في نظرنا إنما يقع تحت القاعدة السابقة أنه صلى الله عليه وسلم في أقواله الدنيوية ليس قطعا أن يصيب الحق والمصلحة التي ارتجاها كما في مسألة تأبير النخل, فكلاهما يتحدثان عن أمرٍ للدنيا وهو في هذا الحديث الإمامة السياسية وهناك تأبير النخل, وهذا الحديث منطبق على الضابط الذي اخترناه وهو أن يكون الأمر لأمرٍ دنيوي ولم يترتب على مخالفته عقاب دنيوي أو أخروي, والذي يجعلنا نرجح هذا الرأي هو أن القرآن حكى عن حكم بلقيس لليمن وأثنى عليها وعلى قومها ولم يشر النبي صلى الله عليه وسلم حينها أن هذا أمر محرم وكما هو معلوم تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وكل النصوص القرآنية التي تحدثت عن الإمامة لم تشر إلى جنس الحاكم بل فقط نصت على وجوب الشورى وتحقيق العدل وهذا الحديث  ورد ليصف حال أمة الفرس الذين كانوا في حرب طاحنة مع الروم وكان يجب أن يختاروا قائدا عسكريا جلدا ذا خبرة حربية وليس امرأة كانت بعيدة كل البعد عن الحروب وجاهلة باستراتيجياتها وخططها, وكان هذا هو رأي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ولكن الشيخ لم يشر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بوصفه بشرا مجتهدا في أمور الدنيا, فالنبي صلى الله عليه وسلم تصدر منه تصرفات وأقوال بوصفه بشرا مجتهدا في حدود طاقته وثقافته المتاحة, وليست تلك نقيصة بل كانت هي المصلحة في زمانه فلو أنه كان متعاليا على الثقافة العربية ومعطياتها في زمن الصحابة لعُدَّ نخبويا أكثر مما يجب ولاعتزله الناس ولم يستجيبوا لدعوته, لكنه بشر صلى الله عليه وسلم يصيب ويخطئ في أمر الدنيا ولا يعلم الغيب ولديه آراؤه السياسية التي ليست بالضرورة هي دين يـُتبع, وكما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رأي سياسي في أمر الدنيا قد يصيب وقد يخطئ كان له كذلك رأي طبي قد يصيب وقد يخطئ فإن أصاب لم تكن معجزة من الله سبحانه وتعالى لنبيه, وإنما  هي راجعة لخبرة النبي صلى الله عليه وسلم الطبية ومعرفته المتاحة أمامه وأمام العرب في زمانه و إن لم يصيب كان ذلك مجرد رأي بشري للنبي صلى الله عليه وسلم وليس دينا, فنحن لم نـُسلـِم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن بول الإبل فيه شفاء ولن نكفر لو قال الأطباء أن بول الإبل مضر، ولم نؤمن لأنه قال صلى الله عليه وسلم أن الطاعون وخز من الجن، ولاشك أن من يقول إن هذه الأقوال تشريع ودين يوقع المسلمين في حرج شديد ويفتح باب التشكيك في الإسلام على مصراعيه فالتاريخ أثبت نجاح المرأة في منصب سياسية وادارية عليا، فلو كانت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم وهي أن الأمم التي تعين امرأة ستفشل هي دين الإسلام حقا لثبت بطلان هذا القول ..وسرى هذا البطلان إلى بقية أحكام وأخبار الإسلام.

 خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق